2024-11-27 08:49 م

فيحاء عبد الهادي: فصول من سيرة المرأة الفلسطينية

وضعت الباحثة الفلسطينية الدكتورة فيحاء عبد الهادي على عاتقها توثيق التراث الفلسطيني ولاسيما التراث الشفوي، وفي المقدمة منه إرث النساء الفلسطينيات. ولهذه الغاية انخرطت في مشاريع بحثية عن أدوار المرأة الفلسطينية فأنجزت أربعة كتب في هذا الاطار بدأتها بـ"أدوار المرأة الفلسطينية في الثلاثينيات: المساهمة السياسية للمرأة الفلسطينية"، ثم "أدوار المرأة الفلسطينية في الأربعينيات" و"أدوار المرأة الفلسطينية في الخمسينيات حتى أواسط الستينيات 1950 – 1965"، وتوقفت أخيرا عند "أدوار المرأة الفلسطينية منذ منتصف الستينيات حتى عام 1982".

وبالإضافة للبحث عن الدور النسائي في هذه المراحل من عمر القضية الفلسطينية، سجلت الدكتورة فيحاء مع فريق من الباحثين شهادات الفلسطينيين رجالا ونساء من معاصري نكبة عام 1948 كما في كتابها "ذاكرة حيّة"، ثم اقتفت في كتابها "مرآة الذاكرة" آثار ما حمله معهم لاجئو النكبة من متعلقاتهم الشخصية، كالأوراق الثبوتية، جوازات السفر، وأوراق رخص مزاولة المهن، وأيضا أدوات زراعة، ونجارة، وأدوات نحاسية، وبراويز صور، ومناديل للرأس، ومفاتيح وأقفال بيوت.
بحثت ضيفتنا في كتابها "الأمل هو أغلى ما أملك"، الواقع الاقتصادي المتردي للشعب الفلسطيني والأعباء التي يتركها الفقر والاحتلال على المرأة مع ربط ذلك بالواقع الاجتماعي والموروث الثقافي تجاه المرأة، وتابعت رصد المعاناة النسائية في كتابها "لو أملك الخيار" عبر توثيق قصص الحياة اليومية للنساء الفلسطينيات خلال العامين 2002-2003 من الانتفاضة الثانية. وفي إطار جمع وتوثيق الذاكرة الشفهية، اشتغلت السيدة فيحاء مع زميلاتها على كتابين هما: "المرأة الفلسطينية والذاكرة" و"بيبلوغرافيا التاريـخ الشفـوي الفلسطيني".
وللدكتورة فيحاء مساهمات أدبية إبداعية ودراسات نقدية، وأيضا لها مشاركتها السياسية في الشأن العام الفلسطيني.
* أنت كاتبة وشاعرة وأيضاً باحثة ومديرة مركز الرواة للدراسات والأبحاث وعضو المجلس الوطني الفلسطيني، أي صفة تختصر عملك أكثر؟
ربما صفة الكاتبة، فهي تجمع أنواع الميادين التي كتبت فيها من الأدب والشعر والدارسات النقدية إلى البحوث الميدانية والتاريخية. بالنسبة للتعريف السياسي أنا فخورة بكوني في المجلس الوطني الفلسطيني وفي المجلس المركزي الفلسطيني.

* لكن الهيئات والمؤسسات الفلسطينية معطلة الآن.
للأسف، وهذا واقع محزن لأنه من المفترض أن يلعب المجلس الوطني والمجلس المركزي دورا كبيرا خلال هذه الأحداث الصعبة والأوضاع المأساوية في غزة. أرى أن الحل يكمن بإجراء الانتخابات لأن كل الهيئات انتهت فعاليتها منذ فترة طويلة.

* والدتك هي السيدة عصام عبد الهادي أول رئيسة للاتحاد العام للمرأة الفلسطينية.
كانت والدتي رائدة من رائدات العمل النسائي والنضال الوطني، كانت أمينة سر جمعية الاتحاد النسائي العربي في نابلس عام 1949 مع الرائدة عندليب العمد، ثم انتخبت رئيسة للاتحاد العام للمرأة الفلسطينية عام 1965 في مؤتمره التأسيسي الأول في القدس، وبالمناسبة كانت هذه هي الانتخابات الأولى والأخيرة التي جرت في اتحاد المرأة، وكانت أول مبعدة فلسطينية من الضفة الغربية إلى الأردن عام 1969. 

