تصاعدت خلال الآونة الأخيرة موجة اعتقالات بحق المشاركين في الفعاليات الاحتجاجية الداعمة لغزة في عدد كبير من البلدان العربية، حيث وجهت لهم تهم فضفاضة على شاكلة نشر الأخبار الكاذبة ومشاركة جماعات إرهابية في أهدافها، فيما تعرض بعضهم للتنكيل الذي وصل حد السحل للفتيات.
ورغم قلة الفعاليات الشعبية الداعمة لغزة في البلدان العربية مقارنة بالبلدان الأخرى، فإنها تؤرق مضاجع السلطات والحكومات التي انتفضت لملاحقة المشاركين فيها واستهدافهم بشكل مباشر في رسالة ترهيب وإنذار لكل من يفكر أن يدعم غزة بالقول أو بالفعل.
شهد العالم بعد شهر واحد فقط من بداية حرب غزة أكثر من 3700 مظاهرة مناصرة للقضية الفلسطينية ومنددة بجرائم الاحتلال، كان نصيب الأسد منها للدول التي تدعم جيش الاحتلال وأهدافه الوحشية، وعلى رأسها الولايات المتحدة التي شهدت 600 تظاهرة، وألمانيا 170 تظاهرة، بحسب مشروع بيانات مواقع النزاع المسلح (ACLED).
تأتي تلك الاحتجاجات في الوقت الذي تقف الأنظمة والحكومات العربية موقف المتخاذل إزاء ما يتعرض له أهل غزة على أيدي جيش الاحتلال المدعوم من أعتى جيوش العالم، ليبقى السؤال: لماذا تناهض تلك الأنظمة مثل هذه الفعاليات المناصرة للفلسطينيين؟ وهل أصبح دعم غزة جريمة تستوجب الملاحقة والعقاب؟
الأردن: اعتقالات وسحل وتنكيل
كان الشارع الأردني الأكثر حضورًا على خريطة الاحتجاجات العربية الداعمة لغزة، وذلك بحكم التاريخ والديموغرافيا، حيث انتفض الأردنيون نصرة لأشقائهم في القطاع ضد بلطجة الاحتلال، وجابت التظاهرات العاصمة عمّان وأجوارها، فيما توقع البعض أن تكون تلك البداية نحو انتفاضة عربية شاملة.
لكن يبدو أن تلك الانتفاضة لم تُعجب السلطات الأردنية التي شنت حملة اعتقالات واسعة ضد المشاركين في تلك الاحتجاجات، سواء من روج لها ودعمها على منصات التواصل الاجتماعي أم من شارك فيها عمليًا، إذ كانت لغة العنف والقوة هي اللغة الرسمية في التعامل مع تلك الفعاليات.
وفق توثيق منظمة “هيومن رايتس ووتش” فقد اعتقلت السلطات الأردنية مئات المواطنين الذين دعموا غزة عبر الإنترنت، منهم الناشط البارز أنس الجمل، وأيمن صندوقة، وهو أمين عام حزب سياسي، حيث وجهت إلى بعضهم اتهامات في إطار قانون الجرائم الإلكترونية الجديد، سيئ السمعة، فيما قالت مديرة الشرق الأوسط في المنظمة، لما فقيه: “تدوس السلطات الأردنية الحق في حرية التعبير والتجمع في محاولة لقمع النشاط المتعلق بغزة. في أقل من شهرين، انهارت التأكيدات الحكومية الأخيرة بأن قانون الجرائم الإلكترونية الجديد لن يُستخدم لانتهاك الحقوق، إذ استخدمته السلطات ضد الأردنيين لإخماد نشاطهم”.
أما ميدانيًا، فقد تعرض المشاركون في التظاهرات الفعلية التي عمت ميادين وشوارع المملكة، لموجات إضافية من الاعتقالات والتنكيل، لا سيما تلك التي كانت أمام مقر سفارة الكيان المحتل في العاصمة عمّان واستمرت لأكثر من 10 أيام.
