قال المؤرخ الفلسطيني رشيد خالدي، في مقال طويل نشرته صحيفة “الغارديان” بعنوان: “الهاوية الجديدة: غزة وحرب المئة عام على فلسطين”، إن الكثير قد تغيّر منذ أحداث 7 تشرين الأول/أكتوبر، إلا أن أحداث الستة أشهر الماضية ليست استثنائية، ولا تقف خارج التاريخ في الحرب الطويلة على فلسطين.
وقال إنه لا يمكن الفرار أو تجاهل الكثير من الصور التي تخرج من غزة منذ 7 تشرين الأول. له ولغيره من الذين يعيشون بعيداً عن ساحة الحرب، فهي مثل السحابة السوداء، التي تزداد قتامة مع مرور الأيام والأسابيع الطويلة من تكشّف الرعب أمام عيوننا. وأن يكون لك أصدقاء وعائلة هناك يجعل من الأمر غير محتمل لأبناء العائلة الذي يعيشون في الخارج.
غير مسبوقة ولكن..
وقال إن البعض رأى في الأحداث بأنها اضطرابٌ أو تمزق في الحاضر، وهناك مَن أطلق عليها “9/11 إسرائيل”، أو النكبة الجديدة، إبادة جماعية غير مسبوقة،.. بالتأكيد فحجم الأحداث، القتل والدمار التي صُوّر معظمها على الهواتف النقالة، ونشرت على منصات التواصل وكثافة الرد العالمي، غير مسبوق في التاريخ الحاضر. ويبدو أننا أمام مرحلة جديدة، حيث ماتت ودفنت “عملية أوسلو” البغيضة، وحيث تكثّف الاحتلال والعنف والاستعمار وديس على القانون الدولي، وحيث بدأت الطبقات الزلزالية الثابتة بالتحرك.
مرحلة أخرى
وفي الوقت الذي تغيّر فيه الكثير خلال نصف عام، إلا أن ما جرى فيه وشاهدناه من رعب لا يمكن فهمه إلا بكونه محفزاً لمرحلة جديدة في الحرب التي تجري منذ أجيال.
وكان هذا محور كتاب خالدي “حرب المئة عام على فلسطين”، والتي بدأت منذ وعد بلفور البريطاني عام 1917. وجاءت نتاج حرب متعددة الوجوه والمراحل، والتي شنتها القوى العظمى الراعية للحركة الصهيونية ضد سكان فلسطين الأصليين.
والصهيونية هي حركة استيطانية استعمارية وقومية في نفس الوقت. وكانت تهدف للحلول محل الفلسطينيين في أرض أجدادهم. وتحالفت القوى العظمى هذه لاحقاً مع إسرائيل التي تحولت لدولة نشأت من خلال تلك الحركة.
وقد قاوم الفلسطينيون بشدة خلال هذه الحرب الطويلة محاولات اغتصاب أرضهم. ولا يمكن الاستغناء عن هذا الإطار لشرح، ليس تاريخ القرن الماضي وما بعده، ولكن الوحشية التي شاهدناها منذ 7 تشرين الأول/أكتوبر.
وعند النظر إليها عبر هذا المنظور فإن الحرب ليست نزاعاً منذ الأبد بين العرب واليهود، ولا هي ببساطة نزاع بين شعبين. فهي منتج حديث للإمبريالية، والتي دخلت الشرق الأوسط مع ظهور الدول القومية، عربية ويهودية. وهي نتاج لأساليب العنف الأوروبي الاستيطاني الذي تبنّته الصهيونية لتحويل “فلسطين إلى أرض إسرائيل”، وهي العبارات التي نطق بها مبكراً زعيم الصهيونية زئيف جابوتنسكي. وهي نتاج للمقاومة الفلسطينية لهذه الوسائل. وأكثر من هذا؛ فالحرب لم تكن أبداً بين الصهيونية وإسرائيل في جانب، والفلسطينيين على الجانب الآخر، والذين دعموا، في أحيان، من الدول العربية ولاعبين آخرين. فهذه الحرب ظلّت محلاً لتدخّل دائم من القوى العظمى، بريطانيا حتى نهاية الحرب العالمية الثانية، ومن ثم الولايات المتحدة منذئذ.
