2024-11-25 12:52 م

 تفاصيل خطة أميركية إسرائيلية لإدارة الحصار على القطاع

لا يهمّ بنيامين نتنياهو اتهامه بإجراء مناورات مفتوحة، هدفها الفعلي تعطيل محاولات الاتفاق على وقف لإطلاق النار وتبادل للأسرى في غزة. ولا يغيظه حتى اتهامه بأنه لا يطرح تصوّره لليوم التالي. ففي الحالتين، هو يقول للجميع، لشعبه وجيشه، وللفلسطينيين والعرب والعالم كله، إن برنامجه يقوم على فكرة واحدة وهدف واحد: تهجير سكان قطاع غزة!
السؤال، بالنسبة إلى العدو، لم يكن يوماً حول شريك أو حليف أو متحالف أو خلافه، بل السؤال الوحيد هو حول كيفية القيام بالعمل نفسه الذي قام به الصهاينة يوم ارتكبوا الجرائم التي مهّدت لإعلان كيانهم. في غزة، يتصرف العدو كما قال أحد قادته الميدانيين: لا يوجد إطلاق نار في عسقلان لأنه لم يعد هناك فلسطينيون. وإذا أردنا وقف النار من غزة فعلينا تحويلها إلى عسقلان أخرى!
وفق هذه العقيدة، يواصل العدو حربه المفتوحة منذ 7 تشرين الأول الماضي، والتي لا يبدو أنها ستنتهي قريباً. ويواجه مقاومة أسطورية من مقاتلين لم يبتلعهم البحر، وأناس يقيم الأحياء منهم فوق قبور الشهداء ولا يرحلون. لذلك، ليس لدى العدو أي برنامج عمل في المرحلة المقبلة، سوى تكريس الاحتلال، وفرض وقائع تعزّز فكرة أن غزة لم تعد مكاناً صالحاً للحياة، واستغلال كل فرصة لإخراج الناس منها، طوعاً أو غصباً.
غضب الشعوب المُعبَّر عنه بطرق مختلفة لم يتحوّل إلى فعل سياسي عند الحكومات في الغرب. ما تفعله أميركا، منذ اليوم الأول، لا يتجاوز «تحسين صورة المجرم وداعميه»، من الباب الإنساني، ولكن بطريقة تخدم فكرة الاحتلال وليس العكس.
بهذا المعنى، فإن ما يعرضه العدو في كل أوراق التفاوض، هدفه الفعلي تحرير أسراه من قبضة المقاومة، ثم العودة إلى حرب الإبادة مجدداً، وهو ما لا يعارضه الأميركيون مهما قالوا في تصريحاتهم.
الجديد، اليوم، لا يتعلق فقط بالهجوم الذي يُحضّر له ضد رفح، بل بإجراءات دائمة تجعل كل القطاع مقسّماً إلى مناطق، يهدف العدو إلى جعل قسم كبير منها غير صالح للسكن، ومنع الناس من العودة إليه نهائياً، مع بناء منطقة عسكرية فاصلة في وسط القطاع تمنع التواصل بين شماله وجنوبه إلا عبر نقاط عبور يسيطر عليها جيش الاحتلال.
وإلى المساعي الميدانية للعدو، قرّرت إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن السير خلف حكومة العدو، وهي «تؤمن» بأن الحل غير ممكن إلا بالقضاء على المقاومة في القطاع، ومنع أي دور لها في مستقبله أو في الإدارة الفلسطينية السياسية أو المدنية. وتريد أن تطلق في الأشهر المتبقية من ولاية بايدن حملة انتخابية عالمية تظهره بصورة «القائد الإنساني العالمي» الذي يعمل على مساعدة أبناء غزة ليقيهم شر الاحتلال ويمنع تحكّم المقاومة بمستقبلهم.
وعليه، قرّر بايدن أن يتولى الجيش الأميركي، بالتعاون مع الوكالة الأميركية للتنمية، إدارة عملية الممر الإنساني البحري الذي يتولى نقل المساعدات من قبرص إلى غزة عبر آليات يعدّها ويشرف عليها هذا الجيش، ويترك لقوات الاحتلال التحكم بنقاط الوصول عند الشاطئ، على أن يجد شريكاً غربياً، وهو يبحث الأمر مع الجانب البريطاني. وقد أجرت الإدارة الأميركية اتصالات ومارست ضغوطاً الشهر الماضي، وتوصّلت إلى خطوات عملية هي:
أولاً: إبلاغ قبرص بأن خطة «ألماثيا» التي عملت الحكومة القبرصية على إعدادها في الأشهر الخمسة الماضية، استُبدلت بعملية إنسانية، بإشراف أميركي، وأن ما يبقى من الخطة القبرصية هو استخدام مرفأ لارنكا كمركز للانطلاق وجمع المساعدات، والإبقاء على «صندوق ألماثيا» لدعم الممر البحري وتوفير تمويل له من أميركا وأوروبا والإمارات العربية المتحدة وقطر والكويت.
