نشرت مجلة "فورين أفيرز" مقالا لأستاذ العلوم السياسية والعلاقات الدولية في جامعة جورج واشنطن، مارك لينش، قال فيه إن "تجاهل الأنظمة في الشرق الأوسط وأمريكا للغضب الشعبي سيعرضها للخطر".
وأوضح المقال أنه منذ عملية "طوفان الأقصى" في السابع من تشرين الأول/ أكتوبر، اهتزت منطقة الشرق الأوسط باحتجاجات حاشدة. وتظاهر المصريون تضامنا مع الفلسطينيين مخاطرين بسلامتهم الشخصية، ونزل العراقيون والمغاربة والتونسيون واليمنيون إلى الشوارع بأعداد هائلة. وفي الوقت نفسه، كسر الأردنيون الخطوط الحمر التي طال أمدها من خلال الزحف نحو سفارة دولة الاحتلال الإسرائيلي.
وتابع: "بالنسبة لواشنطن، وجهة النظر هي أن أيا من هذه التعبئة لا تهم حقا. فإن الزعماء العرب هم من بين أكثر ممارسي السياسة الواقعية خبرة على مستوى العالم، ولديهم سجل في تجاهل مطالب شعوبهم. ورغم أن الاحتجاجات كانت كبيرة، إلا أنه كان من الممكن السيطرة عليها".
وأردف: "لطالما شجّع الرئيس المصري السابق، حسني مبارك، وغيره من الزعماء الاحتجاجات حول معاملة الفلسطينيين، الأمر الذي سمح لشعبهم بالتنفيس عن غضبهم وتوجيه غضبهم نحو عدو أجنبي بدلا من الفساد وعدم الكفاءة الداخلية"، مبرزا أنه "لدى صناع السياسة الخارجية في الولايات المتحدة أيضا تاريخ طويل من تجاهل الرأي العام في الشرق الأوسط، ما يسمى بالشارع العربي".
"الزعماء العرب هم من يتخذون القرارات، فليس من الضروري إذن أن نفكر في ما يصرخ به الناشطون الغاضبون" أضاف المقال، مسترسلا بأنه "لا توجد ديمقراطيات في الشرق الأوسط، فلا داعي للاهتمام بما يفكر فيه أي شخص خارج القصور. وعلى الرغم من كل حديثها عن الديمقراطية وحقوق الإنسان، كانت واشنطن دائما أكثر ارتياحا في التعامل مع المستبدين البراغماتيين من التعامل مع الجماهير التي تعتبرها حشودا متطرفة وغير عقلانية".
وأكد: "تتعزّز رغبة الولايات المتحدة في تجاهل المخاوف الشعبية بذكرى عام 2003، عندما كان الرأي العام العربي ضد الغزو الذي قادته الولايات المتحدة للعراق، ولكن أغلب زعماء المنطقة تعاونوا مع الغزو ولم يتخذ أي منهم خطوات لمعارضته".
وأبرز المقال نفسه، أنه على الرغم من عقود من الاحتجاجات الجماهيرية المتكررة ضد إجراءات دولة الاحتلال الإسرائيلي في غزة والضفة الغربية، فقد حافظ الأردن ومصر على معاهدات السلام مع الاحتلال الإسرائيلي، حتى إن مصر شاركت بنشاط في حصار غزة.
وفي الواقع، فإنه زاد الرضا عن الذات في الولايات المتحدة مع عدم تحقق الانفجارات المتوقعة للغضب الشعبي، على سبيل المثال، بشأن نقل السفارة الأمريكية إلى القدس المحتلة أو قصف اليمن. واهتزت قناعة واشنطن لفترة وجيزة بسبب الانتفاضات العربية عام 2011، لكنها عادت بكامل قوتها مع استعادة الأنظمة الاستبدادية سيطرتها في السنوات التالية.
ويبدو أن هذا هو ما تتوقعه الولايات المتحدة وأغلب المحللين السياسيين هذه المرة أيضا. وعندما ينتهي القصف أخيرا، ستعود الحشود إلى بيوتها وتجد أشياء أخرى تثير غضبها، ويمكن أن تعود السياسة الإقليمية إلى طبيعتها. لكن هذه الافتراضات تعكس سوء فهم جوهري لأهمية الرأي العام في الشرق الأوسط، فضلا عن قراءة خاطئة عميقة لما تغير حقا منذ انتفاضات عام 2011.