شهدت تلك التظاهرات ردود أمنية عنيفة وقاسية، بلغت حد سحل الفتيات المشاركات، في مشهد أحدث صدمة للشارع الأردني الذي طالب بإقالة وزير الداخلية ومحاسبة الحكومة، فيما تعرض المئات للاعتقال، وحوصرت الكثير من الفعاليات الاحتجاجية في العاصمة وغيرها.
مصر: حملة سلالم نقابة الصحفيين
لا يختلف الوضع كثيرًا في مصر عن نظيره في الأردن، وإن كان أكثر قسوة، حيث لا تظاهرات ولا احتجاجات تجوب الشوارع والميادين كما هو الحال في المملكة، إذ اقتصر الأمر على وقفات احتجاجية وإفطار رمزي على الخبز فقط على سلالم نقابة الصحفيين بوسط القاهرة يشارك فيها عدد لا يتجاوز العشرات.
رغم تواضع تلك الوقفات من حيث العدد والفعاليات، إذ تمحورت في أغلبها على بعض الشعارات والهتافات المطالبة بإدخال المساعدات وفتح المعبر والتنديد بجرائم الاحتلال، فإنها لم تسلم من بطش السلطة الأمنية التي استهدفتها بشكل مثير للجدل.
فبعد الوقفة الأخيرة التي كانت على سلالم النقابة في الثالث من الشهر الحاليّ، فوجئ عدد من المشاركين فيها بحملة اعتقالات داهمة لعناصر الأمن الوطني استهدفت أكثر من 10 صحفيين ونشطاء من بينهم: أحمد صبحي، وأحمد عبد الكريم، وطاهر جمال الدين، ومحمود عبد الهادي، ومصطفى أحمد، وعمر محمود، وعبد الكريم مجدي، ومحمد عبد التواب، ومصطفى نصر، ووائل أحمد، ومحمد عواد، هذا بخلاف ما يثار بشأن اعتقال الناشط أحمد دومة المفرج عنه مؤخرًا بعد 10 سنوات من الحبس.
وعُرض المعتقلون على نيابة أمن الدولة، حيث مثلوا للتحقيق في القضية التي تحمل رقم 1277 لسنة 2024 بذات التهم الفضفاضة التي وجهت للمئات من قبل على مدار السنوات الماضية وهي نشر أخبار كاذبة ومشاركة جماعة إرهابية في تحقيق أهدافها.
الخليج: تجريم الدعم والداعمين
رغم ندرة الاحتجاجات الشعبية الداعمة لغزة في دول الخليج لا سيما السعودية والبحرين والإمارات، فإن الاستهداف لكل أوجه الدعم كان العنوان الأبرز للمشهد، حيث شنت البلدان الـ3 سلسلة اعتقالات لكل من يدعم غزة بالقول أو بالفعل، على الإنترنت أو في الشوارع والميادين، في محاولة لإسكات كل الأصوات المتعاطفة مع القضية الفلسطينية برمتها.
على العكس تمامًا، لم تكتف أنظمة تلك البلدان باستهداف الداعمين لغزة فقط، بل سلطت جيوشها الإلكترونية لنهش جسد المقاومة وتشويهها وتحميلها مسؤولية ما وصلت إليه الأوضاع الإنسانية في قطاع غزة، متماهية مع السردية الإسرائيلية في استهداف حركات المقاومة والتقليل من طوفان الأقصى شكلًا ومضمونًا.
ندد المرصد الأورومتوسطي لحقوق الإنسان، في بيان سابق له بسلسلة الاعتقالات التي شنتها أنظمة البلدان الخليجية الـ3 بحق نشطاء ومواطنين على خلفية الحق في التعبير والمطالبة بدعم الشعب الفلسطيني وإلغاء اتفاقيات التطبيع بين الدول العربية والكيان المحتل.