* اعتقلت مع الوالدة وعمرك 16 عاما، لماذا؟
كنا ننظم المظاهرات والاعتصامات في المدرسة ضد الاحتلال الإسرائيلي الذي بدأ في الضفة عام 1967، والاعتقال الأول كان للتحقيق معي بتهمة تنظيم الاعتصام في مدرستنا العائشية الثانوية للبنات. والمرة الثانية كنت مع الوالدة بتهم الانتماء لتنظيم معين وتنسيب فتيات لهذا التنظيم، بينما وجهوا لوالدتي تهما أخرى، مثل مساعدة (المخربين) الفدائيين. أخذونا لسجن نابلس المركزي وبقينا هناك شهراً ونصف الشهر تقريبا، ولكن الأثر الاجتماعي كان كبيرا، ولا سيما على والدي الذي كان يواجه ضغوطا اجتماعية من خلال اعتقال زوجته وابنته، ولكنه صمد أمام ذلك وكان يفخر بما نعمل.

* هل كنت منتسبة لفتح؟
كانت التهمة الانتماء لتنظيم الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين. 

* كتبت قصيدة شعر في السجن وأرسلتها للأديب الراحل غسان كنفاني، صحيح؟
تملكني حب الشعر منذ الصغر ولما اعتقلت كتبت قصيدة عن التحقيق والتعذيب وأرسلتها لغسان كنفاني الذي نشرها في مجلة الهدف. 

* ألفت لاحقا كتابين عن أدب غسان كنفاني؟
كتاب واحد، ولكنه طُبع مرتين وكل طبعة كانت تحمل عنواناً مختلفاً، طبع في الأردن بعنوان "وعد الغد"، فيما حملت طبعة القدس عنوان "غسان كنفاني الرواية والقصة القصيرة". في الكتاب أشرح التنوع في أدب كنفاني، حيث كان يكتب المقالة الأدبية والمقالة السياسية، كما كتب القصة القصيرة وقصص الأطفال والمسرحيات، كان يرسم أيضا. أعجبتني قدرته على التجريب، فهو كتب الراوية الكلاسيكية كما في "عائد إلى حيفا"، واستخدم أيضا تيار الوعي في "ما تبقى لكم"، بينما استخدم أسلوب الأصوات المتداخلة في "رجال في الشمس". أهم شيء وجدته عند غسان هو عدم الوقوع في المباشرة السياسية عند الكتابة في الأدب. لم يمهل القدر غسان لإكمال أعماله الأدبية، فقد ترك عملين روائيين ناقصين، هما "برقوق نيسان" و"العاشق".

* بعد الاعتقال تم إبعادك مع الوالدة إلى الأردن. ماذا فعلت حينها؟ 
درست الأدب العربي في الأردن وبدأت مشوار الكتابة، فأصدرت كتابي الأدبي "هل يلتئم الشطران؟"، وأصدرت لاحقا ديون شعر ثان هو "وردة الروح".

* في كتابي "ذاكرة حية" و"مرآة الذاكرة" تستعيدين أصوات لاجئي 1948، ماذا وجدت؟
جاءت فكرة الكتاب من ضرورة تسجيل شهادات لاجئي ولاجئات عام 1948، سجلنا حوالي 200 شهادة من الذين واللواتي شهدوا النكبة وما زالوا مستمرين حتى الآن، ونشرنا ست شهادات فقط في كتاب "ذاكرة حية". شمل البحث تسجيل الشهادات من فلسطين كلها واللاجئين في الشتات من مصر ولبنان والأردن وتشيلي.

