2024-11-27 10:34 م

الانتفاضة الطلابية مستمرة-أميركا ترفع قميص «معاداة السامية»

يثير التصاعد المتسارع في حجم الاحتجاجات التي ينفّذها طلاب جامعات نخبوية أميركية ضدّ حرب الإبادة الإسرائيلية في قطاع غزة، قلقَ جهات عدّة تبدأ من إسرائيل ولا تنتهي في الولايات المتحدة. إذ لم يَعُد الحَراك مقتصراً على «كولومبيا» (وجارتها كلّية بيرنارد)، بل وصل، في نهاية الأسبوع الماضي، إلى حدّ الانفجار مع اعتقال أكثر من 100 من طلاب الجامعتَين المذكورتَين، وامتدَّ، خلال أيام قليلة، كما النار في الهشيم، نحو جامعات النخبة الأميركية الأخرى في «ييل»، و«نيويورك»، و«ماساتشوستس للتكنولوجيا»، و«ميشيغان»، و«فاندربيلت»، و«روتجرز»، و«نورث كارولينا - تشابل هيل»، و«بيتسبرغ»، و«إيمرسون»، و«ماريلاند»، و«مينسوتا»، و«تافتس»، و«ستاندفورد» وغيرها. وفيما عمدت إدارات تلك الجامعات، بتوجيه من السلطات في واشنطن، إلى الاستعانة بضباط الشرطة وقوات مكافحة الشغب لقمع تحرّكات الطلاب واعتقال قادتهم، بدا جليّاً ضيق الخيارات أمامها لمواجهة تعاظم الغضب الطالبي من التواطؤ الأميركي مع حرب الإبادة الإسرائيلية - بما في ذلك أيضاً مساهمات الجامعات في مدّ الكيان الإسرائيلي بأسباب الوجود عبر الاستثمارات المليارية والعلاقات البحثية الوثيقة -، وأصبح هناك شعور متعاظم بأن الاحتجاجات لن تتوقّف قريباً وقد تطيح بالعام الدراسي برمّته، حتى أن بعض الجامعات بدأت تتحدّث عن إلغاء حفلات التخرّج السنوية منعاً لتحوّلها إلى منصّات لصدامات حادّة.في هذا الوقت، واصل الطلاب المناصرون للقضية الفلسطينية اعتصامهم في حرم «كولومبيا» في نيويورك، لليوم السابع على التوالي، في ظلّ ضغوط تمارسها إدارة الجامعة ومستويات سياسية عدّة لإنهاء اعتصامهم، علماً أن الإدراة كانت قد أعلنت إغلاق الفصول الدراسية، وإتاحة التدريس افتراضيّاً، حاثّةً التلامذة على البقاء في أماكن سكنهم وتجنّب التنقلات، وأمهلت المعتصمين حتى يوم أمس لفضّ اعتصامهم، تحت طائلة استدعاء الحرس الوطني لتفريقهم. لكن الإدارة قرّرت مع انتهاء المهلة، تمديدها لـ48 ساعة إضافية لاستكمال المحادثات مع منظّمي الاحتجاجات، في ضوء «التقدُّم المهمّ» الذي تمّ إحرازه مع المنظّمين، وفقاً لما أوردته صحيفة «واشنطن بوست». وفي هذا الإطار، حذّرت رئيسة «كولومبيا»، نعمت شفيق، في بيان صدر عنها أول من أمس، من أنه إذا لم تنجح المناقشات، فسيتعيّن على الجامعة «النظر في خيارات بديلة لإخلاء الحديقة الغربية واستعادة الهدوء في الحرم الجامعي». وفيما أصدر المفاوضون الطالبيون في «كولومبيا»، بعد منتصف ليل الثلاثاء بقليل، بياناً قالوا فيه إن إدارة الجامعة هدَّدت باستدعاء «الحرس الوطني» وشرطة نيويورك إذا لم تتم تلبية مطالبها، نفت حاكمة نيويورك، كاثي هوشول (ديموقراطية)، أن تكون لديها خطط لاستدعاء الحرس إلى الحرم الجامعي. وفي وقت لاحق أمس، نقلت مجلة "نيوزويك" عن متظاهري "كولومبيا"، قولهم إنهم لن يشاركوا في مفاوضات مع إدارة الجامعة بسبب استدعائها الشرطة لاعتقال الطلاب، فيما حثّ قائد الاحتجاج، جامعته على "فعل شيء في شأن الإبادة الجماعية في غزة، والتوقف عن الاستثمار فيها".