ولم تكن القوى العظمى أبداً لاعباً محايداً، بل مشاركاً نشطاً في الحرب، ومع إسرائيل. وفي هذه الحرب قام المستعِمر بالاستعمار والمضطهِد بالاضطهاد، ولم يكن هناك شيء يصل إلى حدّ التكافؤ بين الطرفين، بل واختلال في التوزان لصالح إسرائيل والصهيونية. وتأكد هذا الافتراض، أو الأطروحة، في أحداث 7 تشرين الأول/أكتوبر، وبالقوة غير المتوازنة، والمستويات غير المتناسبة من القتل والتشريد، حيث وصل معدل القتل بين الفلسطينيين والإسرائيليين إلى 25-1. وتأكد هذا بدعم عسكري وسياسي ودبلوماسي أمريكي لإسرائيل، وأرفق بدعم بريطاني والدول الغربية، مقارنة مع دعم عسكري ومالي نسبي من إيران للفلسطينيين، وعدد من اللاعبين من غير الدول.
ليس خارج التاريخ
ومع أن الكثير قد حدث خلال الأشهر الستة الماضية، إلا أن ما جرى فيها لا يقف خارج التاريخ، أو كحدث استثنائي، ولا يمكن فهمه بدون سياق الحرب الطويلة التي شنت ومنذ قرن على فلسطين، رغم محاولات إسرائيل رفض السياق المتعلق وشرح مصطلحات “البربرية” التي ميزت أعداءها.
وفي الوقت الذي تبدو فيه أفعال “حماس” وإسرائيل، من 7 تشرين الأول/أكتوبر، تحولاً، إلا أنها متناسبة مع عقود من التطهير العرقي الإسرائيلي والاحتلال وسرقة الأرض الفلسطينية وسنوات من الحصار والحرمان على قطاع غزة، وبردّ فلسطيني عنيف في كثير من الأحيان.
وعند نهاية هذه الحلقة من تاريخ الحرب الطويلة على فلسطين، ستترك أثرها الصادم على الفلسطينيين والإسرائيليين. وهذا واضح من العدد الاستثنائي للضحايا الذين قتلوا وجرحوا أو اعتقلوا أو اختفوا، وكذا دمار البنى التحتية للقطاع والعدد الكبير للعائلات المتضررة والآثار النفسية لهذه الأحداث.
حرب الحروب
وقد تركت الحرب هذه ضرراً عميقاً على الفلسطينيين والإسرائيليين وفي فترة قصيرة. فعدد الفلسطينيين القتلى المسجلين تجاوز 33,000 إلى جانب 8,000 مفقود أو تحت الأنقاض، وغالبيتهم من المدنيين. وهو رقم تجاوز أي مواجهة خلال قرن من المواجهة، ففي حرب 1947- 1949 قتل حوالي 15,000 فلسطيني، مدني ومقاتل. وفي 1982 خلال اجتياح لبنان وحصار بيروت قتل 19,000 فلسطيني ولبناني. وفي حرب غزة التي بدأت في 7 تشرين الأول/أكتوبر وصل عدد القتلى والجرحى إلى 120,000، أي نسبة 5% من سكان القطاع. وبالنسبة للقتلى الإسرائيليين أكثر من 800 شخص و 685 جندياً وشرطياً وحرس حدود، وهو أكبر من عدد القتلى في 1948 و1956 و 1982 و 2006 في حرب لبنان. وزادت حصيلة القتلى، بمن فيهم الجنود والمدنيون، عنها في عام 1967 إلى جانب أسر 250 إسرائيلياً وأجنبياً. وطوال الحرب الحالية طرد فلسطينيون وإسرائيليون من بيوتهم، أكثر من 750,000 فلسطيني، أي نصف سكان فلسطين تعرضوا للتطهير العرقي عام 1947. وفي عام 1967 تم طرد أكثر من 300,000 فلسطيني من الضفة الغربية. وتظل هذه الأرقام قليلة مقارنة مع 1.7 مليون غزي هجروا داخل القطاع. وفي نفس الوقت شرد أكثر من 300,000 إسرائيلي من المستوطنات والبلدات القريبة من غزة ولبنان.
