2024-11-30 06:40 م

معبر رفح.. سيادة مصرية شكلية وتحكُّم إسرائيلي في أدق التفاصيل

“نتحكم بمتى وكيف ولمن يفتح معبر رفح، رغم أن المصريين يحاولون الظهور كأصحاب القرار في ذلك”، كانت هذه العبارات التي أدلى بها وزير الحرب الإسرائيلي الأسبق أفيغدور ليبرمان في 20 يناير/ كانون الثاني 2018، ليكشف عن التحكم الإسرائيلي الكامل بمعبر رفح.

شكّلت هذه التصريحات صدمة شعبية آنذاك على المستويَين الشعبي والرسمي في مصر وغزة، نظرًا إلى صدورها عن شخصية بحجم وزير حرب، علاوة على كونها تتزامن مع اضطرابات في عمل معبر رفح البرّي في تلك الفترة.

ومع اندلاع معركة “طوفان الأقصى” التي دشّنتها المقاومة الفلسطينية يوم 7 أكتوبر/ تشرين الأول 2023، فإن الحديث الإسرائيلي عن السيطرة على الحدود عاد من جديد إلى الواجهة، عبر استهداف الحدود بين رفح والجانب المصري وما تلاه من إجراءات.

لا يوجد أي اتفاق رسمي معلن بين الاحتلال الإسرائيلي ومصر بشأن عمل المعبر الذي يربط الأراضي الفلسطينية في قطاع غزة بالأراضي المصرية، باستثناء اتفاقية تحمل اسم “اتفاقية المعابر 2005” التي نصّت على تشغيل المعبر برقابة أوروبية.

وبعد وصول حركة المقاومة الإسلامية “حماس” إلى سدّة الحكم، أعقاب الانتخابات التشريعية التي جرت في يناير/ كانون الثاني 2006، وإطباق الحصار الإسرائيلي على غزة، فإن الجانب المصري أغلق المعبر وتحكّم بفتحه، ما تسبّب في أزمات كثيرة.

وشهدت حرب الإبادة الحالية تأكيدًا مصريًّا على لسان الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، على فتح معبر رفح على مدار الساعة وعدم إغلاقه، رغم التصريحات التي أدلى بها الرئيس الأمريكي جو بايدن بأنه أقنعه بفتح المعبر وإدخال المساعدات.

يفتح ما يجري الباب على تفاصيل الواقع الحدودي بين غزة والجانب المصري، لا سيما مع عمليات الإنزال الجوي التي نفّذتها دول عربية منها الأردن ومصر والإمارات، إلى جانب فرنسا وبعض الدول التي أعلنت عزمها تنفيذ عمليات إنزال جوي.

تاريخيًّا.. كيف نشأ معبر رفح؟
تأسّس معبر رفح رسميًا عام 1979، بعد توقيع اتفاقية كامب ديفيد بين مصر ودولة الاحتلال، حيث كانت حالة إغلاق معبر رفح هي القاعدة الأساسية، أما فتحه فهو الاستثناء الذي يكون نادرًا جدًّا في أحيان كثيرة، إذ بذلت دولة الاحتلال كل جهودها كي يحصل الفلسطينيون على منفذ يربطهم بالعالم الخارجي يخضع لسيطرتها وتحكُّمها.

منذ انسحاب الاحتلال من قطاع غزة عام 2005 وحتى 7 أكتوبر/ تشرين الأول 2023، لم يكن معبر رفح مفتوحًا على الدوام، فقد استمرّت دولة الاحتلال في السيطرة على المعبر عن بُعد عقب انسحابها من قطاع غزة، وتحكّمت بفتحه وإغلاقه وتحديد ما ومَنْ يخرج ويدخل عبره.

وبعد سيطرة حركة حماس على الحكم في قطاع غزة عام 2007، عادت حالة الإغلاق شبه الدائم للمعبر إلى أن اندلعت ثورة 25 يناير في مصر، ففُتح المعبر بشكل شبه منتظم قبل أن يعود إلى حالة الإغلاق شبه الدائم، بعد الإطاحة بالرئيس المصري محمد مرسي عام 2013.

