بعد الاحتفالية الإسرائيلية الواسعة بما وصفه الإسرائيليون بـ “العملية البطولية المعقدة” في رفح، والتي تسبّبت بمذبحة استشهد وأُصيب فيها عشرات المدنيين الفلسطينيين، تنبه أوساطٌ إسرائيلية إلى أن العملية، مهما كانت ناجحة، ليست بديلاً عن صفقة تبادل، وأن النجاحات في الميدان تحتاج لأفق سياسي كي “لا تربح إسرائيل المعركة وتخسر الحرب”.
بالتزامن يلتئم الوسطاء في القاهرة، اليوم، فيما تتعالى التحذيرات الدولية من مغبّة اجتياح رفح ومحور صلاح الدين (فيلادلفيا) الحدودي. وانضمت الصحف العبرية المطبوعة، اليوم، للاحتفاء بـ “العملية البطولية”، إلى جانب أوساط رسمية وغير رسمية تمجّد وتباهي بها بدوافع مختلفة.
يتجلى ذلك، على سبيل المثال، في صحيفة “يديعوت أحرونوت”، التي عنونت صفحتها الأولى بـ “الجواهر بيدنا”، مع صورة كبيرة لأحد المحتجزين الإثنين وهو بين أحضان عائلته. وقال مراسلُها العسكري يوسي يهوشع، في مقال صارخ بعنوان “كما في الأفلام”، إنه عند الاطلاع على تفاصيل عملية رفح، ومدى الدقة، حتى علامة عشرة من عشرة لا تكفيها”.
في المقابل كانت حركة “حماس” قد أوضحت أن المحتجزَين الإسرائيليين كانا بيد إحدى العائلات الفلسطينية، وأن العملية الإسرائيلية استخدمت النار العشوائية، وقتلت العشرات من المدنيين خلالها، داخل مخيم الشابورة الضيق والمزدحم.
يشار إلى أن مخيم الشابورة هو امتداد لمخيم رفح، ويعتبر إدارياً جزءاً منه، أقيم في جنوب شرقي مدينة رفح بمساحة 15 دونماً. وتعني تسمية الشابورة بالعامية منطقة متبقية من قطعة أرض. ويشير بعض المسنّين في المخيم المزدحم سكانياً إلى أنها كانت قطعة أرض فارغة تفصلها عن المخيم سكة الحديد القديمة، فعمدت وكالة غوث وتشغيل اللاجئين (أونروا) إلى بناء مساكن عليها، ويسكنها اليوم نحو 40 ألف لاجئ، وسكانه في الأصل من اللد والرملة ويافا ومناطقها التي هجرت في نكبة 1948.
قطرة أوكسجين
ويعتبر المعلق السياسي في “يديعوت أحرونوت” رعنان شاكيد أن “عملية رفح قطرة أوكسجين، وأن الإسرائيليين انتظروها، أو ما يشبهها بفارغ الصبر أملاً بخبر طيب”.
ويخلص للقول إنه “بين جيش ممتاز وجبهة داخلية تشمّر عن سواعدها، وقيادة مخجلة.. نحن نتحرك بين تفاؤل حذر، وتشاؤم مبالغ به”. وتحت عنوان “الانتصار ممكن”، يقول محلّل الشؤون الدولية في الصحيفة نداف أيال إن إسرائيل يمكن أن تنتصر، رغم الخسائر الموجعة.
ويضيف محذراً: “بحال استمرت النجاحات، سيتفكّك جيش “حماس”، وفي أحسن الأحوال سيتحوّل لمنظمة تدير حرب عصابات “غريلا”، إذا لم يبادر المستوى السياسي للعمل بشجاعة، لجانب النجاح العسكري، من الممكن الانتصار في المعارك والخسارة في الحرب”.
تسويق الوهم
ويتفق معه زميله محلل الشؤون الفلسطينية آفي سخاروف، الذي يشيد بعملية رفح ومنجزات جيش الاحتلال، لكنه يحذّر من الوهم ويقرّ برواية “حماس” حول هوية حراس المحتجزين الإثنين في رفح: “هذه ليست حماس ذاتها. عملية رفح نادرة من ناحية الجرأة والمباغتة والتنفيذ. هذا النجاح قطرة في بحر، لكنها تزعزع ثقة حماس بقدراتها على الاحتفاظ بالمكسب الرئيس بيدها، وربما الأهم من ذلك أن هذا النجاح سينتج قلقاً لدى عائلات فلسطينية أُودِع في أياديها مخطوفون”.
