منذ أن بدأت "تل أبيب" عدوانها الحالي على قطاع غزة قبل نحو 6 أشهر، تسارعت وتيرة عمليات الاعتقال الإسرائيلية في جميع الأراضي المحتلة، وإن بنسب متباينة بين منطقة وأخرى، لكن في العموم، فإن حصيلة تلك السياسة كانت زيادة أعداد الأسرى في سجون الاحتلال إلى أكثر من الضعف، وفقاً للبيانات الصادرة عن مؤسسات السلطة الوطنية الفلسطينية.
وتشير تقديرات الجهاز المركزي الفلسطيني للإحصاء إلى أن إجمالي عدد الأسرى الذين جرى اعتقالهم منذ بدء العدون على القطاع وصل لغاية تاريخه إلى نحو 11800 أسير، 66% منهم من الضفة الغربية و33.8% من قطاع غزة.
هذا التباين في أعداد الأسرى بين الضفة والقطاع يمكن تفسيره بأن الأرقام المتعلقة بالقطاع مجرد تقديرات أولية، إذ لا تتوفر حتى اليوم أي بيانات أو أرقام إحصائية دقيقة عن عدد الفلسطينين الذين جرى اعتقالهم من القطاع منذ شهر أكتوبر الماضي، إذ يمارس الاحتلال بحقهم جريمة الإخفاء القسري، بحسب ما تؤكد هيئة الأسرى، التي تضيف في تقرير لها صدر مؤخراً أن حصيلة حملات الاعتقال التي تمت منذ بدء العدوان الحالي المستمر أسفرت عن اعتقال أكثر من 7670 شخصاً في الضّفة، من بينهم نحو 246 سيدة أو فتاة، بمن فيهن النساء اللواتي اعتقلن من الأراضي المحتلة عام 1948، ونحو 500 طفل، ونحو 61 صحافياً، تبقى منهم رهن الاعتقال 40 صحافياً، وجرى تحويل 23 منهم إلى الاعتقال الإداريّ.
النازية الجديدة
لا تخرج عمليات الاعتقال التي نفذتها، ولا تزال تنفذها، القوات الإسرائيلية في مدن القطاع ومناطقه كافة عن تلك التي نفذتها القوات النازية أثناء اجتياحها لأوروبا، والقوات الأميركية خلال احتلالها كلاً من فيتنام وأفغانستان والعراق والصومال وغيرها، بل إن "إسرائيل" تفوقت عليها من حيث حجم ممارساتها الوحشية والعنصرية، فالصور القادمة من القطاع والملتقطة بهواتف الجنود الصهاينة أنفسهم شكلت صدمة للرأي العام العالمي، وبما يتجاوز صدمة صور سجن أبو غريب الشهيرة أو معسكرات الاعتقال النازية.
تظهر مجريات الأشهر الستة الماضية حدوث تغيرات على سياسة الاعتقال الإسرائيلية المنفذة في مدن القطاع يمكن تحديدها بالنقاط التالية:
- الانتقال إلى اتباع سياسة عنصرية نازية تقوم على الاعتقال الجماعي والعشوائي للفلسطينيين، فمعظم الحالات التي تمت خلال الفترة الماضية استهدفت توقيف العشرات، وأحياناً المئات، من أبناء القطاع، بغض النظر عن أعمارهم وأعمالهم وأماكن وجودهم وعلاقتهم بفصائل المقاومة، وهذا يظهر جلياً في عمليات اقتحام الأحياء السكنية ودور العبادة والمستسشفيات والمدارس التي تؤوي نازحين لا حول ولا قوة لهم، فقد جرى اعتقال أطباء وممرضين وصحافيين وموظفين من الهلال الأحمر ومواطنين عاديين ونساء وأطفال.
والغاية من هذه السياسة، ليس كما يردد مجرد الإمساك بورقة تفاوض على الأسرى الموجودين لدى فصائل المقاومة، إنما هي جزء من عملية إبادة جماعية شاملة هدفها إخلاء القطاع من مواطنيه بالقتل والترويع والتهجير، والقضاء على ما يسمونه "بيئة إنتاج أي فعل مقاوم مستقبلاً"، بدليل أن الأكثر استهدفاً بالاعتقال هم الرجال والشباب وحتى الأطفال.