ثانياً: تكليف القيادة الوسطى في الجيش الأميركي ووزارة الدفاع الأميركية، بالتعاون مع وكالة التنمية الأميركية (USAID)، إعداد الخطوات العملانية للمشروع.
ثالثاً: الاتفاق مع منظمة الغذاء العالمي التابعة للأمم المتحدة (WFP) على المشاركة من خلال تولي توزيع المساعدات داخل قطاع غزة، من دون التعاون مع وكالة «الأونروا» الخاصة بشؤون اللاجئين. وقد بدا أن هناك اتفاقاً متكاملاً بين واشنطن ودولة الاحتلال على استكمال عملية الإجهاز على هذه الوكالة، ومنع أي عمل لها، حتى ولو حصلت على تمويل من جهات أخرى غير الولايات المتحدة.

استعدادات العدو على الأرض
في هذه الأثناء، بدأت حكومة العدو العمل على عدة مستويات، منها الجانب الميداني المتمثّل ببناء وضعية ميدانية على شاطئ غزة المقابل لمنطقة الوسط، والتي يمر عبرها الطريق الواصل بين الشارعين الساحلي (الرشيد) والشرقي (صلاح الدين)، وتُعرف بمنطقة «نيتساريم» حيث كانت المستوطنة الإسرائيلية الشهيرة. وقد أعدّ العدو خطة متكاملة، بدأ العمل بها منذ نحو شهرين، من خلال توسيع الطريق بين الغرب والشرق بعرض يتجاوز 60 متراً، وبناء أساسات خرسانية على جانبي الطريق المرصوف حالياً بالحصى، تمهيداً لرفع جدارين من الناحيتين الجنوبية والشمالية، لحجب الرؤية من الجانبين وإقفال كل الثغرات التي يمكن للأفراد استغلالها للتنقل بعيداً عن نقاط التفتيش.
وتوجد في تلك المنطقة حالياً مستوعبات يستخدمها الجنود، إلى جانب غرف ميدانية هي عبارة عن خيم عسكرية مع طاولات وكراسٍ خاصة بالجنود، فيما تنتشر الآليات في نقاط تمّ تجريفها ووضع سواتر ترابية من حولها للحماية، خصوصاً بعدما بدأت المقاومة منذ ثلاثة أسابيع، رفع مستوى عمليات القصف على هذه المنطقة بالصواريخ وقذائف الهاون. وتتولى وحدات هندسية بمشاركة قوة استخباراتية تجهيز البنية التحتية لإقامة نقاط تفتيش للعابرين وفق آلية العمل القائمة في الضفة الغربية وعند مناطق الدخول إلى أراضي الـ 48، من خلال اعتماد معبر فردي هو عبارة عن مسار مقفل بالحديد من الجانبين، وضيّق بما لا يسمح بمرور أكثر من شخص، ثم عبور بوابات حديدية لا تسمح للعابر بالعودة من النقطة نفسها، على أن يخضع العابرون لنظام التعرّف الرقمي عبر تجهيزات رقمية ضخمة مرتبطة ببرامج خاصة تحتوي على داتا الفلسطينيين، وأخذ بصمات الوجه واليدين، إضافة إلى صورة شاملة تسمح بالتعرّف إلى الطول والوزن والعلامات الفارقة.
وفي الوقت نفسه، يستكمل العدو عمليات التجريف الواسعة في غالبية الأحياء الشرقية في مناطق الشمال والوسط وصولاً إلى الجنوب، ضمن خطة تهدف إلى منع أي وجود سكاني في تلك المنطقة كونها تشكل خطراً على غلاف غزة، كما يجري العمل على تجريف المناطق التي دُمرت في مناطق الشمال كافة. علماً أن الهجوم الأخير على مجمع الشفاء لم يستهدف فقط ضرب أي قدرة مدنية على إدارة المناطق أو إدارة برامج المساعدات، بل تدمير محتويات المجمع لمنع إعادة تشغيله سريعاً.