كدمات في إسرائيل
وتركت الأحداث أثرها الصادم على إسرائيل، وأعادت ذكريات الاضطهاد والقتل عبر التاريخ، وحطمت حس الأمن لدى الإسرائيليين، وأسهمت بتحول المجتمع الإسرائيلي نحو اليمين، بحيث أصبح خطاب الساسة والرأي العام عنيفاً وداعياً للحرب. وأسهمت الهجمات، في تشرين الأول/أكتوبر، بتعزيز التعطش للانتقام، الذي كان واضحاً من الطريقة التي نفذت فيها إسرائيل الحرب، وتم تعزيز حس الضحية لدى سكان الدولة، رغم اختلال التوازن في القوة بين إسرائيل والفلسطينيين.
كدمات عميقة على الفلسطينيين
وبالمقابل؛ فإن الصور الصادمة والمتدفقة من غزة، وعدد القتلى الضخم ممن تم استهدافهم عبر الذكاء الاصطناعي، والحصار والتجويع وانتشار الجوع والأمراض نتيجة للحصار الكامل ومنع الطعام والماء والوقود والأدوية، والذي كان بمثابة خرق للقانون الدولي والإنساني، ترك ندباته وكدماته على الفلسطينيين في كل مكان. وعادة ما أخبر الآباء والأجداد الأجيال اللاحقة عن النكبة الأولى، وما جرى فيها، إلا أن النظر إلى الأرض القاحلة مثل سطح القمر التي خلفها الإسرائيليون، والقتل وتدمير أماكن العبادة والصحة والتعليم والبيوت، صدم الفلسطينيين. وقد وصف مؤرخٌ عسكري أمريكي الحملة العسكرية ضد غزة بأنها “الحملة الأكثر كثافة لعقاب المدنيين في التاريخ”، وبعيداً عن هذه الصور وتلك التي تلاحقهم من النكبة الأولى، يتساءل الغزيون عن نهاية الحرب، إن كانت ستنتهي قريباً، وإن كانوا سيعودون إلى بيوتهم المحطمة، وإن كانت غزة ستعود لحالتها الطبيعية.
أول حرب عالمية تبث حية
ويقول خالدي إن الصور التي خرجت من غزة، وصورت الطريقة التي عاقبت فيها إسرائيل الغزيين، هي أول مرة يشاهد فيها جيل عالمي صوراً تبث حية، وعلى مدى أشهر، وقد غيرت المفاهيم، خاصة تلك التي تم تبادلها على منصات التواصل ووسائل الإعلام البديلة عمّا وَرَدَ في الإعلام المعروف.
وفي استطلاع أجري في كانون الثاني/ يناير، وجد أن الأمريكيين ما بين 18- 29 عاماً يعتقدون أن إسرائيل ارتكبت إبادة جماعية في غزة. وحطمت الحربُ الإجماعَ الجيلي وتواطؤ الليبراليين الغربيين الداعم لإسرائيل، رغم مظاهر العيوب في قوتها.
وفي أثناء الحرب اتهمت جنوب أفريقيا إسرائيل بالإبادة الجماعية أمام “محكمة العدل الدولية” بشكل شوّه صورتها كدولة تخرق القانون الدولي، مع أنها ليست المرة الأولى التي تفعل هذا، لكن الألم الذي تسبّبت به للفلسطينيين أثّر بشكل خطير على شرعيتها الدولية.
وربما تركت الحرب آثاراً طويلة على السياسة في داخل إسرائيل والعلاقة مع الدول العربية وموقع إسرائيل بالمنطقة، وربما نتائج الانتخابات الأمريكية، هذا إن لم تؤد لحرب إقليمية.