- إعادة إنتاج فكرة معسكرات الاعتقال النازية التي يروج اليهود أن الكثيرين من آبائهم وأجدادهم ماتوا فيها نتيجة التعذيب والجوع، إذ تظهر التسريبات الإعلامية أن "إسرائيل" أقامت عدة معسكرات، أهمها في صحراء النقب، لاحتجاز من جرى اعتقالهم من القطاع، وهي معسكرات لا تتوفر فيها أدنى مقومات الحياة. وبحسب شهادات بعض المفرج عنهم، فإن الأسرى يتعرضون فيها لكل أشكال العذاب والإهانة وقلة الطعام والشراب وغياب العلاج، الأمر الذي تسبب بوفاة الكثير منهم فيها.
وللأسف، فإن معسكرات "الإعدام" هذه لا تلقى أدنى اهتمام عالمي، ولا تسلط المنظومات الأممية والدولية المعنية بحقوق الإنسان الضوء عليها وتطالب بزيارتها وتفقدها، وهو ما يدفع الكيان الصهيوني إلى مزيد من التوحش والعنصرية في معاملة الأسرى وهدر حقوقهم الإنسانية الموثقة دولياً خلال فترات الحروب والنزاعات.
- ولم تتوانَ قوات الاحتلال الإسرائيلي عن تنفيذ إعدامات ميدانية جماعية بحق العديد من الفلسطينين الذين جرى إعتقالهم ودفنهم في مقابر جماعية داخل القطاع وخارجه.
وذهبت تلك القوات في إجرامها إلى أبعد من ذلك عندما دفنت عدداً كبيراً من الأسرى والمصابين أحياء، وهناك بعض الحوادث الموثقة كتلك التي كشف عنها في ساحة مستشفى كمال عدوان، وحجم هذه الجرائم لا يزال غير معروف، لكن مع توقف العدوان وانسحاب القوات الإسرائيلية من القطاع سيتكشف حجم الجرائم الإسرائيلية المرتكبة بحق الأسرى والمقابر الجماعية التي دفنوا فيها، إضافة إلى العدد الهائل من الأسرى والمعتقلين المفقودين، ولا سيما أن قادة جيش الاحتلال أعطوا جنودهم صلاحيات واسعة بالقتل والاعتقال والتدمير من دون محاسبتهم أو حتى سؤالهم، والإعدامات الميدانبة التي ظهرت صورها إلى العلن خير شاهد على ما سبق.
حق جديد
إن أخطر ما في ملف الأسرى والمعتقلين منذ عملية "طوفان الأقصى" ليس زيادة أعدادهم التي كانت قياسية مقارنة بالعدد الكلي للأسرى قبل العدوان وبالفترة الزمنية التي جرت فيها تلك الزيادة، إنما الأخطر هو معرفة مصير جزء ليس بالقليل من هؤلاء الأسرى، وأماكن احتجازهم، وظروف احتجازهم، وأوضاعهم الصحية، والعمل دولياً على التعريف بمعاناتهم بغية الضغط على الكيان الغاصب لإطلاق سراحهم والكشف عن مصير المفقودين والمغيبين قسراً من قبل جنوده وعناصره، فضلاً عن ضمان وفاء ذلك الكيان بتعهداته التي قطعها على نفسه ونكث بها كالعادة، وآخرها إعادة اعتقاله بعض المفرج عنهم بموجب اتفاقيات التهدئة الأخيرة، فقد أوضحت مؤخراً هيئة شؤون الأسرى والمحررين الفلسطينين ونادي الأسير الفلسطيني قيام سلطات الاحتلال الإسرائيلي "بتصعيد اعتقالها محرري دفعات التبادل التي تمت في شهر تشرين الثاني/نوفمبر المنصرم في إطار بنود اتفاق التهدئة، ليرتفع عدد حالات الاعتقال بين صفوف المحررين إلى 13، أبقى الاحتلال على اعتقال 11 منهم، كان آخرهم المحررة روضة أبو عجمية التي اعتقلت يوم 18 آذار من مخيم الدهيشة".
باختصار، تضيف "إسرائيل" اليوم حقاً آخر إلى قائمة الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني، والتي ترفض أي حكومة صهيونية الاعتراف بها. هذا الحق يتمثل في معرفة مصير آلاف الفلسطينين الذين جرى اعتقالهم منذ بدء العدوان الحالي، والذين لا يعرف أحد عنهم شيء، فضلاً عن حق العدالة في محاسبة المجرمين الذين دفنوا المئات من المعتقلين والأسرى أحياء أو إعدامهم ميدانياً وبدم بارد.
المصدر: الميادين نت | زياد غصن