إذ وثق المرصد اعتقال ما لا يقل عن 35 مواطنًا بحرينيًا منذ 15 أكتوبر/تشرين الأول، الوضع كذلك في الإمارات حيث اعتقلت السلطات الأمنية الناشط منصور الأحمدي الذي يرأس لجنة شباب القدس في الدولة يوم 19 نوفمبر/تشرين الثاني، هذا بخلاف استدعاء عدد من الأكاديميين في جامعات البلاد وناشطي الرأي على مواقع التواصل الاجتماعي، إلى مقرات جهاز أمن الدولة، وتوجيه التحذير المشدد لهم بعدم تنظيم أو المشاركة في أي فعاليات لها علاقة بالتضامن مع غزة.
كما وثق المرصد اعتقال السلطات السعودية عدد من المعتمرين في مكة والمدينة المنورة على خلفية تعبيرهم عن التضامن مع غزة والدعاء للفلسطينيين، فضلًا عن اعتقال آخرين بسبب ارتدائهم الكوفية الفلسطينية أو حملهم العلم الفلسطيني، فيما خرجت عشرات التصريحات والتعليمات من إدارة الحرمين بمنع أي شعارات داعمة لغزة في أثناء الطواف أو الصلاة، وتحميل من يتجاوزها المسؤولية الكاملة بدعوى أن مثل تلك الشعارات ليس مكانها المسجد.
لماذا تخشى الحكومات العربية من التظاهرات؟
من المقارنات المثيرة للغرابة والتعجب أن يسمح الكيان المحتل بتظاهرة داعمة لغزة في منطقة كفر كنا بالجليل السفلي شمال شرق الناصرة في 2 مارس/آذار الماضي في الوقت الذي تمنع فيه الحكومات العربية شعوبها من التضامن، حسبما أشار الباحث السياسي المصري عمرو هاشم ربيع الذي تساءل: لماذا لا ترخص العديد من السلطات العربية لشعوبها التظاهر نصرة لأهل غزة؟ أليس من الغريب أن تنظم مظاهرات لذات الغرض في عواصم أوروبية والولايات المتحدة وآسيا وكل بقاع العالم، بل وداخل المناطق المحتلة بفلسطين، ولا يرخص للتظاهرة لنفس الغرض في بلدان عربية شتى؟
أرجع الباحث المصري خشية الأنظمة العربية من السماح بالتظاهرات الداعمة لغزة إلى 7 عوامل:
أولًا: غياب منظومة حقوق الإنسان والحريات العامة في تلك البلدان، لافتًا إلى أن حق التظاهر كأحد مفردات تلك المنظومة، يُعتبر وفق السلطة الحاكمة، قرينًا بالفوضى، ومن ثم فإن السماح به يستحيل تحقيقه.
ثانيًا: إلباس التظاهرات بعدًا دينيًا، كما هو الحال في المملكة العربية السعودية التي تروج على لسان رجال دينها أن مثل تلك الفعاليات لا تتفق مع الشريعة الإسلامية وتخالف صحيح الدين، وعليه فإن المشارك فيها آثم، كما أنه على الدولة مناهضتها حماية للدين من العابثين به.
ثالثًا: قوانين صورية لا قيمة لها، هناك بعض الدول لديها منظومة قوانين تشرع التظاهر كأحد الحقوق الإنسانية المعترف بها، لكنها في الوقت ذاته تفرغها من مضمونها، إذ جعلتها مجرد شكل أو واجهة غير قابلة للتنفيذ، فالتظاهر يحتاج إلى تصريح من الجهات الأمنية التي تتلكأ أو تتباطأ وتعرقل إصدار تلك التصريحات بما يجهض تلك الفعاليات من منبعها.
رابعًا: خشية اختراق التظاهرات، تتحجج الأنظمة والحكومات التي تصر على حجب التظاهرات الداعمة لغزة من أن قرار المنع يأتي خشية اختراق تلك الفعاليات من العناصر المندسة التي تستهدف تخريب البلد والإساءة إليها، ممن يطلقون عليهم الطوابير الخامسة والسادسة، وهي الذريعة التي تحولت مع مرور الوقت إلى سلاح يُشهر في وجه كل من يفكر في الدعم والمشاركة، لا سيما أن التهم جاهزة، وعلى رأسها مشاركة جماعات إرهابية في تحقيق أهدافها.