سقوط العقيدة الأمنية
وستؤدي الحرب إلى تغير في إستراتيجية إسرائيل تجاه الفلسطينيين. فالهجوم المفاجئ في 7 تشرين الأول/أكتوبر، ومظاهر الفشل الأمني والعسكري التي تبعت ذلك، كشفت عن محدودية القوة الإسرائيلية وفعالية رقابتها، وأدى الفشل لمقتل وأسر أكثر من 1,000 جندي إسرائيلي، والسيطرة على بلدات حدودية ظلت خارجة عن السيطرة حتى 10 تشرين الأول/أكتوبر. وكانت هذه أسوأ هزيمة تتكبّدها إسرائيل منذ 1948. وهذه أول مرة تواجه فيها حرباً بهذه الشراسة على أراضيها. وباستثناء الانتفاضة الثانية، لم تتعرّض إسرائيل لشيء يقارن بالهجوم الأخير، والذي حدث ضد سكانها وأراضيها.
ويقول الكاتب إن الهزة التي أحدثتْها الهجمات على إسرائيل يجعل من خططها لغزة، التي ظلت مركز المقاومة والتشرد خلال العقود الماضية، غير واضحة، مع أنها تتحدث عن مواصلة السيطرة الأمنية بشكل دائم على غزة، وهو ما يجعل من نهاية المرحلة الحالية من الحرب غير قريبة.
ويرى خالدي أن هجمات تشرين الأول/أكتوبر تؤكد نهاية العقيدة الأمنية، التي أطلق عليها خطأ بـ “الردع”، وهي عقيدة تعلمها قادة البالماخ والأرغون، موشيه دايان ويغال ألون من الضباط البريطانيين، في الثلاثينات من القرن الماضي، وتقوم على استخدام القوة المفرطة والضربات الوقائية وقمع السكان المؤيدين للمقاومة، بحيث تجبر هذه على الخنوع. وفي فترة الحصار الدائم على غزة أطلق عليها “قص العشب”، أي ضربات بين الفترة والأخرى.
ويعتقد خالدي أن العقيدة هذه انهارت، ولو بشكل مؤقت لأن الهجمات كشفت عن إفلاس نهج القوة لحل قضية سياسية، وتظهر فشل القيادة الإسرائيلية في تعلم أي شيء، بل وزادت من القوة: “إن لم تنفع القوة مارس قوة أكثر”، ونسي قادة إسرائيل مبدأ كلاوفيتز، بأن الحرب هي استمرار للسياسة، وإن بطرق أخرى.
وبحسب الباحث السياسي الاجتماعي الإسرائيلي ياغيل ليفي، فإن نهج إسرائيل في غزة يرى أن “الإطار السياسي هو إطار عسكري”، فهو مدخل يقوم على الانتقام والإهانة بدون إستراتيجية خروج، ولا رؤية مشتركة بين قيادة منقسمة، والتلويح فقط بشعار فارغ من “النصر الكامل”.
وهناك أدلة كثيرة على محاولة إسرائيل استغلال الحرب للقيام بعمليات تطهير عرقي واسعة للفلسطينيين إلى مصر والأردن، وأن أمريكا مشت بطريقة مخجلة في المشروع، حيث حاولت إقناع البلدين اللذين رفضا الفكرة بالكامل.
تدمير “حماس”؟
وبدلاً من تحديد هدف سياسي واضح، أعلنت القيادة الإسرائيلية عن هدفها النهائي، تدمير “حماس” بالكامل، وهي حركة وفكرة وأيديولوجية منتشرة في فلسطين والشتات، ولا توجد أدلة عن قدرة الجيش على هزيمة “حماس” في غزة، ولو استطاعت الحركة الحفاظ ولو على جزء من قوتها العسكرية بعد أشهر من القتال الشرس، فستعلن عن انتصار هو بمثابة رقصة حرب فارغة.
وكما كتب هنري كيسنجر: “رجل العصابات ينتصر حتى لو لم ينهزم، ويخسر الجيش التقليدي حتى لو انتصر”.