الممرّ البحري في خدمة إطالة الاحتلال
بعدما كانت قبرص تعوّل على موافقات أولية حصلت عليها من أكثر من عشرين دولة، وعلى عدم ممانعة رسمية من جانب قوات الاحتلال، وغير رسمية من حماس، لمس القبارصة في المراحل الأولى من المفاوضات أن الجانب الإسرائيلي يريد لفكرة الممر أن تبقى ضمن خطته الشاملة، لا أن يصار إلى تحويلها إلى معبر دائم يتحول مع الوقت إلى مركز تبادل تجاري وبشري بين القطاع والعالم، ما يسمح بفك الحصار عنه.
لذلك حاول الجانب القبرصي الحصول على دعم من ائتلاف عالمي يسمح بمنع حصر إدارة المشروع بالجانب الإسرائيلي. إلا أن القبارصة الذين قدّموا الكثير من الدعم لحكومة العدو في السنوات الماضية، أُحبطوا مما يسميه مسؤول أمني قبرصي «استعلاء الإسرائيليين وطلباتهم غير المحدودة»، ما أثّر على محاولات الجانب القبرصي بناء علاقات جديدة والقيام بإجراءات ثقة مع قوى ودول في المنطقة، لتفادي انعكاس الحضور العسكري والأمني والتجاري المتعاظم لإسرائيل في الجزيرة، خصوصاً أن العدو لا يهتم للتمايز بين جانبي الجزيرة، ويقود عبر شبكة من رجال الأعمال أكبر عملية تملّك في شطري الجزيرة، وهو إن كان يحظى بدعم رسمي أكبر في نيقوسيا، إلا أن «الفوضى المنظّمة» في الجزء التركي من الجزيرة تفيده أيضاً.
وفيما كانت المفاوضات جارية حول فكرة الممر الآمن النشط، والمفتوح على مدار الوقت، تلقّى القبارصة أولى الصدمات عندما أبلغهم الأميركيون بأن المشروع الأساسي الذي روّجت له قبرص مع دول ومنظمات لم يعد موجوداً، وأن هناك خطة بديلة تقودها الولايات المتحدة، ويرعاها البيت الأبيض مباشرة وتندرج ضمن «الحملة الدعائية» للانتخابات. وأكّد الجانب الأميركي أن العملية محض إنسانية ومحددة بوقت ينتهي أواخر آب المقبل. وسيتولاها الجيش الأميركي الذي سينتشر في البحر مقابل الشواطئ القبرصية والفلسطينية، ويؤمّن متطلبات الحماية المباشرة للسفن المحمّلة بالمساعدات من الجزيرة إلى الرصيف والمنصة العائميْن في البحر، كما يتولى تمويل الجانب اللوجستي والأمني من العملية. وأكّد الأميركيون أنهم يناقشون مع بريطانيا إمكان تكليف شركة خاصة تضم أعضاء سابقين في القوات البريطانية الخاصة والاستخبارات، لأن البيت الأبيض قرّر أن لا يكون هناك وجود لأي جندي أميركي على أرض غزة.
وفي لارنكا، حيث المرفأ المستخدم، توجد شركة مشغّلة للمرفأ يملك الإسرائيليون حصة كبيرة فيها، وسيتم استقدام شركات أمن وخدمات بإشراف أميركا وإسرائيل لفحص البضائع قبل تحميلها للنقل إلى غزة. على أن تُحدّد نوعية البضائع وكمياتها بناءً على دراسة كلّفت الأمم المتحدة العمل لإعدادها بالتعاون مع منظمات إنسانية، وتكون في غالبيتها عبارة عن أغذية وأدوية وخيم خاصة بالإيواء.
وفي ما يتعلق بالوقود، طلب جيش الاحتلال قائمة مفصّلة بالمولّدات في الشمال ووجهة استخدامها وقدرتها وحاجاتها من الوقود اليومي، وبالسيارات التي تتحرك وفق نشاط برنامج المساعدات، على أن تُمنع المساعدات عن أي مؤسسة لها علاقة بالبلديات أو المؤسسات الحكومية، كمضخات الآبار الكبيرة لعدم استيلاء حماس على الوقود لأغراض عسكرية.
المساعدات التي ستُجمّع في مرفأ لارنكا ستُموّل من «صندوق ألماثيا»، بدعم مباشر من قطر والكويت والإمارات ودول أوروبية، وسيتم استئجار شاحنات كبيرة يتولى قيادتها بريطانيون، ويتم نقلها في الرحلة الأولى إلى المنصة العائمة محمّلة بالمساعدات، على أن يصار إلى تحميلها بالبضائع لاحقاً من على المنصة والتوجه عبر الرصيف العائم لتفريغها في منطقة مخصّصة على شاطئ غزة، وهي ضمن قطعة أرض بمساحة 80 ألف متر مربع كانت الولايات المتحدة قد طلبت من جيش الاحتلال تجهيزها لذلك.

