2024-11-27 04:27 م

إبراهيم طوقان: حكايات عن الفدائيين ووحشية الانتداب البريطاني

“صامت لو تكلم.. لفظ النار والدما.. قل لمن عاب صمته.. خُلق الحزم أبكما”، من منّا لم يسمع شارة المسلسل التاريخي “التغريبة الفلسطينية”، الذي سلّط الضوء على القضية المركزية الأولى للعرب، ونشّط الذاكرة وصنعَ مخزونًا قيميًّا يبقى للأجيال القادمة.

شارة من كلمات الشاعر الثوري إبراهيم طوقان، أثّرت فينا وحفظنا كلماتها كأنها كُتبت لنا، لكن لم يكتب طوقان هذه الأبيات فقط للقضية الفلسطينية، إنما كتب غيرها المئات حتى سُمّي بشاعر الوطنية وحارس الأرض، فقد اشتهر بأشعاره ضد الاستعمار البريطاني والعصابات الصهيونية في ثلاثينيات القرن العشرين.

إبراهيم طوقان، أحد الشعراء الذين سنمر على أسمائهم في ملف “حقائب الشعراء” لتلخيص سيرة أقطاب الشعر العربي الذين تبنوا القضية الفلسطينية في مؤلفاتهم، ووثقوا العديد من لحظاتها ومراحلها الفاصلة بقوالب أدبية مختلفة.

بيت علم
قبل سنتَين من الثورة الفلسطينية الكبرى التي انطلقت عام 1936 ضد المحتل البريطاني والعصابات الصهيونية، لحّن الموسيقار اللبناني محمد فليفل قصيدة “موطني” للشاعر الفلسطيني إبراهيم طوقان، ومن كلماتها: “موطني… موطني.. الجلالُ والجمالُ والسناءُ والبهاءُ في رُباكْ… في رُباكْ.. والحياةُ والنجاةُ والهناءُ والرجاءُ في هواك… في هواك.. هل أراكْ… هل أراكْ.. سالمًا منعَّمًا وغانمًا مكرَّمًا؟”.

قصيدة حظيت بشهرة كبيرة لدى الشعوب العربية، حتى أن دولة العراق اعتمدتها نشيدًا رسميًّا لها، وهي أيضًا النشيد غير الرسمي للثورات العربية التي عرفتها المنطقة قبل 14 سنة، لكن قبل التعرف على تاريخ وامتداد انتشارها، سنتعرّف أولًا إلى كاتب كلماتها.

سنة 1905، شهدت مدينة نابلس الفلسطينية ولادة طفل سيكون لكلماته وقع كبير على العرب خلال حياته وبعد وفاته، سمّته عائلة طوقان العريقة “إبراهيم”، ومنحته الرعاية والحنان، رغم الواقع المرير الذي كانت تمرّ به مدينتهم ومعظم الأراضي الفلسطينية حينها.

قصد إبراهيم مطران مدينة القدس التي تضمّ مسرى الرسول الكريم وأولى القبلتَين، لتلقي التعليم الابتدائي في المدرسة الرشيدية، ثم أكمل دراسته الثانوية في مدرسة المطران، وهناك تتلمذ على يد الأديب نخلة زريق الذي كان له أثر كبير في تعليمه اللغة العربية والشعر القديم، وفي سنة 1923 التحق بالجامعة الأمريكية في بيروت ومكث فيها 6 سنوات.

خلال حياته العملية، تقلّد إبراهيم طوقان عديد المناصب، إذ درّس بداية في مدرسة النجاح في نابلس، ثم في الكلية السورية البروتستانتية (تحولت فيما بعد إلى الجامعة الأمريكية في بيروت)، وعام الثورة الفلسطينية الكبرى تسلّم القسم العربي في “إذاعة القدس”، وعُيّن مديرًا للبرامج العربية، قبل أن تقوم سلطات الانتداب البريطاني عام 1940 بإقالته من منصبه، لينتقل بعدها إلى العراق ويعملَ هناك مدرّسًا في دار المعلمين العالية.

فضلًا عمّا اكتسبه في المدرسة والجامعة، كان لعائلته الدور الكبير في تنمية مهاراته اللغوية والإبداعية، فقد حرص والده على تعليمه القرآن الكريم مند صغره، ووفّر له كتب اللغة والأدب العربي للمطالعة، وبالمثل عملت أمه، فكان أديبًا حسن الكلام، شنَّفَ الأسماعَ بأشعاره، وأذهل القرّاء بحسن بيانه.

شاعر الوطنية
خلال سنوات عمره القصيرة (عاش إبراهيم طوقان 36 عامًا)، كان طوقان بمثابة نبراس النور الذي أضاء القضية الفلسطينية، إذ عُدّ أحد أبرز شعراء فلسطين منذ ثلاثينيات القرن العشرين، مشكّلًا ظاهرة شعرية وطنية قلَّ مثيلها في الوطن العربي.