ويستخدم صناع السياسات مصطلح "الشارع العربي" لتقليص الرأي العام الإقليمي إلى مجرد صخب جماهيري غير عقلاني ومعادٍ وعاطفي قد يتم استرضاؤه أو قمعه ولكنه يفتقر إلى تفضيلات أو أفكار سياسية متماسكة. ولهذا التعبير جذور عميقة في الحكم الاستعماري البريطاني والفرنسي، وقد تبنته الولايات المتحدة عندما دخلت الحرب الباردة.
قبل عام 2011، حدثت ذروة مفهوم الشارع العربي خلال ما يسمى بالحرب الباردة العربية في الخمسينيات، عندما حقق القادة الشعبيون العرب نجاحا كبيرا في تعبئة الجماهير ضد الحلفاء الغربيين المحافظين باسم الوحدة والدعم العربي للفلسطينيين.. وعندما كانت خطابات الرئيس المصري، جمال عبد الناصر، الإذاعية تحرك الجماهير في شوارع العالم العربي بما في ذلك الأردن.
وخلصت واشنطن إلى أن الشارع العربي كان خطيرا، وهو ما خلق فرصا للسوفييت. إذن، لم يكن من المفترض أن يتم التفاهم مع هذه الشعوب، بل يجب السيطرة عليها بالقوة.
لقد تغيرت فكرة الشارع العربي إلى حد ما في التسعينيات والعقد اللاحق. تبلورت القنوات الفضائية، وخاصة قناة الجزيرة، في هذه العقود وشكلت الرأي العام العربي. وقد أدى ظهور استطلاعات الرأي العام المنهجية والعلمية في تسعينيات القرن العشرين إلى توفير قدر كبير من الوضوح بشأن الفروق الوطنية، والمواقف المتغيرة استجابة للأحداث، والتقييمات المتطورة للظروف السياسية. لقد سمح ظهور وسائل التواصل الاجتماعي لمجموعة واسعة من الأصوات العربية بكسر سيطرة وسائل الإعلام وتحطيم الصور النمطية من خلال تحليلاتها المباشرة ومشاركتها التفاعلية. وبعد أحداث 11 أيلول/ سبتمبر، بذلت واشنطن جهدا كبيرا في حرب أفكار، تهدف إلى مكافحة الأفكار المتطرفة والإسلامية.
ولا تزال ذكرى انتفاضات عام 2011 تخيم على كل حسابات استقرار النظام في الشرق الأوسط اليوم. وحملت نتائج تلك الأحداث الثورية دروسا مختلطة. وأظهر الانتشار السريع للاحتجاجات التي تهدد النظام من تونس إلى جميع أنحاء المنطقة تقريبا أن الاستقرار المفترض للأنظمة الاستبدادية العربية كان في الغالب أسطورة.
وللحظة وجيزة، فإنه لم يعد من المنطقي أن تتجاهل واشنطن خفايا الرأي العام العربي أو تذعن لتأكيدات الحكام العرب المنهكين. ومن الواضح أن الانتفاضات لم تكن مجرد ثوران لشارع عربي طائش. بل إن الثوريين الشباب الذين استحوذوا على روح العصر أعربوا عن انتقادات مدروسة وحاسمة للحكام، حتى إن الإسلاميين في وسطهم تحدثوا بلغة الحرية والديمقراطية.
في البداية، تسابقت الحكومات الغربية للتعامل مع هؤلاء القادة الشباب المثيرين للإعجاب، وحاولت دعم جهودهم لتحقيق التحولات الديمقراطية وأنظمة سياسية أكثر انفتاحا. لكن مثل هذه الدروس سرعان ما تم نسيانها مع استعادة الأنظمة العربية السيطرة من خلال الانقلابات العسكرية.
