2024-11-22 12:43 م

ماذا يعني تشكيل بعثة أممية لتقييم الوضع في شمال غزة؟

لم تختلف جولة وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن الأخيرة للشرق الأوسط التي شملت تركيا واليونان والأردن وقطر والإمارات والسعودية ودولة الاحتلال الإسرائيلي عن الجولات الأربعة الأخرى التي أجراها منذ عملية طوفان الأقصى في 7 أكتوبر/تشرين الأول الماضي، إذ جاءت جميعها في سياق دعم الكيان المحتل في حرب الإبادة التي يشنها ضد قطاع غزة من جانب، ومحاولة “بيع الوهم” للعرب والمسلمين والمجتمع الدولي بحرص واشنطن على تهدئة الأوضاع والبحث عن مخرج لوقف تلك الكارثة الإنسانية من جانب آخر.

إلا أن ما يميز هذه الجولة التي استغرقت 5 أيام، إعلان بلينكن في ختام مباحثاته في تل أبيب الاتفاق مع قيادات الاحتلال على إرسال بعثة أممية إلى شمال غزة لتقييم الأوضاع بشأن عودة النازحين.

وبعيدًا عن جدوى هذا المقترح واحتمالية تنفيذه، فإنه أثار الكثير من الجدل في ضوء القراءات المتعددة لما ينضوي عليه من أهداف تزعم واشنطن أنها تسعى إلى تحقيقها وعلى رأسها وقف الحرب في القطاع ورفض مخطط التهجير لسكان غزة والحيلولة دون توسعة دائرة الصراع.. فهل يتفق هذا الطرح حقيقة مع تلك الأهداف المزعومة؟
خدمة الاحتلال في المقام الأول
الحديث عن هذا التصور بعد أكثر من 95 يومًا من الحرب وقبيل انعقاد جلسات محكمة العدل الدولية لمناقشة دعوى جنوب إفريقيا باتهام جيش الاحتلال بارتكاب جرائم إبادة بحق الفلسطينيين في غزة، يأتي في سياق غسل سمعة المحتل أمام المجتمع الدولي وتنظيف ثوبه المتسخ بالوحشية والعنصرية والإجرام على مدار أكثر من ثلاثة أشهر.

منذ اليوم الأول للحرب وتل أبيب تعزف على وتر التشكيك في حجم الانتهاكات المرتكبة في القطاع، وأرقام الضحايا ومستوى الخسائر التي تعلن عنها الجهات الرسمية الفلسطينية، وهو التشكيك الذي تتبناه واشنطن بشكل كبير وتحاول الترويج له عبر وسائلها الإعلامية والدبلوماسية.

ومن ثم فإن البعثة الأممية المقترح إرسالها لشمال القطاع سيكون لها دورها في تقديم تقارير وتقييمات ميدانية تخدم بطبيعة الحال الموقف الإسرائيلي وتقلل من حجم الانتهاكات وتحاول ضعضعة المصداقية الفلسطينية، خاصة في ظل الغموض الذي يخيم على المقترح، فيما يتعلق بأعضاء البعثة وخلفياتها ومواقفها السياسية، وفوق هذا رعاية الولايات المتحدة لهذا الأمر، ما يثير الشكوك في نزاهة البعثة وما يصدر عنها من تقارير وتقييمات.

وبجانب ما يمكن أن تحدثه مثل تلك المقترحات وما يخرج عنها من تقارير من تأثير على أي دعاوى دولية لملاحقة الاحتلال قضائيًا، يمكن في الوقت ذاته توظيفها بشكل أو بآخر لإثارة الشكوك في البيانات الصادرة عن الجانب الفلسطيني بشأن أعداد الشهداء والمصابين وحجم التدمير والخراب والنزوح القسري، وذلك في محاولة لكسر حالة الدعم الدولي الهائلة للشعب الفلسطيني وتفتيت المزاج العالمي الناقم على الاحتلال وحلفائه.

تمرير مخطط التهجير بالبطيئ
دومًا ما تردد واشنطن أنها ضد مسألة التهجير القسري لسكان القطاع، وأن الحرب تستهدف القضاء على حماس وبقية فصائل المقاومة كما يتخيل الاحتلال، غير أن التطورات الميدانية بكل تطوراتها تشير إلى زيف تلك الادعاءات وتؤكد أن التهجير غاية في حد ذاته وليس مجرد وسيلة للقضاء على المقاومة، بما يخدم الأجندة الاستيطانية التوسعية الإسرائيلية، وهو ما عبر عنه قادة الاحتلال ونخبته السياسية من الوزراء والبرلمانيين والمحللين.

ونجحت المقاومة بفضل صمودها وما أحرزته ميدانيًا في المعارك الضارية مع الاحتلال في إفشال هذا المخطط، ساعد على ذلك تشبث الفلسطينيين بأرضهم ومنازلهم ورفضهم تكرار ما حدث عام 1948، حتى من نزح منهم مرغمًا تحت وابل القصف المستمر يتعامل مع الأمر كمرحلة مؤقتة لحين انتهاء الحرب ثم العودة إلى منازلهم مرة أخرى.
ويُفترض تلقائيًا أنه بعد انتهاء الحرب يعود سكان الشمال إلى منازلهم مرة أخرى، دون عراقيل أو شروط أو مفاوضات، وهو أمر منطقي لا يستحق حتى دراسته، لكن وجود بعثة أممية في الشمال لتقييم المشهد قد يكون العقبة الأبرز أمام عودة النازحين، حيث يتوقع منع عودتهم لحين الانتهاء من أعمال التقييم وإعداد التقارير ودراسة الموقف وخلافه، خاصة إذا طال أمدها، وهو ما يعني باختصار تمرير مخطط التهجير الطوعي بشكل تدريجي أو على الأقل توفير الغطاء الأممي له.

