2024-11-24 08:30 م

غزة وفوضى النظام العالمي-بعد 6 أشهر على الحرب هل فقدت أمريكا تأثيرها؟

 نشرت صحيفة “الغارديان” تقريراً للمحرر الدبلوماسي باتريك وينتور، تحدث فيه عن الطريقة التي عطلت فيها الحرب في غزة العلاقات الدولية.

 فمنذ وقت ليس ببعيد انتشرت صورة تظهر الدخان المتصاعد من انفجار تسببت به القنابل التي قدمتها أمريكا لإسرائيل، ويظهر في الخلفية خمس مظلات  ترمي المساعدات الأمريكية على نفس الحي المدمر.
وتمثل الصورة في حد ذاتها فرصة مثالية لأي كاتب لوضعها على غلاف كتاب يصف االنظام الفوضوي العالمي الذي نشأ بسبب غزة، بلا لاعب كبير فيه، نظام قائم أو مؤسسات فاعلة.

وأضاف أن الدول العظمى تتنافس في المنطقة، لكن أياً منها لم يكن قادراً على فرض رؤيته عن النظام.

 وقبل فترة، كتب الصحافي كريغ كارلستورم في مجلة “فورين أفيرز”  قائلاً: “انسَ الحديث عن نظام القطب الواحد أو الأقطاب المتعددة”، فـ “الشرق الأوسط بلا قطب، ولا أحد يتحكّم”.

ومن المفترض أن تكون الحروب هي والد كل شيء حسب هيرقليطس، والكثير من المراقبين يعتقدون أن هذه الحرب ستحدّد مستقبل كل شيء، وأنها نقطة تقدم في صالحهم.

وتعتقد إيران أن الولايات المتحدة باتت قريبة، أكثر من أي وقت مضى، على الخروج من العراق. وقال رئيسها إبراهيم رئيسي إن الحرب في غزة ستؤدي إلى “تحول في النظام الظالم الذي يحكم العالم”.

وزعم نصر الله، حليفه اللبناني، وزعيم “حزب الله” الذي تبادل إطلاق النار مع إسرائيل، أننا أمام “مرحلة تاريخية جديدة” لكلّ الشرق الأوسط قاطبة، وأن إسرائيل لن تكون قادرة على الصمود أمام طوفان الأقصى.

وبالمقارنة، تعهد رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، في 9 تشرين الأول/ أكتوبر، وبعد يومين من هجوم “حماس”، الذي أشعل الحرب، بأن  المنطقة ستتغير لصالح إسرائيل، و”ما سنفعله لعدونا في الأيام المقبلة سيتردّد صداه فيهم لعدة أجيال”.

وبعد ستة أشهر، يزعم كلُّ طرف أنه لم يخسر الحرب، في وقت لم تقف فيه روسيا والصين موقف المتفرج، ولكنها لم ترفعا أيّ إصبع لتخفيف وضع الولايات المتحدة الأمريكية. بل ولامَ وزيرُ الخارجية الروسي سيرغي لافروف أمريكا بأنها  المسؤولة عن الفوضى، للطريقة التي عالجت فيها العلاقات الإسرائيلية- الفلسطينية. وقال: “إن الولايات المتحدة هي سبب التصعيد الحالي لاحتكارها الوساطة وتقويضها الإطار القانوني الدولي للتسوية”. واستخدمت روسيا الدعم الأمريكي لإسرائيل كفرصة لإعادة تأهيل نفسها بعد غزوها لأوكرانيا. وفي لغة قصد منها الحديث إلى عالم الجنوب شجب لافروف “الازدواجية التي لا تصدق والمعايير المزدوجة”.