وغير بعيد من «كولومبيا»، كانت قوات الشرطة تجتاح «نيويورك»، حيث اعتقلت عشرات الطلاب المؤيّدين لفلسطين في محاولة لإنهاء مواجهتهم مع إدارة الجامعة، وألحقتهم بأعداد من الأساتذة الذين حاولوا حماية طلّابهم. وعلى خلفية ذلك، أثار المدافعون عن الحقوق المدنية، بمن فيهم «اتحاد الحريات المدنية الأميركي»، مخاوف تتعلّق بحرية التعبير إزاء الاعتقالات، فيما ألقت شرطة نيويورك القبض على متظاهرين من مجموعة «أصوات يهودية من أجل السلام» بعد تجمُّعهم خارج منزل زعيم الغالبية الديموقراطية في مجلس الشيوخ، تشاك شومر، ومطالبتهم بوقف توفير السلاح لإسرائيل. وتكرَّر الأمر في «ييل»، حيث قبضت الشرطة على العشرات من الطلاب الذين تظاهروا لعدّة أيام في نيوهافن في كونيتيكت، للمطالبة بوقف استثمارات جامعتهم في شركات إسرائيلية، ونقلتهم في حافلات حكومية إلى مقار الشرطة، حيث تلقّوا استدعاءات بتهمة التعدّي على ممتلكات الغير، فيما ردّ بقية الطلاب بإغلاق ميدان رئيسي في نطاق الجامعة. وأغلقت «هارفرد»، من جهتها، الجزء المركزي من حرمها تحسُّباً لسيناريوات مشابهة، موجّهةً تحذيرات إلى طلابها من تشييد مخيمات احتجاجية فيها، حتى أنها علّقت رسميّاً عمل «مجموعة التضامن مع فلسطين». وبدورهم، راقب المسؤولون في «تافتس» و«إيمرسون»، بتوجُّس، مخيّمات التضامن مع غزة، والتي شيّدها الطلاب في كلتا الجامعتَين، على نَسق المخيم الرائد في «كولومبيا».
وفي وقت لاحق، انتقلت حمّى الاحتجاجات من جامعات النخبة على الساحل الشرقي، نحو الغرب، حيث أقام طلاب «كاليفورنيا» في بيركلي، وهي جامعة اشتُهرت بنشاطها الطالبي في الستينيات، خياماً للتضامن مع المتظاهرين في الجامعات الأخرى. وفي كاليفورنيا أيضاً، أَغلقت السلطات حرم «كال بولي هومبولت»، وهي جامعة عامّة في مدينة أركاتا، بعدما احتلّ متظاهرون مؤيّدون للفلسطينيين مبنى في حرمها. أما في حرم «مينيسوتا» في سانت بول، فأزالت الشرطة أحد المخيمات نزولاً عند رغبة إدارة الجامعة، التي تحدّثت عن «انتهاكات سياسة الجامعة وقانون التعدي على ممتلكات الغير». كذلك، شرع طلاب جامعات حكومية في مقاطعة الدروس تأييداً لزملائهم المعتقلين من الجامعات الخاصة.
ويقول مراقبون إن اقتصار الاحتجاجات، إلى الآن، على الجامعات المركزيّة في البلاد لا يعني بالضرورة «نخبوية» الحراك الطالبي، إذ إن الصدام مع السلطات، سواء مع إدارات الجامعات أو حكام الولايات وقوات الأمن، سيستقطب سريعاً مجموعات مختلفة من الطلاب التي تحمل توجهات سياسية يسارية أو من الأقليات التي تعاني من التمييز الممنهج - كالسود والمسلمين - أو من الحركات الطليعية النسوية وأنصار البيئة وغيرهم. وثمة خشية أكيدة من تعاظم أشكال الاحتجاج من أجل فلسطين، واتّساع نطاقها لتتحوّل إلى ثورة طالبية شاملة على نسق الحركة المناهضة للحرب الأميركيّة على فييتنام في الستينيات، والتي أصبحت نواة حَراك وطني اجتذب قطاعات عريضة من الأميركيين، وفرض ضغوطاً هائلة على النخبة الحاكمة لوقف الحرب.