وعليه تكون البعثة في خدمة أهداف الاحتلال حتى ولو بطرق ملتوية، ولعل هذا ما دفع إلى التوافق بين الحكومة الإسرائيلية وبلينكن بشأن هذا المقترح.

بيع الوهم
منذ عملية الطوفان وما تلاها من حرب إبادة جماعية بحق سكان القطاع، يحاول وزير الخارجية الأمريكي ومعه وزير الدفاع، بيع الوهم للعرب والمسلمين من جانب والمجتمع الدولي من جانب آخر، من خلال التصريحات الوردية الخاصة بالعمل على التهدئة وتعزيز الهدن الإنسانية والبحث عن مخرج من تلك الأزمة.

ورغم إعلان الإدارة الأمريكية بشكل مباشر وواضح وعلني دعمها للاحتلال في تلك الحرب، عسكريًا وسياسيا واقتصاديًا ولوجستيًا، وهو أمر لا يختلف عليه أحد، ولا يُنكره الأمريكان أنفسهم، فإنه وفي الجهة الأخرى هناك تصريحات دبلوماسية مكثفة تأتي في مسار آخر، عازفة على أوتار التهدئة وتجنب توسيع دائرة الحرب، في تناقض فج ليس مستغربًا على الولايات المتحدة.

ففي الوقت الذي تمتنع فيه إدارة بايدن عن مطالبة الاحتلال بوقف إطلاق النار في القطاع، وتعرقل أكثر من مشروع قانون أممي في هذا الشأن، وتصدر قرارات عاجلة تتخطى تصويت البرلمان بدعم الكيان المحتل بالأسلحة الفتاكة، بل وتشكك في أرقام الضحايا من المدنيين والصحفيين والأطباء، إذ بوزير الخارجية بلينكن يمارس دور “حمامة السلام” في المنطقة، مؤكدًا خلال مباحثاته مع القادة العرب والمسلمين طيلة الجولات الخمسة التي قام بها منذ بداية الحرب على ضرورة التهدئة وبحث مسألة حل الدولتين ورفض التهجير القسري وتقليل استهداف المدنيين.

يحاول بلينكن عبر جولاته تلك تجميل صورة بلاده المشوهة بسبب دعم الاحتلال، وغسل يدها الملطخة بدماء أكثر من 23 ألف فلسطيني، أغلبهم من الأطفال والنساء، من خلال الترويج للمبادرات والمقترحات والتصريحات التي توهم الجميع بأن واشنطن تسعى للتهدئة وأنها وسيط نزيه في تلك الحرب.

ونجح وزير الخارجية الأمريكي على مدار أكثر من ثلاثة أشهر في دغدغة مشاعر الحكومات العربية والإسلامية وتخديرها بمثل تلك التصريحات والمبادرات والمقترحات التي تستهدف في المقام الأول كسب المزيد من الوقت لتحقيق الاحتلال أهدافه المنشودة، وتوفير الغطاء السياسي والعسكري له، وتجنيب أي ردود فعل من شأنها أن تعرقله عن تلك الأهداف.

قلق ومخاوف
تثير مسألة تشكيل بعثة أممية في شمال قطاع غزة قلقًا لدى كل من دول الجوار، لا سيما مصر والأردن، فتلك البعثة ستكون تحت إشراف الأمم المتحدة وأمريكا بطبيعة الحال، وستكون هي المتحكم بشكل كبير في تكوين تلك البعثة وأدواتها وأوراقها وتحركاتها، وهو الأمر الذي قد يشكل تهديدًا للأمن القومي المصري والأردني.

وفي ظل غموض المقترح وعدم الكشف عن المزيد من التفاصيل تطل العديد من علامات الاستفهام برأسها باحثة عن إجابة: ما الجهات المشكلة لتلك البعثة؟ ما طبيعة عملها؟ هل ستتضمن قوات متعددة الجنسية؟ ما موقع مصر والأردن ولبنان من تلك البعثة؟ وما الخطة الزمنية لعملها؟ وما هو موقع دولة الاحتلال منها، تكوينًا وإشرافًا ومراقبة؟

وبالمحصلة، فإن ترجمة هذا المقترح إلى قرار رسمي قابل للتنفيذ يحتاج إلى ضمانات أمنية وسياسية وإعادة نظر في الخطط القتالية والتموضعات العسكرية في شمال القطاع، وهو أمر صعب التنفيذ في الوقت الحاليّ، لا سيما في ظل عرقلة قوات الاحتلال لأي نشاط أممي من شأنه كشف حجم الإجرام والانتهاكات في غزة، لكنه يبقى في النهاية مسحوق تجميل للاستخدام في أي وقت، بما يخدم أهداف الاحتلال ويرمم تشوهات الأمريكان من جانب، ومخدر موضعي للأنظمة العربية والإسلامية والمجتمع الدولي من جانب آخر.

المصدر: عماد عنان|نون بوست