وفي الاستنتاج يخلص سخاروف لقول ما يقوله عددٌ غير قليل من المراقبين الإسرائيليين، حتى في اليوم المائة والثلاثين من الحرب على غزة، إن عملية رفح تكشف عن بدء وصول معلومات حول “حماس” والمخطوفين، بجودة أعلى للجيش والمخابرات.
ويدعو، هو الآخر، لرسم ملامح اليوم التالي لكي تكون هناك أهداف واقعية للجيش.
ويضيف: “حماس مضروبة وضعيفة أكثر، ولكن الطريق ما تزال طويلة. انتصار مطلق لا يبدو في الأفق، رغم الأوهام التي يحاول نتنياهو تسويقها”.
وهذا ما يؤكده أيضاً، اليوم، ليؤور أكيرمان، في مقال تنشره صحيفة “معاريف”، بالقول إنه بدون تغطية سياسية، ودون إستراتيجية خروج بعد الحسم، ستختفي كل المنجزات العسكرية داخل القطاع، في ظل عجز دولي عن بناء سلطة جديدة بديلة لـ “حماس” على شكل سلطة فلسطينية متجددة تلي فترة أبو مازن.
كما يقول إن “الطريق لحسم “حماس” طويلة، وعلى إسرائيل استكمال تحقيق الهدف باستعادة المخطوفين بسلام، موضحاً أنها في ذلك تحتاج لدعم إقليمي ودولي، وبالتأكيد أمريكي، وبالتأكيد مع مصر والأردن كشريكتين مستقبلاً”.
ويضيف: “حالياً، علاقات إسرائيل مأزومة مع هذه الجهات، وينبغي الإسراع في تصحيحها”.
من جهتها، تؤكد صحيفة “هآرتس”، في افتتاحيتها، اليوم، على أن تخليص رهائن ليس بديلاً لصفقة تبادل، وتقول إنه للمرة الثانية منذ التوغل البري داخل القطاع نجح الجيش بتخليص رهائن أحياء، مذكرة ببيان “حماس” عن مقتل ثلاثة محتجزين جدد جراء القصف الإسرائيلي، منوهة أيضاً لتأكيد وزارة الصحة الفلسطينية بقتل عشرات المدنيين في عملية رفح، معظمهم نساء وأطفال.
تضخيم إسرائيلي
وانضم وزير الأمن يوآف غالانت للاحتفالية الإسرائيلية بعملية رفح، فبعدما شارك رئيس الحكومة نتنياهو بزيارة مقر القوات التي نفّذتها، قال إن “الصورة قد انعكست، وباتت حماس هي المخترقة”.
ويندرج كل هذا التضخيم بوصف العملية “البطولية” الدموية، التي أثارت قلقاً كبيراً في العالم الغربي أيضاً، ضمن محاولات إسرائيلية لترميم صورة المؤسسة الأمنية المتشظية منذ السابع من أكتوبر، لا سيّما أن الحرب طالت، ولم تحقق أهدافها، رغم النار والدمار الهائلين.
كذلك يسعى الجانب الإسرائيلي لإنتاج أسطورة جديدة، كما عملية اقتحام مستعربين لمستشفى جنين، قبل شهر، بما يعكس تعطشاً لأي انتصار في الحرب من جهة، والقدح بقدرة “حماس” في نطاق حرب نفسية، حرب على وعي الفلسطينيين والإسرائيليين.
ويبدو أن التهليل والتكبير الرسمي والإعلامي للعملية ينم عن رغبة لتهئية الإسرائيليين لاجتياح بري لرفح، من خلال القول إن العملية ممكنة ومثمرة. ورغم أن بعض الأوساط ترى أن تهديدات إسرائيل، نتنياهو، غالانت، وغانتس أيضاً، باجتياح رفح تنم عن رغبة في تليين موقف “حماس”، عشية مداولات صفقة جديدة تشهدها القاهرة اليوم. بيد أن هناك اعتبارات أخرى لدى الاحتلال تدفع لمثل هذا التوغل، الذي لا يكترث بالتحفظات والانتقادات الدولية، حتى عندما تصدر عن الأصدقاء في الغرب، أمريكا وبريطانيا وألمانيا وغيرها، وهذا بتوافق غانتس مع نتنياهو على ذلك، فقد عبّر غانتس عن موقفه المؤيد علانية، أمس، وإسرائيل تستفيد من أن الضجة في العالم تبقى لفظية دون خطوات عملية لردعها.