* فلنتحدث عن المشروع الأكبر لك وهو البحث عن أدوار المرأة الفلسطينية منذ الثلاثينيات وانتهاء بالغزو الإسرائيلي لبيروت عام 1982.
هذا المشروع امتد لسنوات، حيث بدأ عام 1999 مستهدفا البحث عما هو ناقص في السردية الفلسطينية للتاريخ المكتوب، درست ما كتب عن مشاركة المرأة في ثورة 1936 فلم أجد شيئا ذا قيمة مع أن معظم الباحثين نبهوا إلى هذا الخلل، مثلا أول شهيدة في ثورة 1936 هي فاطمة غزال التي كانت تحمل السلاح مع الثوار ضد الإنكليز. استطعنا الوصول إلى عدد من السيدات اللواتي شهدن ثورة 1936 ويستطعن تذكرها، وكان عددهن حوالي 150 امرأة، وكن حينها في حوالي الثمانين من العمر أو أكثر فضلا عن إجراء مقابلات مع عدد من الرجال حول مساهمة المرأة في تلك الثورة. استخدمنا في لقاءات الشاهدات منهج التاريخ الشفوي النسوي لنصل إلى أعماق المرأة ونجعلها تصل إلى مرحلة البوح وليس فقط الإجابة عن الأسئلة العادية. مثلا كنا نبدأ مع السيدة بالسؤال هل عملت بالسياسة أو شاركت بالجهاد خلال ثورة 1936؟ وغالبا ما تأتي الإجابة بالنفي. ثم نتبعه بالسؤال: طيب، ماذا طبخت لوالدك أو زوجك أو أخيك عندما كان يحمل السلاح؟ وهكذا كنا نصل لدور النساء من خلال إخفاء السلاح وإيصال المؤن والأسلحة وانتهاء بالمشاركة بحمل السلاح. وهكذا وجدنا أن المرأة تقاوم بكل الأشكال، ولكنها لا تعتبر ذلك عملا سياسيا. إحدى السيدات روت كيف كانت تضع طفلها الرضيع فوق سلة الطعام وتقرصه ليبكي كي تمرر الطعام للمجاهدين من عائلتها.

* سجلت في هذا الكتاب شهادة السيدة ميمنة بنت المجاهد عز الدين القسام، حدثينا عنها؟
كانت من أصعب الشهادات، لقد وجدت خلال البحث أن السيدة ميمنة خطبت في جامع الجزار في حيفا مكان أبيها ولم أكن أعرف إذا كانت حية، ولا أعرف مكانها، وجدت باحثتان مكانها في عمّان لكنها رفضت إجراء المقابلة قائلة "لماذا تذكرني الشعب الفلسطيني الآن؟".

* كان لديها عتب على الفلسطينيين؟
نعم، كانت تعيش في ظروف سيئة للغاية. 
رفضت في البداية التقاط صورة لها أو تسجيل فيديو، وأقنعتها مع الباحثتين رقية وسناء بضرورة ذلك من أجل التاريخ، في البداية أنكرت التدرب أو حمل السلاح وكأنها لا تريد البوح بأسرار المقاومة، ولكنها وافقت في النهاية، وكانت شهادة مهمة جدا للتاريخ عن خطبتها في الجامع وعن دورها ودور أبنائها مع جدهم القسام. سجلنا شهادة السيدة خزنة الخطيب في مخيم اليرموك بدمشق، والتي أفادت بأن الشيخ عز الدين القسام دربها على استخدام المسدس، وسجلنا شهادات أخرى عن دور الفتيات بإلصاق المنشورات على حيطان حيفا والمشاركة في المظاهرات.

*هل كانت السيدة ميمنة تتحدث كفلسطينية أو سورية؟
كفلسطينية، كانت تتحدث بفخر شديد عن دور والدها في الثورة الفلسطينية.

* هل لاحظت تغيرا في دور المرأة الفلسطينية منذ الثلاثينيات إلى الخروج الفلسطيني من لبنان عام 1982؟ 
طبعا، التغير كان سياسيا واجتماعيا، فقد ازداد عدد النساء اللواتي ساهمن بالعمل السياسي منذ الثلاثينيات حتى 1982 ولا سيما بعد هزيمة عام 1967، وقد تحدثت غالبيتهن عن هذا التأثير الناجم عن الهزيمة وأن أحد أسبابها عدم مشاركة النساء بشكل كاف، فطلبن الانخراط بالعمل المسلح. قبل النكسة كانت لدينا رائدات ومناضلات وبعض المشاركات العسكرية، كما في حالة الشهيدة شادية أبو غزالة عام 1968 في نابلس، وكانت صديقتي. إحدى التهم التي وجهت إلي عند اعتقالي الأول هي تنسيبها للجبهة الشعبية. أيضا الشهيدة دلال المغربي التي قادت عملية عسكرية جريئة ورفعت أول علم لفلسطين على أرض فلسطين المحتلة. 

