2024-11-23 10:54 م

الانتقال من الدفاع ضد "المكارثية الجديدة" إلى الهجوم

قال المفكر العربي عزمي بشارة المدير العام للمركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات إن جهات عديدة في أوروبا والولايات المتحدة تعمل منذ عقود بشكل منظم على تحويل التضامن مع الشعب الفلسطيني، كما يجري بوضوح الآن جراء حرب الإبادة على غزة، إلى حالة دفاع عن النفس عبر مكارثية جديدة تتخذ من تهمة اللاسامية منصة أساسية لمحاصرة أي فعل تضامني، خصوصاً في الحقل الأكاديمي.

ودعا بشارة إلى ما سماه الانتقال من حالة الدفاع إلى الهجوم، عبر جهود وتمويل عربي موجّه إلى ساحات القضاء في أميركا وأوروبا بوصفها الأكثر حيادية ومصداقية، وبدل الاكتفاء بالدفاع عن حرية التعبير والرأي، ينبغي الانخراط مباشرة في النقاش حول السامية والإبادة الجماعية، ورفع قضايا ضد من يستعمل هذه الاتهامات، ما دامت بهذه الخطورة التي يروّجون لها.

وأمام الدورة الرابعة من مؤتمر طلبة الدكتوراه العرب في الجامعات الغربية الذي افتتح صباح اليوم، قال بشارة إن ما يعرف بـ"المكارثية" التي قادها السيناتور الأميركي جوزيف مكارثي بين 1947 و1954، الذي تصدى في حينه لما يسمى "الخطر الشيوعي" عبر التحقيق والمراقبة والكشف عن المتعاطفين مع الشيوعية، هذه الموجة العاتية تُستعاد ضمن ممارسات الكونغرس الأميركي الآن، ومن ذلك التحقيق مع رؤساء ثلاث جامعات بسبب موجات من التضامن مع غزة سواء من الأساتذة أو الطلاب.

ولفت إلى نماذج "لا تُصدق" مثل الرسالة التي وصلت إلى جامعة كولومبيا من لجنة متخصصة في الكونغرس تتعلق بسؤالها عن إجراءات الجامعة تجاه معاداة السامية وإسرائيل، والطلب منها التحقيق بنشاط الطلاب ومنشوراتها على مواقع التواصل الاجتماعي وتقديمها للكونغرس.

ويعتقد بشارة أن هذه الموجة السياسية على يد المكارثية الجديدة ذات الصبغة الديماغوجية من الصعب أن تفرضها على الجامعات بعد تاريخ طويل من الإنجازات التي حققتها لجهة حق التعبير، ولا سيما ما يتعلق في البحث العلمي، ولكن في المقابل الخطأُ الماثل في هذه الحالة هو حالة الدفاع عن النفس ضد الاتهامات المكارثية الجديدة بالتركيز على حق التعبير وحرية القول، بدل نقاش الجوهر ومن بين ذلك الإجابة عن سؤال: هل هذا التضامن عداء للسامية؟

وفصّل بشارة ثلاثة أهداف للحملة التي تخاض على مستوى الجامعات الأميركية، الأول منها: حرف الموضوع عن مذبحة غزة إلى التشهير بالطلبة المتهمين بالعداء للسامية وجعلهم في حالة دفاع عن النفس، والثاني تصفية حساب مع المد التضامني في السنوات الأخيرة الظاهر في مواقف الشباب في الغرب من قضية فلسطين، وهي عملية تراكمت وأصبحت مؤثرة، والثالث تصفية الحساب مع التيار الليبرالي في الجامعات الذي مارس ما اعتبر تقييداً لحرية الرأي، وأسهم في موجة الشعبوية في الغرب على مستوى موضوعي الجندرية (النوع الاجتماعي) والصواب السياسي في كل ما يتعلق بحقوق المثليين وغير ذلك.

