2024-05-20 05:59 م

“إرهاب الجغرافيا”.. كيف خطط الاحتلال لإبادة سكان غزة؟

قالت منظمة “فورنزك آركتكشر”، المختصة في تحديد جرائم العنف التي ترتكبها الدول والجماعات، ومقرها جامعة لندن، إن دولة الاحتلال تمارس ما أسمته “إرهاب الجغرافيا” من أجل توسيع عمليات تهجير سكان قطاع غزة، لافتة إلى أن ما تقوم به يمثل “هندسة للإبادة الجماعية” اعتمادًا على أوامر الإخلاء.

أضافت المنظمة في تحقيق استقصائي أن جيش الاحتلال منذ 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023، يستخدم التدابير الإنسانية مثل “أوامر الإخلاء” و”الطرق الآمنة” و”المناطق الآمنة” كسلاح ممنهج لخدمة عملياته العسكرية وتعبيد الطريق نحو التهجير القسري الجماعي للفلسطينيين.

يتناغم ما ذكرته المنظمة مع الواقع اليومي المعاش داخل القطاع، حيث الاستهداف الممنهج للغزيين، برًا وبحرًا وجوًا، ودفعهم بسلاحي القصف والجوع نحو النزوح القسري، بعد تدمير كل البنى التحتية وتحويل مدن القطاع إلى مناطق غير آمنة ومفتقدة لمقومات الحياة كافة.

التحقيق خلص إلى أن تلك الجرائم المرتكبة والموثقة بالخرائط والصور، تشكل فيما بينها مجتمعة أرضية يمكن الاستناد إليها من الخبراء والقانونيين لاتهام دولة الاحتلال أمام المحاكم الدولية بارتكاب إبادة جماعية بحق سكان القطاع.

3 مراحل لإرهاب الجغرافيا
يشير مصطلح “إرهاب الجغرافيا” إلى توظيف الاحتلال للممرات الآمنة التي أعلن عنها من أجل توسيع عمليات قتل المدنيين، بما يعني اختيار أماكن تفتقد لمقومات الحياة وطاردة لكل ما هو كائن حي لإجبار الفلسطينيين على النزوح إليها هربًا من ويلات القصف، ثم استهدافهم في تلك المناطق التي ادعى أنها آمنة.

قسم التحقيق مخطط هندسة الإبادة الجماعية إلى 3 مراحل زمنية:

المرحلة الأولى: استمرت من 13 أكتوبر/تشرين الأول حتى 24 نوفمبر/تشرين الثاني 2023، وتتعلق بإجلاء جميع السكان من شمال غزة، ففي يوم واحد فقط أصدر جيش الاحتلال أوامر إخلاء لأكثر من مليون إنسان كانوا يعيشون في شمال القطاع، طالبًا منهم التوجه إلى وادي غزة عبر شارع صلاح الدين، الذي قال إنه سيكون ممرًا آمنًا، لكن كانت الاعتقالات والاستهدافات والقصف العشوائي في انتظارهم.

في تلك المرحلة وزعت حكومة الاحتلال أوامر الإخلاء عن طريق إلقاء منشورات من الطائرات على سكان الشمال، أو عبر الإنترنت في فترات انقطاع الكهرباء، وفي كلتا الحالتين لم تصل تلك المنشورات لأغلب الناس، ومع ذلك تم ترحيل أكثر من 67% من سكان مناطق الشمال.

المرحلة الثانية: بدأت من الأول من ديسمبر/كانون الأول 2023 ومستمرة حتى اليوم، وتسمى بـ”شبكة الإخلاء”، حيث قسم الاحتلال قطاع غزة إلى 600 منطقة مرقمة، وحدد بعضها كمناطق آمنة في الوسط والجنوب، وحث أهالي القطاع على النزوح لتلك الأماكن، لكنهم فوجئوا بالقصف ينتظرهم فيها.

استعرض التحقيق كذلك عددًا من الأمثلة لطبيعة تلك المرحلة، منها إصدار جيش الاحتلال في 3 ديسمبر/كانون الأول الماضي إعلانًا حدد فيه منطقة الفاخورة جنوب القطاع، كمنطقة آمنة، وهو عكس الواقع تمامًا، إذ جاء هذا التحديد بعد يوم واحد فقط من إعلانها منطقة عسكرية للاحتلال، الأمر الذي أوقع النازحين إليها بين كماشة مدافع جيش الاحتلال وطائراته، الأمر تكرر كذلك في حي الزيتون باتجاه المواصي، وذلك قبل ساعات من تعرضه لهجوم إسرائيلي دامٍ.

المرحلة الثالثة: وتسمى بـ”الإخلاء القسري للمناطق الآمنة” وبدأت في 22 يناير/كانون الثاني 2024 ومستمرة حتى اليوم، وتشكل تلك المرحلة ذروة مخطط التهجير الممنهج للفلسطينيين، حيث تصاعدت عمليات القصف الإسرائيلي على المناطق الآمنة بما فيها مدينة رفح، فيما لم يجد النازحون مكانًا آخر يذهبون إليه، ما تسبب في هذا المشهد اليومي لحالة الارتباك والفوضى التي تخيم على كل مناطق القطاع.