رأى إبراهيم طوقان أن الوطن أكبر من الزعامات والأحزاب السياسية التي هاجمها لما جرّته من مآسٍ على فلسطين، فقد كانت العديد من الزعامات والشخصيات الحزبية تسعى للتقرُّب من المحتل البريطاني بهدف الحصول على الامتيازات، رغم أن الوطن يستحق أن ينشغل به الجميع عمّا سواه، فكتب: “إن قلبي لبلادي.. لا لحزب أو زعيم.. غايتي خدمة قومي.. بشقائي أو نعيمي”.

كما تغنّى طوقان بفلسطين ونظَّم لها أبيات شعر كثيرة بقيت خالدة رغم مرور عقود كثيرة على وفاته، فكان بمثابة شاعر الوطنية الذي بلورَ مفهوم الهوية الوطنية الفلسطينية، في زمن سعى فيه الصهاينة لطمس الهوية الفلسطينية.

أحبّ شاعرنا وطنه ونظّم أجمل القصائد في الدفاع عنه، وحرّض من خلال قصائده الكثيرة على الثورات التي عاصرها (ثورة البراق سنة 1929 والثورة الفلسطينية الكبرى سنة 1936)، وكان ملهمًا وطنيًّا رغم الإغراءات الكثيرة التي كانت أمامه، فالبريطانيين كانوا ميّالين إلى المثقفين بغية استقطابهم لصفّهم خدمةً لمشروعهم، فكتب حينها: “يا سَراة البلاد يكفي البلادا .. ما يُذيبُ القلوب والأكبادا.. انتدابٌ أحدُّ من شفرة السيـ .. ـفِ وأورى من المنايا زنادا.. وعدُ بلفورَ دكّها فلماذا .. تجعلون الأنقاض منها رمادا؟”.

هنا يذكّر طوقان “سراة البلاد” بالانتداب البريطاني الذي حلّ بهم، وكان أحدَّ من الموت فأذاب القلوب والأكباد، وذكّرهم بوعد بلفور الذي حوّل بلادهم إلى أنقاض، فهو بهذه القصيدة يفضح سياسات المحتل البريطاني، ويذكّر الفلسطينيين بوطنهم الذي يجب أن يلتفّوا حوله. 

كما برزت وطنية طوقان أيضًا في نشيد “الفدائي” الذي وضع روحه فوق راحته ولم يسأل عن سلامته، وقد كُتبت هذه القصيدة تخليدًا لفعل الفدائيّ محمد عبد الغني أبو طبيخ، ومحاولته اغتيال رئيس النيابات العامة البريطاني نورمان بنتويش، ردًّا على قوانين تعسُّفية أصدرها بحقّ الفلسطينيين خلال ثورة البراق سنة 1929 (أول انتفاضة ضد تهويد القدس).

وثّق طوقان من خلال هذه القصيدة أول محاولة اغتيال سياسي في فلسطين، استهدفت رجلًا يعمل على تهويد القدس وتغيير ملامحها، بهدف إقامة وطن قومي لليهود في فلسطين عاصمته القدس، استنادًا إلى إعلان بلفور عام 1917.

كما تحدثت القصيدة عن المعاناة التي تلاحق أهل فلسطين منذ عقود طويلة، بدءًا من الانتداب البريطاني وانتهاءً بالاحتلال الإسرائيلي، تحت مرأى ومسمع المجتمع الدولي الذي يدّعي سعيه لحلّ القضية الفلسطينية ووضع حدّ للانتهاكات بحقّ الفلسطينيين.

أبرزت القصيدة وطنية الفدائيين الفلسطينيين الذي يضحّون بأرواحهم في سبيل أرضهم التي يعشقون ترابها ويحملون همومها العديدة، رغم الأخطار الكثيرة المحيطة بهم من كلّ جانب، وسلاحهم الصمت، فهم كالحزم لا يتكلمون بالكلمات بل بالأفعال.

رغم لحظات اليأس التي قد تمرّ على الفدائي، والتي قد تقتله من شدة مرارتها، إلا أنه لا يستسلم ولا يفكر في ذلك، فعزيمته أكبر وهدفه أسمى من أن يضعف للحظات يأس وبطش ممارَس من العدو الصهيوني، الذي يترقب ضعفه حتى يتمكن منه.

كتب عنه طوقان: “لا تلوموه قد رأى منْهجَ الحقِّ مُظلما، وبلادًا أحبَّها ركنُها قد تهدّما، وخصومًا ببغْيِهمْ ضجَّت الأَرضُ والسما، ملهم الأحرار العرب”.