خامسًا: تغير المسار واتساع رقعة الاحتجاجات، فمعظم البلدان التي تحجب مظاهرات التضامن مع غزة تعاني من ملفات حقوقية كارثية وأخرى اقتصادية وسياسية صادمة، وعليه تخشى تلك الأنظمة من أن تتحول تلك الفعاليات من التنديد بجرائم الاحتلال ضد الفلسطينيين إلى استهدافها بشكل شخصي، خاصة تلك التي يعاني شعبها من أوضاع معيشية صعبة كمصر والأردن، وهو القلق الذي يدفع تلك الأنظمة لمنع مثل تلك الاحتجاجات من جذورها.
سادسًا: ليس لها مبرر، تروج بعض الأنظمة إلى أن دعم غزة ليس شرطًا أن يكون عبر التظاهر الشعبي، أو الاحتجاجات الميدانية، لافتة إلى أنها تقدم كل ما لديها لنصرة القطاع من خلال إرسال المساعدات والتوسط لإنهاء الحرب، كما تفعل مصر والإمارات والسعودية والأردن.
سابعًا وأخيرًا: الخوف من كشف عجز الحكام والقادة، حيث ترى حكومات تلك الدول أن السماح بالتظاهرات لدعم المقاومة والغزيين والتنديد بجرائم الاحتلال في ظل الصمت الرسمي سيُظهر بشكل كبير عجز القادة والحكام في مواجهة تلك الأزمة، ويكشف ضعفهم وتواضع نفوذهم إقليميًا عكس ما يدغدغون به مشاعر شعوبهم ليل نهار عن قوتهم وتأثيرهم على المستوى الإقليمي والدولي.
حين يكون دعم غزة جريمة
قبل عقدين تقريبًا وفي مثل تلك الأحداث التي تتعرض لها فلسطين، والتي لا تتناسب مطلقًا مع بشاعة المشهد الحاليّ في غزة، كانت الشوارع والميادين والجامعات العربية والإسلامية تنتفض بالتظاهرات الحاشدة لدعم الفلسطينيين، وكانت تُقام تحت رعاية ومباركة السلطة وحماية الأمن.
غير أن اليوم ورغم الإجرام الوحشي وحرب الإبادة التي يشنها الاحتلال التي أودت بحياة أكثر من 33 ألف شهيد، معظمهم من النساء والأطفال، و70 ألف مصاب، وزجت بمليوني إنسان تقريبًا في آتون النزوح والتشريد بعدما هُدم ثلثي القطاع، بجانب ممارسة المحتل لحرب تجويع فاشية ضد نساء وأطفال غزة، غابت الفعاليات الداعمة عن شوارع العرب، في الوقت الذي لم تتوقف فيه تلك التظاهرات عن ميادين الدول الحليفة لـ”إسرائيل” والداعمة لها في تلك الحرب عسكريًا وسياسيًا واقتصاديًا، في مقارنة تعكس قبح الصورة وخذلان تفاصيلها.
وبعيدًا عن مبررات وحجج الأنظمة السلطوية العربية في منع إبراز الدعم الشعبي لغزة، فإن ما يحدث ليس خيانة للشعب الفلسطيني فقط، بل هو خيانة للإنسانية في مجملها، ووأد مع سبق الإصرار والترصد لمروءة العرب وأخلاقياتهم المتوارثة والمُعززة دينيًا، ومنح العدو التاريخي لهم قبلة الحياة للاستفراد بهم واحدًا تلو الآخر.
ليبقى السؤال: هل أصبح دعم غزة جريمة يؤخذ صاحبها بالنواصي والأقدام؟ هل بدل العرب مرتكزاتهم القومية والوطنية والأخلاقية والعقدية إلى هذه الدرجة المتطرفة، من أقصى اليمين الداعم إلى أقصى اليسار المناهض والمتخاذل؟
نون بوست |صابر طنطاوي