تتسق المراحل الـ3 بأهدافها المعلنة والمستترة مع ما يمارس ميدانيًا على أرض الواقع، فيهدف الاحتلال إلى تفريغ القطاع من السكان ودفعهم تحت نيران القصف والجوع نحو النزوح والهجرة، إما إلى رفح ومنها إلى الأراضي المصرية كخيار أول، وإما عبر ميناء غزة الذي تزعم أمريكا تدشينه بدعوى إدخال المساعدات فيما يتخوف البعض من أن يكون نافذة لتهجير الفلسطينيين من القطاع إلى قبرص ثم إلى بلدان أخرى.

هندسة للإبادة الجماعية
بحسب التحقيق الذي جاء في 80 ورقة، فإن جيش الاحتلال سعى من خلال أوامر الإخلاء للغزيين إلى ارتكاب إبادة جماعية بحقهم، فكل المناطق التي حثهم على الذهاب إليها كمناطق آمنة كانت في الأصل “فخاخًا” لإيقاع الفلسطينيين والإجهاز عليهم بعيدًا عن أعين الإعلام والنشطاء الموجودين في مناطق الاشتباك.

على سبيل المثال، فوجئ النازحون من الشمال باتجاه شارع صلاح الدين الذي قال جيش الاحتلال إنه آمن، بكمائن مسلحة من جنود المحتل، فضلًا عن قصف متكرر من الطائرات المسيرة، بجانب تنفيذ عمليات إعدام ميدانية بحق مدنيين، وفق ما نقلته المنظمة عن شهود عيان.

الأمر تكرر كذلك في أكثر من مكان، حيث جمع الاحتلال – عبر أوامر الإخلاء – الفلسطينيين في حيز جغرافي لا يصلح للعيش، وذلك بعدما دمر البنية التحتية في القطاع وقضى على كل معالم الحياة فيها، ليتركهم يواجهون مصيرهم المحتوم، فمن لم يمت بالرصاص مات بالجوع، ومن لم يمت بكليهما مات بالخوف والهلع من حجم القصف والدمار الذي قضى على الأخضر واليابس.

تتسق رواية المنظمة أيضًا مع روايات شهود عيان تحدثوا لـ”نون بوست”، كشفوا أن كل التجمعات التي نزحت من أماكنها استجابة لأوامر الاحتلال تم استهدافها، فقد أشار محمد خليل (45 عامًا) الذي كان يسكن في الشمال، أنه قد جاءهم أمر إخلاء عن طريق منشور بالتوجه إلى دير البلح بوسط القطاع، وإلا سيقصف المربع السكني الموجود به هو وعائلته، وبالفعل خرج ما يقرب من ألف شخص باتجاه المنطقة الآمنة بحسب المنشور، لكنهم فوجئوا وهم بالطريق بالطائرات المسيرة تستهدفهم بشكل ممنهج، ما تسبب في سقوط العشرات منهم – معظمهم أطفال ونساء – في غضون دقائق معدودات.

وأضاف خليل أنه رغم رفع النازحين الرايات البيضاء في إشارة إلى أنهم عزل لا يملكون سلاحًا وأنهم استجابوا لأوامر الإخلاء، فإن ذلك لم يغير من الأمر شيئًا، فكانت القذائف أسبق من كل استغاثات، استشهد من استشهد وجرح من جرح ومن كتبت لها بقية من حياته هرول يمينًا ويسارًا حتى أفرغت المسيرات قذائفها.

ملاحقة الاحتلال دوليًا
خلص التحقيق الاستقصائي إلى أن مراحل الإرهاب الجغرافي الـ3، وتفاصيل هندسة الإبادة التي تخطط لها دولة الاحتلال، والموثقة بالأدلة والمعلومات التوضيحية، بجانب المجازر الأخرى كاستهداف المستشفى الأهلى المعمداني وغيرها من مراكز الإيواء الخاضعة للرقابة الأممية، من الممكن أن تشكل مجتمعة أساسًا يستند إليه خبراء لاتهام “إسرائيل” بارتكاب إبادة جماعية بحق سكان القطاع.

ومن ثم فإن حالة الهيجان التي عليها الاحتلال جراء صدمة الطوفان قادته نحو ارتكاب جرائم ضد الإنسانية، وأوقعته في فخاخ الملاحقات الدولية استنادًا إلى القانون الدولي ومبادئ حقوق الإنسان واتفاقيات جنيف الـ4 الخاصة بحماية حقوق الإنسان الأساسية في حالة الحرب.

وهكذا يقدم الاحتلال، المأزوم سياسيًا وعسكريًا أمام المقاومة وصمود الغزيين، هداياه الثمينة لخصومه، الأمر يتطلب فقط وضع خطط مدروسة لاستهداف كيانه أمام المؤسسات القضائية الدولية، كمحكمة العدل والجنائية الدولية، وفي ظل توافر الأدلة والوثائق التي تثبت تلك الجرائم بالصوت والصورة وشهود العيان، فإن المشهد قابل للتوظيف بما يخدم القضية الفلسطينية في العموم ويفضح عنصرية وإجرام الدولة المحتلة ويجردها من ألبسة الدعم التي تتساقط من عليها واحدة تلو الأخرى منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول الماضي.

السؤال هنا: على كاهل من تقع تلك المهمة؟ ومن من الأنظمة العربية يجرؤ على الإقدام على تلك الخطوة أسوة بما فعلته جنوب إفريقيا وأيدتها في ذلك دول أخرى غير عربية؟ القدر يمنح العرب فرصة إضافية لتطهير اليد من دنس الخذلان والانبطاح، فهل آن الأوان لاستغلال الفرص الضائعة؟


المصدر: نون بوست