وعليه، قال إن التيار الليبرالي أصبح هو من يقيد حرية التعبير إلى حد القسر والإملاء السياسي حتى إن إحدى الجامعات أصدرت دليلاً حول التعامل مع قضية الجندر يتكون من 400 صفحة، ما أشاع مناخاً من الخوف من حرية التعبير. وبهذا كما يواصل ثمة تصفيات حسابات مقلوبة، كأن يقول التيار الأول للمتضامنين مع فلسطين أين كنتم في قضايا الجندر والصوابية؟

غير أن العنوان الأساسي والواضح الآن عنده هو "المعركة السياسية التي تخاض للتغطية على جرائم الاحتلال، لا السامية التي لم تعد موضوعاً مركزياً في الغرب منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. لم يعد هذا موجوداً في الجامعات ولا الحياة الاجتماعية والسياسية، بل يفتعل الآن تحت عنوان العداء لإسرائيل والصهيونية".

وبحسب بشارة، فإن محاولة حرف الموضوع عن جريمة الإبادة في غزة هو موضوع رابح في الرأي العام، لكن احتكار دور الضحية وذرف الدموع أثناء ارتكاب الجريمة هو الهدف من هذه الحملة المنظمة. المثل الواضح الذي يضعه أمامنا هو تلازم الادعاء بالخوف من مظاهر معاداة السامية في الوقت ذاته الذي تجري فيه المذبحة والتجويع، مع غياب أي مظهر لمعاداة السامية".

وقدم نبذة عن اللاسامية قائلاً إنها "ظاهرة أوروبية وإلصاقها بالعرب والمسلمين تجنٍّ لا أساس له. وهي وصلت إلى بلادنا استيراداً، وبرزت ملامح لها على هامش الحركة القومية وأحياناً التيار الإسلامي إبّان الأزمات، لكن ملاحقة أقليات دينية في بعض الحالات لم تكن تحت عنوان السامية ولا ميزت اليهود خاصة، ولا تقارن إطلاقاً بظاهرة العداء لليهود في أوروبا منذ العصر الوسيط، وصولاً إلى تسميتها بـ"اللاسامية" في القرن التاسع عشر".

وتابع "هذا وفق ما يحدد جعل الأوروبي مرتاحاً كون الحركة الصهيونية حركة أوروبية جاءت إلى منطقتنا واستخدمت المصطلح للتعامل مع المحيط، بما يزيح التهمة عن الغرب ويصدّرها إلى المسلمين، في الوقت الذي تبقى اللاسامية مستمرة في الغرب، ولكن هذه المرة ضد العرب والمسلمين، وبدل مكافحتها يجري الانشغال بلاسامية وهمية وهدفها الرئيسي سياسي".

وأردف "الحركة الصهيونية نشأت في أوروبا متأثرة ومقلدة للحركات القومية الأوروبية في القرن التاسع عشر، والعداء للصهيونية ظاهرة اليهودية، قبل أن تصبح استعماراً استيطانياً، وأساس العداء اليهودي لها هو حول تعريف من هو اليهودي؟ الغالبية كانت الصهيونية تعرف اليهودية تعريفاً آخر لم يعرفها اليهودي من قبل".

وبيّن في ذلك ثلاثة مصادر يهودية في العداء للصهيوني إبّان القرن التاسع عشر الأول ديني لأنها حولت "شعب الله المختار" إلى قومية علمانية، واليهود مصيرهم الشتات وبعضهم يرى في ذلك تاريخاً من المعاناة وبعض آخر يرى فيه رسالة إلهية لباقي الشعوب.

والثاني جاء من اليهود الاشتراكيين والشيوعيين الذين كانت نسبتهم أعلى من نسبتهم السكانية، وهم شكلوا قوة أساسية في الدعوة إلى أن خلاص اليهود مثل كل الشعوب بإقامة النظام الاشتراكي، وأن فكرة تقسيم الطبقة العاملة مؤامرة من الصهيونية بوصفها حركة برجوازية.

المصدر الثالث هو الليبرالية الديمقراطية، وهو مصدر نخبوي نظّر فكرياً وفلسفياً حول نشوء فكرة المواطنة معتبراً دخول الصهيونية معرقلاً لهذه العملية التي يتحول فيها اليهود إلى مواطنين متساوي الحقوق.

وفي خلاصته، فإن "عداء الفلسطينيين للصهيونية لم يكن على أساس يهودية هؤلاء، فلو كانت مسيحية أو هندوسية تستعمر وتستوطن بلادنا لنظر إليها النظرة ذاتها".