لقد ساعد المستبدون في جميع أنحاء المنطقة المستبدين الآخرين على استعادة قوتهم، ووقف الغرب ببساطة موقف المتفرج. على سبيل المثال، فإنه دعم القمع الذي مارسته البحرين لاحتجاجاتها في عام 2011، وضخ الدعم المالي والسياسي للانقلاب العسكري المصري عام 2013.
ومنذ عام 1991 وحتى وقت قريب، قامت واشنطن برعاية عملية السلام جزئيا لأن القادة الأمريكيين كانوا يعتقدون أن تقديم حل عادل للفلسطينيين أمر ضروري لإضفاء الشرعية على التفوق الأمريكي. ومع ذلك، فقد تجاهلت إدارة الرئيس دونالد ترامب، ببساطة، الرأي العام الفلسطيني والعربي عندما توسطت في اتفاقيات أبراهام.
وعلى الرغم من الخطاب الواعد الذي أطلقه خلال حملته الانتخابية، فقد تبنى الرئيس الأمريكي، جو بايدن، نهج ترامب في التعامل مع الشرق الأوسط، ودفع إلى التطبيع العربي مع دولة الاحتلال الإسرائيلي وتجاهل الديمقراطية وحقوق الإنسان. وبعد تنصيبه في عام 2021، تخلى بايدن عن وعوده بوضع حقوق الإنسان في المقام الأول.
اقرأ أيضا:
ماذا تعني دعوة ترامب إلى وقف العدوان الإسرائيلي على غزة؟
وبدلا من ذلك، سارع بيأس غير لائق لإكمال سياسة ترامب للتطبيع مع دولة الاحتلال الإسرائيلي دون حل القضية الفلسطينية من خلال تأمين اتفاق مع السعودية. وليس من قبيل المصادفة أن يوم 7 تشرين الأول/ أكتوبر تزامن مع ضغوط إدارة بايدن الكاملة من أجل التوصل إلى اتفاق تطبيع سعودي في خضم استفزازات غير مسبوقة من قبل المستوطنين الإسرائيليين في الضفة الغربية.
وكانت هناك مؤشرات كثيرة على الاستياء العربي من التطبيع وتحذيرات لا حصر لها من انفجار وشيك في غزة، لكن واشنطن تجاهلتها باعتبارها مجرد مثال آخر على الاحترام المضلل لشارع عربي اعتقدت أن حلفاءها المستبدين يمكنهم السيطرة عليه. وكانت مخطئة في ذلك.
وأبرز المقال أن "القادة العرب يهتمون بشيء واحد أكثر من أي شيء آخر: البقاء في السلطة. وهذا لا يعني فقط منع الاحتجاجات الجماهيرية التي تهدد النظام بشكل واضح، بل يعني أيضا الانتباه إلى مصادر السخط المحتملة والاستجابة عند الضرورة لتفاديها. ومع معاناة كل دولة عربية تقريبا خارج منطقة الخليج من مشاكل اقتصادية حادة، فإنه يتعين على الأنظمة أن تكون أكثر حذرا في الاستجابة لقضايا مثل الصراع الإسرائيلي الفلسطيني".
وتابع: "اليوم، من الواضح بشكل صارخ أنه كان من الخطأ أن تفترض الولايات المتحدة أنها تستطيع تجاهل الرأي العام العربي بشأن معاملة الفلسطينيين. والواقع أن العرب لم يفقدوا اهتمامهم بهذه القضية. بل إن المستوى الناتج من التعبئة والغضب الشعبي يتجاوز الغضب الذي اندلع في عام 2003 بسبب الغزو الأمريكي للعراق، ومن الواضح أنه يؤثر على سلوك أنظمة المنطقة".
وتوحّدت وسائل الإعلام العربية، التي كانت مجزأة ومستقطبة سياسيا بشدة خلال الحروب السياسية داخل المنطقة في العقد الماضي، إلى حد كبير في الدفاع عن غزة. لقد عادت قناة الجزيرة، لتعيش أيام مجدها من خلال تغطية الفظائع هناك على مدار الساعة، حتى مع مقتل صحفييها أثناء القتال على يد قوات الاحتلال الإسرائيلي.