ومهما حدث، فلن تهزم “حماس” كقوة سياسية وأيديولوجيا. وفي ظلّ الأثر المدمر على إسرائيل بسبب هجمات تشرين الاول/أكتوبر والرد الوحشي الإسرائيلي، فلن تختفي فلسفة المقاومة لـ “حماس”، طالما لم يوجد أي منظور لوقف الاحتلال العسكري والاستعمار واحتلال الفلسطينيين.
منظور فلسطيني قاتم
ويرى الكاتب أن المنظور للفلسطينيين يبدو أكثر غموضاً من الإسرائيليين، ففي غياب صوت واحد يحدد موقفهم من المستقبل، ويمنع تدخل القوى الغربية وإسرائيل والوكلاء العرب في قرارهم، فإن أي محاولة لاختيار ممثل لهم تظل رهناً للتدخلات الخارجية، كما حدث طوال المئة عام الماضية. ورغم ما ورد من تناقض في مواقف “حماس”، من ناحية قبولها حدود 4 حزيران/يونيو 1967، للدولة الفلسطينية وعاصمتها القدس الشرقية، إلا أنها لم تتخلّ عن هدف تحرير فلسطين من النهر إلى البحر، ولم تعترف بشرعية إسرائيل، أو تنبذ العنف. لكن دعوتها لصوت فلسطيني واحد فيما بعد الهجمات، ووحدة الصف الفلسطيني يصطدم بوضع فلسطيني ينظر فيه الكثيرون إلى السلطة الوطنية بأنها مجرد متعهد لإسرائيل.
ويرى الكاتب أن إسرائيل قدمت الحرب على أنها موجهة ضد “حماس” وليس أهل غزة، وهو ما صدقته الحكومات الغربية وردّدته الصحافة الأجنبية مثل الببغاء. وبعد أشهر من القتل والدمار تبين لهذه الدول أن الحرب كانت ضد أهل غزة، بشكل أدى لتغير بمواقفها. ولم يمش السرد الإسرائيلي على معظم المراقبين الذين رأوا في الحرب عقاباً لكل الغزيين إن لم تكن إبادة جماعية لهم.
غضب عالمي
ويعتقد أن الرد الشعبي العالمي، العربي والإسلامي وعالم الجنوب وقطاعات كبرى في الولايات المتحدة وأوروبا، كشف عن حجم الغضب، وعن جهل صناع السياسة الأمريكيين وإسرائيل بحجم دعم فلسطين، وخاصة بين العرب. فقد حاول المعلقون الجاهلون بالعالم العربي تقديم رؤية أن فلسطين لم تعد مهمة للعرب ويمكن تجاهلها. وحتى بايدن، الذي واصلَ نقل الأسلحة لإسرائيل وقدّم بعض التصريحات المتعاطفة مع الفلسطينيين بات هدفاً للمتظاهرين الذين وصفوه بـ “جو الإبادة الجماعية”. ويقول خالدي إن الأنظمة العربية الديكتاتورية قد تنجح بتكميم أفواه مواطنيها وتعاطفهم مع فلسطين ومعاداتهم لإسرائيل. ومع ذلك فإن هذه الحكومات ستكون حذرة وتأخذ تعاطف مواطنيها مع فلسطين بعين الاعتبار.
المكارثية الجديدة
وأشار الكاتب لظاهرة نتجت عن حرب غزة، وهي قمع الرأي المعارض لإسرائيل، وبدعم من الكونغرس وجماعات اللوبي، والتي جعلت من نقد الصهيونية والاستعمار الاستيطاني معاداةً للسامية، وهو أمر غريب، كما يقول خالدي، حيث تم التركيز على مقتل الإسرائيليين وعدم الاهتمام بالفلسطينيين “البنيين”. فالمكارثية السياسية والإعلامية والنخب الغربية اعتبرت مقتل إسرائيلي أهم من مقتل 25 شخصاً مقابله. وتم وصف قتل الفلسطينيين بلغة محايدة، وأنهم ماتوا، أو ضحايا المجاعة. ويرى أن النهج هذا هو سلاح ذو حدين، وقد يخدم إسرائيل على المدى القريب من خلال تقوية الدعم المتلاشي لإسرائيل عبر تصوير مشوه للواقع في فلسطين، ويتسم بالمعايير المزدوجة. وهذا واضح من قطاع كبير من الشباب في الولايات المتحدة والغرب عامة الذين باتوا يعزفون عن المصادر الإعلامية الرسمية التي تقدم الأخبار عبر المنظار الإسرائيلي، لصالح وسائل بديلة، فهم يعرفون أن الإعلام الرسمي يمارس رقابة على الموت والدمار والعقاب الذي تمارسه إسرائيل ضد غزة، بشكل دعاهم لاحتقار هذا الإعلام وتجنب ما يرد فيه.