وبين الدول الصاعدة، فدروس غزة هي أن هناك حاجة لكي تنضم إلى الطاولة أصواتٌ جديدة، وليس استمرارية للأصوات التي ظلت تتحكم بالنظام العالمي منذ الحرب العالمية الثانية. وقال

فيليب نصار، المستشار البارز في الخارجية البرازيلية: “هذه الحرب بشعة، ولكنها تتحدث عن مشكلة أكبر: غياب الإصلاح لمؤسسات الحكم الدولي، وأهمها مجلس الأمن”. وأضاف: “هذه نقطة التلاقي في عالم الجنوب قاطبة، فهم يشعرون أن النظام العالمي غير متسق ومضرّ لمصالحها، ويظهر استخدام أمريكا الفيتو ثلاث مرات الكيفية التي يتم فيها التلاعب بالقواعد”، في إشارة لمنع واشنطن قرارات تدعو لوقف النار في غزة.

وتحدث الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، بنفس اللهجة، حيث قال: “النظام العالمي الحال خالٍ من المبادئ الأساسية، مثل التضامن والعدالة والثقة، ولا يمكن أن يقوم حتى بأدنى المسؤوليات”.

وقالت وزيرة خارجية جنوب أفريقيا، ناليدي باندور، إن حرب غزة هي آخر تمظهر عن النزاع ضد الاستعمار والإمبريالية، وذهبت لمحكمة العدل الدولي لكي تثبت رأيها.

وقال المحلل في المعهد الدولي للدراسات الإستراتيجية إميل الحكيم إن “كارثة غزة حرّرت، وبشكل كامل، قطاعاً كبيراً من الليبراليين والمهنيين في العالم العربي من مزاعم الغرب أنه يهتم ويلتزم بالقيم في إدارة السياسة الخارجية”.

وأضاف: “إنهم ينظرون للفشل الغربي في غزة ويشعرون بالخيانة، أو أنها إثبات لرؤية من ظلّوا ينظرون للغرب بسخرية وشك. مثلاً؛ تحوّل البعض ممن  تعاطفوا مع أوكرانيا عن مواقفهم. وليس لكبار المسؤولين والدبلوماسيين الغربيين أية فكرة عن هذه الدينامية”.

وحذرت براونين مادوكس، مديرة  المركز البحثي البريطاني المعروف تشاتام هاوس، من تداعيات حرب غزة: “التهمة هي أن الغرب يكتب القواعد التي تناسبه. ولو لم تعِ الدول التي تدعم أوكرانيا وتعمل للسلام في الشرق الأوسط فإنها ستفشل في حلّ أيّ من النزاعين”.

 ووسط هذا الوابل من الاتهامات، وَجَدَ الدبلوماسيون الغربيون أنفسهم في وضع حرج، حيث كشف كلُّ يوم يمضي عن عجزهم عن السيطرة على الأحداث، وعلقوا في حرب لم يتوقعوها في منطقة كانوا يريدون تركها، للدفاع عن حليف يرفض عمل ما يريدون.

وكلما طال أمدُ الحرب، حيث لم يتوقع أحدٌ أن يستمر لستة أشهر، كلما بدا التوتر والتناقض في السياسة الأمريكية. فبنيامين نتنياهو مصرّ على استمرار الحرب لكي ينهي “المهمة”، أما مجلس التعاون الخليجي، وبعيداً عن موقفه من “حماس”، فقد طالبَ الولايات المتحدة أن تتخذ موقفاً حاسماً وتعترف بالدولة الفلسطينية.

واتهم مسؤولُ السياسات الخارجية في الاتحاد الأوروبي، حيث أمريكا لديها العديد من الحلفاء، إسرائيلَ باستخدام التجويع “كسلاح”، بل وحتى بريطانيا، الحليف القوي، بدأت تظهر استقلالية، من نوعٍ ما، عن أمريكا.

 ومن خلال حلفائها الحوثيين في اليمن، كشفت إيران عن نفسها كلاعبٍ مرة أخرى، واستطاعت التأثير على ثلاث نقاط اختناق اقتصادية: قناة السويس، ومضيق باب المندب في البحر الأحمر، ومضيق هرمز على مدخل الخليج.