* تابعت رصد دور المرأة الفلسطينية من خلال دورها الاقتصادي والاجتماعي وتحملها في أحيان كثيرة مسؤولية الإنفاق والتربية في غياب الزوج المعتقل أو الشهيد أو المنفي. 
نعم، في كتاب "لو أملك الخيار" اهتممت بقصص النساء خلال الانتفاضة الثانية 2002-2003، كنت في رام الله أيام الاجتياح حيث مكثنا 45 يوما في البيت بسبب منع التجول، كانت أياما عصيبة جدا. النساء بالذات عانين معاناة مضاعفة لمسؤوليتهن عن أنفسهن وعن عائلاتهن. كان من المهم معرفة كيف دبرن أمورهن. تابعت رصد معاناة المرأة الفلسطينية اجتماعيا، وهي أيضا معاناة مضاعفة، إذ إنها امرأة بواقع معين وتحت الاحتلال في كتاب "الأمل أغلى ما أملك". تركز الدراسة على معاناة الشرائح الاجتماعية المعدمة من النساء وتربط معاناة النساء بواقع الاحتلال الإسرائيلي الاستيطاني، الذي يعتمد على التبعية الاقتصادية للسوق الإسرائيلية ويمنع نمو اقتصاد فلسطيني مستقل.

* كيف تصفين الوضع الراهن بالنسبة للنساء الفلسطينيات ودورهن؟ 
ركز نضال المرأة الفلسطينية منذ القرن الماضي على العمل السياسي، حيث كانت رائدت العمل النسائي يقلن نحن في معركة وطنية ضد المحتل، إنه ليس الوقت المناسب لبحث الحقوق الخاصة بالمرأة، بدأنا مع فترة التسعينيات التركيز على الجانب الاجتماعي والحقوقي. أرى ضرورة النضال على الجهتين، لأن تغليب جانب على آخر كأنما تمشي على رجل واحدة. 

*هل تدرسين الحالة الآن في غزة؟ 
بدأنا دراسة حول جرحى العدوان على غزة عام 2014 ونهتم بدارسة التهجير خلال هذا العدوان الغاشم لأنه خطير جداً ويماثل في أهميته وربما أكثر تهجير 1948.

* ما هي مشاريعك الجديدة؟

أعمل على ثلاثة مشاريع الأول: كتاب عن الشهيد ظافر المصري رئيس بلدية نابلس الذي اغتيل في نابلس عام ١٩٨٦ وقد شدني إلى الكتابة عن الشهيد ظافر أنه من الشخصيات التي ظُلمت رغم شعبيته الكبيرة في نابلس. اذ تم اغتياله لسوء تقدير سياسي من الجبهة الشعبية فالجبهة لا تقوم بمثل هذه الأعمال، ولكن يبدو أنه كانت لديهم حسابات سياسية خاطئة حيث كان هناك نقاش حينها حول هل يقوم الفلسطينيون بإدارة العمل البلدي أو نترك المسؤولية للاحتلال. والكتاب الثاني حول المناضلة الفلسطينية سهام الوزني والتي كانت رفيقتي في سجن نابلس وقامت بعملية فدائية في القدس مع زميلتها رندا إبراهيم النابلسي وحكم عليها بأربع سنوات سجن ومن ثم لعبت دورا نضاليا في الأردن واستقرت في دمشق وماتت بحادث حريق هناك. أما الكتاب الثالث فهو عن والدتي عصام عبد الهادي. أما عن نشاط مركز الرواة وإدارته فسنستمر بجمع الأرشيف الفلسطيني وإنتاج كتب وأفلام وثائقية والتجوال بمعرض (قولي يا طير) في مدن أخرى لمشاهدة ما حمله اللاجئون من بيوتهم وقراهم ومدنهم خلال النكبة والتي تؤكد حلم الجميع بالعودة.