توصّلت حركة حماس ومصر إلى تفاهمات ضمن اتفاق المصالحة الفلسطيني عام 2017، فتحت مصر بموجبها المعبر لـ 5 أيام في الأسبوع بدءًا من عام 2018، لكن هذه التفاهمات لم تطبَّق على هذا النحو بشكل دائم، وظلت أعداد الفلسطينيين المغادرين والعائدين عبر المعبر ضمن حدود معيّنة، بينما تركّزَ مرور معظم التجارة الخارجية لقطاع غزة عبر المعابر الإسرائيلية، لا سيما معبر كرم أبو سالم لإدامة حالة الحصار والاحتلال الإسرائيلي، والتحكّم بقطاع غزة من خارجه.

تحكُّم إسرائيلي.. تغيير جديد
في 9 أكتوبر/ تشرين الأول 2023، قرر وزير الحرب يوآف غالانت فرض الحصار الكامل على قطاع غزة، قائلًا إنه لن يسمح بإدخال الماء والطعام والكهرباء والوقود إلى من وصفهم بأنهم “حيوانات بشرية”، فأُغلقت كل المعابر التي تربط قطاع غزة بأراضي 48، وقصفت طائرات الاحتلال معبر رفح 4 مرات، كان أولها مباشرة بعد إعلان غالانت.

في الوقت ذاته، بلّغت دولة الاحتلال مصر بأنها لن تسمح بدخول المساعدات إلى قطاع غزة عبر معبر رفح، مهددة بقصف الشاحنات إذا حاولت الدخول رغمًا عنها، فتكدّست مئات الشاحنات المحمّلة بالمساعدات في صحراء سيناء بعيدًا عن معبر رفح.

استمرت دولة الاحتلال في منع دخول المساعدات بشكل مطلق إلى قطاع غزة حتى تاريخ 21 أكتوبر/ تشرين الأول 2023، أي بعد قرابة أسبوعَين من إعلان حصارها المطبق للقطاع، نتيجة ضغوط دولية واشتراط مصر إدخال المساعدات مقابل خروج حَمَلة الجوازات الأجنبية من قطاع غزة.

لكن كمية المساعدات التي سمحت دولة الاحتلال بدخولها كانت شحيحة لا تلبّي الحد الأدنى من احتياجات القطاع المحاصر، ومن دون أي قطرة وقود، إذ دخلت في ذلك اليوم فقط 20 شاحنة محمّلة بالمساعدات، في حين أعلنت الأمم المتحدة أن هذا العدد لا يلبّي حاجة القطاع، الذي يحتاج يوميًّا إلى 100 شاحنة مساعدات بشكل مستمر لتوفير الاحتياجات الضرورية.

وبطبيعة الحال، حتى 100 شاحنة غير كافية، فقبل العدوان كان يدخل القطاع قرابة 450 شاحنة محمّلة بالبضائع، وهذا في ظروف الحصار المعتادة (نظرًا إلى أن قطاع غزة محاصر منذ عام 2007)، لكن بكل تأكيد تضاعفت في ظل هذا العدوان الإجرامي حاجة القطاع إلى المساعدات والبضائع، بسبب الضغط الهائل على الأدوية والمواد الصحية واحتياجات الطاقة، وحاجة الناس إلى مقومات الحياة التي فقدوا معظمها، من مسكن وملبس ومأكل ومشرب.

مع ذلك، لم تشهد عملية إدخال المساعدات أي زيادة، وفي المجمل دخلت إلى قطاع غزة منذ 21 أكتوبر/ تشرين الأول، تاريخ دخول أول شحنة، وحتى 23 نوفمبر/ تشرين الثاني، آخر يوم قبل بدء سريان الهدنة، ما مجمله 1723 شاحنة مساعدات (من دون الوقود)، أي بمعدل 50 شاحنة يوميًّا من ناحية حسابية فقط، ولم يصل أي من هذه المساعدات إلى شمال قطاع غزة.

عملت دولة الاحتلال على عرقلة دخول المساعدات، وإدخالها بـ”القطّارة” إلى قطاع غزة، بكل ما أوتيت من جهد، إذ رفضت إدخال المساعدات عبر أي من المعابر التي تربط القطاع بأراضي 48، وبذلك حدّت من إمكانية التدفّق المناسب والمستمر للمساعدات.

معبر رفح هو بالأساس منفذ أو مسار سفر للأفراد، ومع أن فيه معبرًا تجاريًّا، فإنه ليس مهيَّأً لاستقبال الشاحنات بعدد كبير، بالإضافة إلى هذا تعمّدت دولة الاحتلال فرض رقابة مشددة وتفتيش دقيق، لعرقلة دخول المساعدات وتقليل كميتها.