وترقب النخب الأوروبية الحاكمة، من جهتها، الاحتجاجات الطالبية الأميركية بعين القلق، إذ تقول التجربة التاريخية إن كل احتجاج شعبي رئيسي شهدته الولايات المتحدة، مثل «احتلوا وول ستريت» أو «حياة السود لها قيمة»، انتقل دائماً إلى الجانب الآخر من الأطلسي، واتّخذ أشكالاً أكثر عنفاً أحياناً. وتتّخذ القوانين ضدّ ما يسمى «العداء للسامية» صيغة أقسى على البر الأوروبي، منها في الولايات المتحدة، ولا سيما في ألمانيا وإيطاليا وبريطانيا وفرنسا، ما قد يفتح الباب أمام صراعات وانقسامات أعمق ممّا شهدته الجامعات الأميركية. وكانت قد استدعت التظاهرات تدخُّلاً من البيت الأبيض، الذي أصدر الناطق باسمه، أندرو بيتس، بياناً ندّد فيه بموجة مزعومة من «العداء للسامية»، معتبراً أن ما زعم أنها «الدعوات إلى العنف والترهيب الجسدي، والتي تستهدف الطلاب اليهود والمجتمع اليهودي، هي معادية للسامية بشكل صارخ، وغير مقبولة، وخطيرة ولن يكون لها مكان إطلاقاً في أيّ حرم جامعي، أو في أيّ مكان في الولايات المتحدة». وفي ذات الإطار، قال مدير الـ"إف بي آي"، كريستوفر راي، إن مكتبه ينسّق مع الجامعات في شأن "التهديدات المعادية للسامية والعنف المحتمل في ما يخصّ الاحتجاجات المتعلّقة بغزة".
وفي السياق نفسه، ثمة أكاذيب تتردّد في الصحافة الأميركية خصوصاً، حول تعرُّض رفاه الطلاب اليهود وسلامتهم في الولايات المتحدة لتهديدات بسبب الاحتجاجات المؤيّدة للفلسطينيين، في الوقت الذي ينظّم فيه يهود أميركيون جانباً من هذه الاحتجاجات، ويشاركون فيها بكثافة، ويقيمون صلوات مشتركة مع المسيحيين والمسلمين على أرواح الشهداء، بينما تفشل أنشطة مؤيّدة لإسرائيل في استقطاب ما يزيد على أصابع اليد الواحدة أحياناً. وتبرّر إدارات الجامعات سلوكها العدواني ضدّ طلابها المؤيّدين لفلسطين بالأكاذيب نفسها، وكذلك يفعل بعض المانحين الذين هدّدوا بوقف مساهماتهم المالية للجامعات التي تشهد اضطرابات، رغم أن طالباً يهودياً واحداً لم يتعرّض لاعتداء جسدي إلى الآن. وبحسب الصحف الأميركية، فإن السلطات في واشنطن تتّجه إلى التضحية برئيسة جامعة «كولومبيا»، نعمت شفيق، في محاولة لتهدئة الخواطر، علماً أن شفيق، المصرية الأصل، أصدرت في إطار سعيها إلى إرضاء التيار المتطرّف في الكونغرس الأميركي، قراراً باستدعاء الشرطة إلى الحرم الجامعي، ما أدّى إلى انفجار موجة من التضامن مع طلاب «كولومبيا» داخل الجامعة وخارجها، ونقل شرارة الاحتجاجات إلى الجامعات الأخرى. ومن جهتهم، يدرك الطلاب أن قضيّتهم أبعد من شفيق، وإنْ كانت استقالتها ستُعدّ انتصاراً لهم.