 وواجهت الدبلوماسية الأمريكية الهزيمة وراء الهزيمة بعد هجمات 7 تشرين الأول/أكتوبر، ففي 27 تشرين الأول/أكتوبر صوّتت 121 دولة في الجمعية العامة للأمم المتحدة لصالح هدنة إنسانية فورية، مقابل 14 صوتاً ضد، وامتناع 44 دولة عن التصويت. وبحلول 12 كانون الأول/ديسمبر زادت الدعوة لوقف إطلاق النار إلى 153، مقابل 10 أصوات ضد، و 23 دولة لم تصوّت.

وباستثناء الولايات المتحدة فتعداد سكان الدول التي وقفت في الصف الأمريكي لا يزيد عن 68 مليون نسمة، وهو رقم لا يمنح واشنطن القوة التي لا يستغنى عنها لو كانت هناك قوة.

وبحلول 18 كانون الأول/ديسمبر، أعلنت أمريكا عن تحالف حراس الازدهار لمراقبة وحماية الملاحة الجوية من هجمات الحوثيين، المكوّن من 10 دول. وباستثناء البحرين، التي تستقبل الأسطول الأمريكي الخامس، لم تنضم أي دولة عربية للتحالف.

وحالُ السياسة الخارجية الأمريكية الحالي، يتناقض مع الوعد عندما تولّى جو بايدن الرئاسة، حيث شكَّلَ فريق سياسة خارجية ضم رموزاً محترمة، ربما لم يظهر في التاريخ الأمريكي الحديث. وكان الفريق مفوضاً لإصلاح صورة أمريكا التي تضرّرت بسبب دونالد ترامب، والتحضير للمواجهة في بحر الصين الجنوبي. ولم تكن القضية الفلسطينية أولويةً للبيت الأبيض، لكنه افترض القدرة على التعامل معها.

 وفي آذار/مارس 2023، لم يذكر تقييم المخاطر الوطني للولايات المتحدة القضية الفلسطينية. وعندما سُئل المتحدثون باسم الإدارة عنها، كانوا يردّدون الكلام العادي حول حلّ الدولتين والشجب المعروف لإسرائيل وتصرفاتها ضد الفلسطينيين.

وحاول بايدن ترك بصمته على المنطقة بعيداً عن التسوية السلمية من خلال الممر الاقتصادي العابر للهند والشرق الأوسط إلى أوروبا كمنافس لمبادرة الحزام والطريق الصينية.

وكان بايدن واثقاً من سياسته الخارجية، ومن استماع إسرائيل لنصائحه الهادئة، وعدم السماح للغضب والانتقام بأن يأكلها. وكانت سياسته عناقَ نتنياهو وعائلات الأسرى. ولكن بايدن لم يقرأ جيداً ما حدث في إسرائيل من تغيّرات على مدى العقدين الماضيين، وكيف حضرت حكومة الحرب للتحرر من صدمة الهجوم وضرب غزة بطريقة تحلّ الأزمة الأمنية، وللأبد، وتعيد العلاقة مع الفلسطينيين، وإنْ بطريقة غير واضحة.

ويقول دانيال ليفي، المفاوض الإسرائيلي السابق، إن بايدن “يعيش في رأسه مع إسرائيل، ربما لم توجد ولم تكن موجودة أبداً”. وكان يجب على بايدن فهم شكل الحكومة الإسرائيلية ومشاركة المتطرّفين فيها، والذين وَصَفَهم، في تموز/يوليو 2023، بأنهم أكثر تطرفاً، ومُنحوا الشرعية والفرصة من نتنياهو لكي يحكموا إلى جانب حزبه “الليكود”.

ويعرف بايدن شخصية نتنياهو بأنه مثير للانقسام، ومنذ توليه منصب سفير إسرائيل بالأمم المتحدة وهو في سن الـ35 عام 1984، وعندما قابله بيل كلينتون سأل مساعديه “بحق السماء من هي القوة العظمى هنا؟”. وفي عام 2015 جاء إلى واشنطن ليلقي خطاباً في الكونغرس ضد معاهدة باراك أوباما مع إيران.