فضح جرائم البريطانيين والصهاينة
لم يتغنَّ شاعر جبل النار بالوطنية ولم يدافع عن الهوية الفلسطينية فقط، إنما ساهم أيضًا عبر قصائده الشعرية في الكشف عن المجازر التي ارتكبتها القوى البريطانية والعصابات الصهيونية بحقّ الفلسطينيين الذين يدافعون عن أرضهم وعرضهم.

في قصيدة “الثلاثاء الحمراء”، عبّر إبراهيم طوقان عن معاناة وبطولة شهداء ثورة البراق إبراهيم حجازي ومحمد جمجوم وعطا الزير، الذين شنقتهم سلطات الانتداب البريطاني في سجن عكا، وأصبحت هذه القصيدة عنوانًا وطنيًّا ونضاليًّا للشعب الفلسطيني.

“أجسادُهم في تربةِ الأوطانِ .. أرواحُهم في جنّة الرضوانِ

وهناك لا شكوى من الطغيانِ .. وهناك فيضُ العفوِ والغفران

لا ترجُ عفوًا من سواهْ .. هو الإلهْ

وهو الذي ملكتْ يداهْ .. كلَّ جاهْ

جبروتُهُ فوق الذين يغرُّهمْ .. جبروتُهم في بَرّهم والأبْحُرِ”.

شهدت القدس بداية من يوم 15 أغسطس/ آب 1929 ثورة البراق، وهي بمثابة أول انتفاضة فلسطينية على محاولة تهويد القدس في عهد الانتداب البريطاني، وبلغت الثورة ذروتها في 23 أغسطس/ آب 1929 بسقوط عشرات من الشهداء والجرحى.

حاول المحتل البريطاني عبر هذه الإعدامات زرع الخوف في قلوب الفلسطينيين، والسيطرة على حركتهم الاحتجاجية الكبيرة، لكن إرادة الفلسطينيين كانت أقوى وأشدّ، رغم خذلان العرب لهم وتنصّلهم من نصرة قضيتهم العدالة.

لم يشفع البريطانيون لطوقان انتصاره للقضية الفلسطينية، فعمدوا إلى إقالته من منصبه في “إذاعة القدس” سنة 1940 (الإذاعة التابعة للانتداب البريطاني على فلسطين تمّ تأسيسها في 30 مارس/ آذار 1936)، مستغلين حديثه عن “حقيقة السموأل” (الشاعر الجاهلي اليهودي)، وقوله إن حماية السموأل للدروع في حصنه الذي عُرف به، ليست بسبب الوفاء لأصحابها إنما “بسبب حبّه للمال والجشع المعروف عند اليهود”.

شاعر الحرية
لم تبقَ أشعار طوقان حبيسة فلسطين فقط إنما بلغت أقاصي الأرض، إذ صارت قصيدة “موطني” نبراسًا تغنّى به أحرار العرب طيلة عقود، وتحولت كلماتها إلى نشيد وطني في العراق بعد سقوط نظام صدام حسين سنة 2003.

تلهب كلمات هذا النشيد الخلّاب المشاعر وتبث روح الحماسة في النفوس، فهي تتكلم بلسان حال الفلسطينيين والعرب في كل زمان، وتعبّر عن جمال الوطن وشوق فلسطين والدول العربية ككل للحرية، بعيدًا عن المحتل الذي اغتصب الأرض.

تستقر كلمات القصيدة الحماسية في القلب ولا تغادره، فهي تتحدث إلى سامعها بلغة صادقة رقيقة، بعيدًا عن محاولات التلاعب بالعقول التي تنتهجها الأنظمة العربية، ما جعلها أيضًا تلامس مشاعر كل فرد تجاه وطنه وارتباطه بأرضه.

رافقت هذه القصيدة الشعوب العربية خلال فترة الربيع العربي، من تونس إلى مصر مرورًا بليبيا ووصولًا إلى اليمن وسوريا، وقبل هذه الفترة أيضًا، إذ وجدت فيها الشعوب حيوية وقوة الأمل والحماس، والوعي الكبير بهموم الوطن والأمة، وتحمل كلمات النشيد في طياتها معاني تتغنّى بحب الوطن والتضحية من أجله.

حمل إبراهيم طوقان همَّ وطنه وعرّض حياته للخطر، رغم الأمراض الكثيرة التي كان يعاني منها وعجّلت بوفاته مبكرًا، وحافظ في قصائده على بوصلة قضيته وعمل على تعزيز روح الوطنية، ما جعل هذه القصائد خالدة في ذاكرة العرب ومحبّي الحرية، خالدة لما لها قوة تجعلها حية في النفوس، ولأنها قصائد موحّدة تعبّر عن الحب والعصيان والأمل والحزن والمقاومة.