واسترسل بأن الصور ومقاطع الفيديو الصادرة من غزة تطغى على الدعاية التي تقدمها دولة الاحتلال الإسرائيلي والولايات المتحدة وتتجاوز بسهولة التغطية الخافتة التي تقدمها وسائل الإعلام الغربية.
الناس يرون الدمار وكل يوم يواجهون مشاهد مأساة لا تصدق. وهم يعرفون الضحايا بشكل مباشر. إنهم لا يحتاجون إلى وسائل الإعلام لفهم رسائل الواتساب من سكان غزة المذعورين أو لمشاهدة مقاطع الفيديو المرعبة المنتشرة على نطاق واسع على تليغرام.
إلى ذلك، أضاف المقال أن الناشطين والمثقفين العرب دأبوا على تطوير حجج قوية حول طبيعة هيمنة دولة الاحتلال الإسرائيلي على الأراضي الفلسطينية، وهذه الحجج تدخل الخطاب الغربي بطرق جديدة. وكانت القضية التي رفعتها جنوب أفريقيا إلى محكمة العدل الدولية، سببا في نشر العديد من هذه الحجج في مختلف أنحاء الجنوب العالمي وداخل المنظمات الدولية.
وقد فعلت ذلك من خلال الإشارة ليس فقط إلى تصريحات القادة الإسرائيليين، بل أيضا إلى الأطر المفاهيمية حول الاحتلال والاستعمار الاستيطاني التي طورها المثقفون العرب والفلسطينيون. إن حرب الأفكار التي سعت الولايات المتحدة إلى شنها في العالم الإسلامي بعد أحداث 11 أيلول/ سبتمبر، بدعوى جلب الحرية والديمقراطية إلى منطقة متخلفة، قد عكست مسارها، حيث أصبحت الولايات المتحدة في موقف دفاعي بسبب نفاقها في المطالبة بإدانة حرب روسيا على أوكرانيا ودعم حرب الاحتلال الإسرائيلي على غزة.
ويحدث كل هذا في عصر يتسم، حتى قبل حرب دولة الاحتلال الإسرائيلي على غزة، بتراجع تفوق الولايات المتحدة وتزايد استقلال القوى الإقليمية. وقد سعت الدول العربية الرائدة على نحو متزايد إلى إظهار استقلالها عن الولايات المتحدة، وبناء علاقات استراتيجية مع الصين وروسيا والسعي وراء أجنداتها الخاصة في الشؤون الإقليمية.
ومع ذلك، فإن دعم واشنطن غير المحدود لدولة الاحتلال الإسرائيلي في تدميرها لغزة، أدى إلى وصول العداء طويل الأمد للسياسة الأمريكية إلى ذروته، وأثار أزمة الشرعية التي تهدد كامل صرح التفوق التاريخي للولايات المتحدة في المنطقة. من الصعب المبالغة في تقدير مدى تحميل العرب الولايات المتحدة المسؤولية عن هذه الحرب.
ويمكن رؤية مدى هذا الغضب الشعبي في فك ارتباط عدد كبير من العاملين الشباب في المنظمات غير الحكومية والناشطين عن المشاريع والشبكات المدعومة من الولايات المتحدة والتي تم بناؤها على مدى عقود من الدبلوماسية العامة، وهو التطور الذي أشارت إليه أنيل شيلين في استقالتها المبدئية من منصبها كموظفة للشؤون الخارجية في وزارة الخارجية في آذار/ مارس.
ولا يزال البيت الأبيض يتصرف وكأنه لا شيء من هذا يهم حقا. سوف تبقى الأنظمة العربية على قيد الحياة، وسوف يتلاشى الغضب أو يُعاد توجيهه نحو قضايا أخرى، وفي غضون أشهر قليلة، تستطيع واشنطن العودة إلى العمل المهم المتمثل في التطبيع الإسرائيلي السعودي. هذه هي الطريقة التي سارت عليها الأمور تقليديا.
وختم المقال بالقول: "لكن هذه المرة قد تكون مختلفة. إن الفشل الذريع في غزة، في لحظة تحول القوى العالمية وتغيير حسابات القادة الإقليميين، يظهر مدى ضآلة ما تعلمته واشنطن من سجلها الطويل من الإخفاقات السياسية".
المصدر: عربي ٢١