ولم تكتشف الولايات المتحدة، أو فريق بايدن، أن المصالح الأمريكية وإسرائيل تتناقض إلا بعد فترة طويلة. فمن جهة، وافقت على هدف تدمير “حماس” كقوة عسكرية وسياسية، ولكن من خلال العمليات الجراحية الدقيقة، أمر قالت حكومة الحرب إنه مستحيل. وكانت تريد تأهيل السلطة، أو قوة فلسطينية، وطلبت من نتنياهو خطة لما بعد الحرب، وهو أمر تجاهله نتنياهو خشية انهيار تحالفه.

وفي كل الجولات التي قام بها وزير الخارجية الأمريكي أنطوني بلينكن أكد أن الطريقة التي تدير فيها إسرائيل عملياتها مهمة، لكن الأحداث في غزة أثبتت أن إسرائيل لم تتقيد بمواقف أمريكا، كما بمواقف الرأي العالمي.

 وكلما انتشرت الإحاطات عن نفاد صبر بايدن من نتنياهو، وبدون فرض تداعيات على إسرائيل، كلما بدا الرئيس الأمريكي ضعيفاً أو مخادعاً، وكلاهما ليس جيداً له في عامٍ انتخابي.

 وكلما طال أمدُ الحرب واقترب موعد الانتخابات كلما بدأ بايدن يشعر بأثرها، تماماً كما يرى نتنياهو الحرب الطويلة مهمة لنجاته السياسية. ويقول المخطِّطُ الإستراتيجي في عهد أوباما ديفيد أكسلرود إن الجمهوريين رأوا في الحرب فرصة لتصوير خروج العالم عن السيطرة وعجز بايدن. وربما لم يكن “جو الإبادة الجماعية” السبب الرئيسي في عدم تحسن أداء الرئيس عن 40%، لكن هناك جيلاً بدأ يعي السياسة، ويرى في قتل الفلسطييين مسألة أخلاقية تعلم حياتهم وعصرهم.

ويقول مات داس، المستشار السابق للسناتور بيرني ساندرز، إن النقاش حول غزة تطور للحديث عن دور أمريكا في العالم. فالجيل الشاب لم يعد يقبل  المشاركة الأمريكية في العالم من خلال  استخدام وتقديم الأسلحة الفتاكة. ويرى هذا الجيل أن بلدهم يمارس معايير مزدوجة من حقوق الإنسان.

وفي بريطانيا، كان وزير الخارجية السابق ويليام هيغ أول من حَذّرَ من أن نتنياهو لن يكون قادراً على هزيمة “حماس” عسكرياً. وبدا أن الهدف هو نتنياهو، حيث نظر لزيارة بيني غانتس، عضو حكومة الحرب ومنافس رئيس الوزراء، على أنها فرصة لتقديمه كبديل، ثم جاءت تصريحات زعيم الغالبية في مجلس الشيوخ، تشاك شومر، التي هاجم فيها نتنياهو وأنه ضلَّ الطريق، وكانت تعبّر عمّا يدور في ذهن بايدن، وصورة عن التغيّر في الحزب الديمقراطي. فما قاله شومر في مجلس الشيوخ لم يكن متخيلاً قبل 10 أعوام.

ومع مرور ستة أشهر على الحرب، فحتى أكبر حلفاء إسرائيل، كترامب الذي نقل السفارة الأمريكية إلى القدس، قالوا إن الدعم الأمريكي الطبيعي لإسرائيل قد تبخّر.

ورغم القتل والدمار في غزة، لم يغيّر بايدن موقفه إلا عندما قُتل سبعة عمال إغاثة في غزة، وعندها تحرّكَ لفرض شروطه على نتنياهو، والمطالبة بخطوات فورية لحماية المدنيين والمساعدات إليهم.

المصدر: القدس العربي