أميركي يهرب وفلسطيني يتطوّع: بين ساترفيلد وبشار المصري
لم يكن أحد يتوقع أن تصل الوقاحة الإسرائيلية إلى حدود إغاظة أكثر المتحمسين لها في داخل الإدارة الأميركية. لكنّ الوقاحة من الجانب الفلسطيني تبدو أشد إيلاماً إزاء إصرار من يريد العمل بالتنسيق مع قوات الاحتلال بحجة مساعدة أهل غزة.
ديفيد ساترفيلد، دبلوماسي أنهى خدماته وأحيل على التقاعد. وطوال أربعة عقود عمل خلالها في المنطقة، من ضمن أماكن أخرى، كان صوت إسرائيل المرتفع. نعرفه في لبنان جيداً، ويعرفه المصريون وكذلك الفلسطينيون. وعندما اختاره الرئيس الأميركي منسّقاً للشؤون الإنسانية بعد اندلاع الحرب على غزة، تمّ ذلك بناءً على توصية بأنه صديق إسرائيل ويعرف كيف يتحدث مع العرب. وطوال الفترة الأولى من عمله، كان ساترفيلد يؤنّب المشاركين العرب في غرف الاجتماعات الخاصة بالوضع الإنساني في غزة، فكان يتحدث بصوت مرتفع ويصدر الأوامر. لكنّ غسان عليان، قائد أنشطة العدو في المناطق الفلسطينية، لم يكن يراعيه طوال الوقت. كان يعده بأشياء ثم تبدأ الهواتف بالرنين حول عدم التزام قوات الاحتلال بالإجراءات. واستمر الأمر على هذا النحو، حتى صار ساترفيلد شاهداً على صفاقة العدو وجرائمه أيضاً. وبعدما انتقل للضغط على ممثلي جيش الاحتلال في هذه الاجتماعات، صار هاتفه يرن، ويحدّثه المسؤولون من واشنطن بأن تل أبيب منزعجة من «انحيازه» إلى الجانب الآخر.
لم يكن ساترفيلد يعرف كيف يرضي إسرائيل إلى أن وصل الأمر بالإدارة الأميركية إلى اتخاذ قرار إطاحته، وإعادته إلى منزله في ميامي لقضاء تقاعده. فيما اختبرت ليز غراندي لتولي المهمة على أن تتبع مباشرة لفريق العمل في البيت الأبيض (برت ماكغرك وجيك سوليفان) وأن لا يكون لها دور سياسي بل تنفيذي. وهي سبق أن عملت في مهام للأمم المتحدة في اليمن والعراق والموصل كمنسّقة للمساعدات الإنسانية، ولم تكن دوماً محل ترحيب من قبل الناس في هذه المناطق. لكنها ستعمل على خدمة برنامج عليان الذي يعيد ترتيب فريقه في إدارة الأحوال المدنية للمناطق المحتلة من ضمنها غزة.
في المقابل، فإن رجل الأعمال الفلسطيني بشار المصري، الذي رشّحته شركة «فوغ بو» للخدمات اللوجستية كشريك في إدارة الملف على الأرض، لا يزال يعرض خدماته. وهو يقول إن لديه القدرة اللوجستية الكافية لتولي مهمة تلقّي المساعدات من على اليابسة، وتوفير الشاحنات وسائقيها وفريق من أبناء غزة لتولي العملية اللوجستية، ويعرض أن يتولى إعادة ترتيب وضع المنطقة الصناعية في غزة لتكون مركزاً لتجميع هذه المساعدات، مشيراً إلى أن لديه معرفة بأبناء غزة وعلاقات جيدة مع الجميع، ويمكنه تكوين فريق بشري لإدارة العملية، وأن التمويل الذي يحتاج إليه يمكن توفيره من الصندوق القبرصي، عارضاً أن يساهم في هذه العملية.
سلطة رام الله لا تعارض هذا الدور، خصوصاً بعد فشل محاولات رئيس المخابرات فيها ماجد فرج بإيجاد وضعية على الأرض تسمح باختراقات في صفوف الناس من باب المساعدات، وهو حاول إدخال عناصر أمنيين إلى داخل القطاع مرات كثيرة، بمساعدة قوات الاحتلال نفسها. ويوجد في رام الله من يقول إن فكرة العمل مع بشار المصري قد تكون مناسبة لفتح باب الشراكة مع حماس في الإدارة المدنية للقطاع.


المصدر: الاخبار اللبنانية