وعلى الرغم من الرقابة وتضييق المساحة أمام الجماعات المناصرة لفلسطين، إلا أن رأياً عاماً مؤيداً لها بدأ يظهر بين الأجيال الشابة وانعكس في استطلاعات الرأي الداعية لوقف إطلاق النار واتهام إسرائيل بالإفراط في استخدام القوة. وقد حل التعاطف مع غزة والدمار فيها محل التعاطف الأولي مع إسرائيل بعد الهجمات.
فمنذ انتخابه عام 1972، ظل بايدن متمسكاً بفكرة حول إسرائيل وفلسطين، وتفضل الأولى. ولم تقم إدارته بعكس أيّ من سياسات سلفه ترامب، نقل السفارة الأمريكية إلى تل أبيب، وإغلاق القنصلية الأمريكية في القدس الشرقية، وإغلاق بعثة فلسطين في واشنطن والاعتراف بسيادة إسرائيل على الجولان. وبدلاً من التخلي عن سياسات ترامب ورعايته التطبيع بين إسرائيل ودول عربية، في ما عرف باتفاقيات أبراهام، ذهب بايدن وفريقه أبعد من تجاهل القضية الفلسطينية فقط، بل والضغط على السعودية للتطبيع مع إسرائيل. وفي وسط الدمار والقتل، لم تتخل إدارة بايدن عن الفكرة، وما كشفت عنه الهجمات من انقسام بين الأنظمة وغالبية سكانها، بل وذهبت أبعد في دعم إسرائيل و”حقها بالدفاع عن النفس” ما قوّضَ الدعم لوكلائها العرب.
وشمل الدعم الأمريكي لتل أبيب رفض وقف إطلاق النار، وطائرات محملة بالأسلحة. وبهذه الأعمال، وترديده المستمر للرواية الإسرائيلية كشف بايدن عن عداء عميق للفلسطينيين. وحتى عندما دعا لوقف التجويع في غزة، فقد كان رداً على مقتل عمال إغاثة أجانب.
وبدت دعوته لحل الدولتين شعاراً فارغاً، لأن بايدن وإدارته لم يعبّرا عن استعداد لفرض شروط تحقيقها، مثل إنهاء احتلال قائم منذ 57 عاماً وعمليات استيطان زرعت 750,000 مستوطن على 60% من الضفة الغربية، والسماح للفلسطينيين باختيار ممثليهم الديمقراطيين. وبدون وسائل لتحقيق هذه المطالب فإن حل الدولتين ظل دائماً بلا معنى، خداع أورويلي. وبدلاً من تأكيد حق تقرير المصير وسيادة فلسطينية، فهي وسيلة للحفاظ على الوضع القائم.
وبالنظر لما حدث في الستة أشهر الماضية، فمن الواضح أن الذبح الوحشي للمدنيين، وعلى قاعدة غير مسبوقة، وملايين المشردين والتجويع الجماعي والمرض الذي تسبّبت به إسرائيل، وأننا في بداية مرحلة جديدة نحو الهاوية التي هبط إليها الدفاع على فلسطين. ومع أن المرحلة الحالية تحمل علامات من المراحل السابقة في حرب المئة عام، فإن هذه فريدة، وخلقت صدمات وكدمات عميقة، فهي لن تنهي المذبحة، بل نحن أبعد عن نهايتها والتوصل لحل دائم واحد، يقوم على تفكيك بنى القمع والاضطهاد والتفوق، إلى حل عادل، وحقوق متساوية بالكامل، واعتراف متبادل.