إذ كانت سياسة الاحتلال في البداية تقوم على إجبار الشاحنات المحمّلة بالمساعدات على أن تتوجه إلى معبر العوجا/ نيتسانا بين مصر والأراضي الفلسطينية المحتلة، الذي يبعد عن معبر رفح 100 كيلومتر، وهناك يفتش جنود الاحتلال الشاحنات ويتحكمون بما يُسمح وما لا يُسمح إدخاله من مساعدات، ويتعمّدون المماطلة في التفتيش لإضاعة الوقت.

وبعد مرحلة التفتيش تقفل الشاحنات عائدة إلى معبر رفح، أي أنها تكون بذلك قد قطعت مسافة 200 كيلومتر ذهابًا وإيابًا من دون أي هدف سوى عرقلة إدخال المساعدات، وبعد وصول الشاحنات المفتَّشة إلى معبر رفح تدخل إلى غزة تجاه معبر رفح التجاري الذي يبعد عن بوابة المعبر قرابة 200 متر فقط، لتفرغ حمولتها هناك برقابة وإشراف الأمم المتحدة التي تتولى توزيع المساعدات.

بمعنى أن شاحنات المساعدات لا تدخل إلى قطاع غزة، إنما تفرغ حمولتها على بابه وتعود أدراجها، وتساهم هذه العملية في مزيد من عرقلة إدخال المساعدات ووصولها إلى مستحقيها، لأن عملية التفريغ تأخذ وقتًا معيّنًا، ثم يُعاد تحميل المساعدات على شاحنات أخرى فلسطينية أو تابعة للأمم المتحدة، لتذهب إلى وجهتها داخل قطاع غزة.

وضمن عملية التفتيش المعقّدة، تمنع دولة الاحتلال أصنافًا معيّنة من المساعدات من الدخول إلى قطاع غزة، لا سيما الأجهزة الطبية، كما أنها بلّغت مصر أنها لن تسمح بدخول أي مساعدات قادمة من إيران إلى القطاع، وهكذا ظلت دولة الاحتلال هي المتحكم في كمية المساعدات ونوعيتها وهوية مرسلها بشكل مطلق.

من يغلق المعبر؟
ادّعى محامي الاحتلال كريستوفر ستاكر، أمام محكمة العدل الدولية في جلسة الاستماع للنظر في قضية الإبادة الجماعية التي رفعتها جنوب أفريقيا ضد دولة الاحتلال، أن “الوصول إلى قطاع غزة عبر معبر رفح تسيطر عليه مصر، وليس على إسرائيل أي التزام في ذلك بموجب القانون الدولي”.

وذلك في محاولة لتبرئة الاحتلال من تهمة الإبادة الجماعية وفرض الحصار على قطاع غزة، بطبيعة الحال كذّبت مصر هذا الادّعاء، وأوضحت أن الإجراءات التي يتخذها الاحتلال هي ما يعرقل إدخال المساعدات وإخراج الجرحى، وظلت تأكد مرارًا وتكرارًا أن “المعبر من جانبها مفتوح على مدار 24 ساعة”.

في الحقيقة، ليس مهمًّا عند مَنْ يوشك على الموت جوعًا أو عطشًا أو بردًا أو قصفًا أو جرّاء آلام جراحه التي لا يجد لها علاجًا، مَنْ يغلق المعبر، لا سيما أن ليس لدولة الاحتلال سيطرة مباشرة عليه، وأنه يربط بين بلدَين عربيَّين بلا وسيط.

وقد كان أمام مصر فرصة بعد ذلك الادّعاء الإسرائيلي المجافي للحقيقة، أن تردَّ عليه ردًّا عمليًّا بفتح المعبر على غاربه، وتسمح بإدخال المساعدات وإخراج الجرحى من دون انتظار الإذن من دولة الاحتلال، لكنها لم تفعل ذلك.

ومع استمرار إغلاق المعبر والتحكم الإسرائيلي به، فإن الآونة الأخيرة شهدت واقعة مثيرة للجدل والانتقاد، وهي عمليات الإنزال الجوي للمساعدات التي سقط الكثير منها في البحر والبعض الآخر في مستوطنات غلاف غزة.

وتكشفُ واقعة الإنزال التي جرت عجزَ النظام العربي والمصري عن رفع الحصار المفروض على القطاع وإدخال المساعدات لغزة، وهو أمر تكشف عنه تصريحات رئيس هيئة الاستعلامات المصرية ضياء رشوان، الذي قال إن إدخال القوافل إلى غزة سيؤدّي إلى استهداف الاحتلال لها.

المصدر: نون بوست