تهديدات باحتلال رفح لها مآربها
في الواقع ترى إسرائيل بضرورة احتلال رفح مهما كانت خطيرة على المدنيين لكي تستكمل كيّ وعي الفلسطينيين، وتلقينهم درساً تاريخياً انتقاماً للسابع من أكتوبر، ولكي تريهم أنه لا مكان آمناً لهم، وأنه لن يكون هناك “ملجأ للإرهاب” في أي نقطة.
هذا علاوة على استكمال تخريب القطاع ليكون بكامله غير صالح للسكن، ما يمهد لمخططاتها المعلنة من قبل بعض وزرائها بـ “التهجير الطوعي”، الذي تراهن عليه أن يبدأ حينما يرى الغزيون بعد الحرب أنه لا أمل بالعيش في ديارهم، وزرع فيهم رغبة البحث عن الملاذ في الهجرة.
يضاف لذلك أن اجتياح رفح، في حسابات ائتلاف الاحتلال برئاسة نتنياهو، سيشوّش فكرة يتزايد التعاطف معها، هي “تسوية الدولتين”، حيث يتم التداول فيها في الدوحة الآن بين رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس وقطر. إسرائيل ما زالت مهتمة بالبحث عن وأدها مبكراً، على مبدأ أن استمرار الحديث عن “اليوم التالي” و”الأفق السياسي” و”عودة السلطة الفلسطينية” من شأنه تهديد الرؤية الإسرائيلية الباحثة عن الاستمرار في إدارة الصراع أو حسمه بدلاً من تسويته، وعن التطبيع مع العرب أولاً، دون حلّ القضية الفلسطينية. وتستمد إسرائيل التشجيع من تذبذب موقف الولايات المتحدة ومصر، فالأولى لا تعارض الاحتلال، شريطة توفير خطة عملية ناجعة، والثانية تعطي ضوءاً أخضر شريطة ضمانات بعدم تهجير الغزيين لسيناء، وفقاً لتقارير إسرائيلية متتالية.
قمة القاهرة
بعد نحو أسبوعين من قمة باريس، تشهد القاهرة، اليوم، قمة مماثلة، بمشاركة أمريكية وقطرية ومصرية، في محاولة لإحداث اختراق، والدفع نحو صفقة، رغم تشاؤم الطرفين، فإسرائيل التي قررت تغيير موقفها الرافض، والمشاركة في القمة بضغط أمريكي، وربما كي لا تبدو بصورة رفضوية، تقول إنها ليست متفائلة لأن “حماس” مصممة على إطلاق كل الأسرى الفلسطينيين، وتتمسك بـ “مطالب فارغة”.
ومن جهتها تؤكد “حماس” أن المقترح الإسرائيلي غير جدي، وإنه هكذا لا يُنجز اتفاق.
وعلى خلفية ذلك، تتساءل أوساط إسرائيلية؛ هل تنجح مصر بلتيين موقف “حماس”، وهل يتمكّن رئيس الـ “سي أي أيه” من إحداث اختراق، تزامناً مع تصريحات بايدن، خلال استقباله العاهل الأردني، أمس، قال فيها إن واشنطن تعمل على صفقة مخطوفين تؤدي لهدنة ستة أسابيع على الأقل.
وتنعقد قمة القاهرة من أجل صفقة يبدو نتنياهو غير معني بها، وفق تلميحات إسرائيلية غير رسمية، ووفق اتهامات عائلات المحتجزين له، بأنه يدير حملة سياسية ضدهم لتهيئة الشارع الإسرائيلي لضرورة التنازل عنهم كـ “كبش فداء”.
وفي هذا المضمار، كشفت الإذاعة العامة عن رفض المغرب ضغوطاً إسرائيلية للتدخل في مداولات الصفقة، وفي البحث عن “اليوم التالي”، وعن توجّه بعض الإسرائيليين، اليوم، لتقديم دعوى ضد “حماس” في “محكمة العدل الدولية” في لاهاي.
المصدر: القدس العربي