2024-11-25 08:49 م

صالح العاروري: من الخلية العسكرية الأولى في الضفة إلى هندسة الطوفان

احتاج الاحتلال 18 عامًا من الأسر في سجونه و13 عامًا من الإبعاد، ليدرك أن إجراءاته المشددة وملاحقته تجاه الشيخ صالح العاروري لا تعني نهاية عمله المقاوم، أو عزوفه عن المسير في سبيل فلسطين، حتى اغتالته في بيروت في 2 يناير/ كانون الثاني 2024.

العاروري، ابن قرية عارورة شمال مدينة رام الله، مواليد عام 1966، مرّ بمحطات ساهمت في تشكيل حركة المقاومة الإسلامية “حماس” بصورتها الحالية، وتحديدًا بالضفة الغربية، بدءًا من توليه “أمير الكتلة الإسلامية” أي مسؤول الجناح الطلابي للحركة الإسلامية في جامعة الخليل، مرورًا بتأسيس نواة حماس في الضفة وخلاياها العسكرية، وليس انتهاءً بهندسة عملية “طوفان الأقصى”، التي أطلقتها كتائب الشهيد عز الدين القسام في 7 أكتوبر/ تشرين الأول 2023.

وليس غريبًا على أن الاحتلال هدد العاروري بالاغتيال صراحة مرات ومرات، وأن وزارة الخزانة الأمريكية صنّفت الشيخ العاروري بشكل خاص كإرهابي عالمي عام 2015، بل طرحت مكافأة قدرها 5 ملايين دولار لكل من يأتي بمعلومات عن العاروري.

بدايات العمل: الاعتقال ثم الإبعاد
قبل تأسيس حركة حماس عام 1987، ارتبط الشيخ صالح العاروري بجماعة الإخوان المسلمين مطلع الثمانينيات، ثم انتقل إلى مدينة الخليل ملتحقًا بكلية الشريعة في جامعتها، وخلال فترة دراسته كان من أبرز نشطاء الكتلة الإسلامية، التي تشكّلت قبل سنوات قليلة من التحاقه بالجامعة عن طريق عدد من نشطاء الإخوان المسلمين، وأصبح أميرها.

ومع تأسيس حركة حماس في قطاع غزة عام 1987، تولى الشيخ وعددًا من رفاقه في كوادر الحركة مهمة تأسيس حماس في الضفة الغربية، وعمل على تثبيت وجود الحركة في منطقة شمال رام الله، رفقة إخوانه الشهيد أمجد حسن من قرية دير السودان الذي يعتبر أول شهيد للحركة في رام الله، والشهيد عبد الرحمن العاروري أحد قادة كتائب الشهيد عز الدين القسام، الذي تولى مسؤولية تأمين وتوفير الدعم اللوجستي للمطاردَين يحيى عياش ومحمد الضيف وآخرين.

واتفق الثلاثة على تشكيل مجموعات عسكرية في الضفة، سرعان ما انكشفت وتم اعتقاله لفترة قصيرة (4 شهور)، سخّرها العاروري خلال هذه المدة لإكمال عمله العسكري، فتعرّف الشيخ في السجن إلى عادل عوض الله وإبراهيم حامد اللذين شغلا وقتها مناصب قيادية في الحركة، وأصبحا من أبرز قادة التنظيم العسكري للحركة في الضفة.

وبعد الإفراج عنه، شرع الشيخ رفقة عوض الله وحامد في تنظيم عدد من كوادر الحركة في التنظيم العسكري، ففي جنوب الضفة اجتمع الثلاثة وقرروا البدء في تشكيل خلايا عسكرية عام 1991، أما في شمال الضفة فقد بدأ زاهر جبارين يتجه نحو العمل العسكري بجانب يحيى عياش وعدنان مرعي وعلي عاصي، وهو ما عُرِف لاحقًا بالقيادة الرباعية في الشمال، كما جرى في الضفة الغربية الاتفاق على تثبيت مسمّى “كتائب القسام”.

وتولّى الشيخ تزويدها بالسلاح، وأثمر ذلك عن عملية محمد بشارات في “التلة الفرنسية” في القدس عام 1991 التي أسفرت عن مقتل جندي إسرائيلي، وتزامنًا مع تلك المجهودات انتقلت مجموعة من المطارَدين من غزة إلى الضفة، كان على رأسهم عماد عقل ومحمد الضيف وبشير حمّاد وصلاح جاد الله وطلال نصار، وعمل الضيف وحمّاد وجاد الله مع خلايا الكتائب في وسط وشمال الضفة، بينما عمل عقل مع خلاياها في الخليل ونفّذ عدة عمليات إطلاق نار، وفتحَ الشيخ العاروري مع رفاقه خطّ اتصال مع قيادة الحركة في الخارج، خاصة في الولايات المتحدة.

ولم يطل الأمر كثيرًا حتى انكشف أمر الخلايا العسكرية، وأعاد الاحتلال اعتقاله عام 1992، في هذا الاعتقال تعرّض لتحقيق قاسٍ استمر عدة شهور، في مركز المسكوبية في القدس وفي سجن طولكرم المركزي؛ السجن الذي يحمل عنه معتقلوه ذاكرة سيئة من آثار التعذيب الوحشي، وحُكم عليه بالسجن 5 سنوات.

ومن خلف القضبان مرة أخرى، ظهر العاروري كقيادي بين الأسرى، وتمكّن الاحتلال من الحصول على معلومات بحقه تفيد بأنه زوّد خلايا تابعة للقسام غرب رام الله بالسلاح، وهو من وراء قضبانه، على إثر هذه الاعترافات الجديدة تعرّض العاروري لجولة جديدة من التحقيق لشهور، نتج عنها حكم آخر بـ 5 سنوات إضافية، ومع اقتراب انتهاء مدة السنوات العشرة، حوّل الاحتلال الشيخ مرة أخرى للاعتقال الإداري، الذي استمر أيضًا 5 سنوات متواصلة.

وما لبث الاحتلال أن أفرج عن الشيخ عام 2007 بعد 15 عامًا من الاعتقال، حتى أعاد اعتقاله بعد أشهر قليلة من العام نفسه، واستمر في أسره حتى عام 2010، وأفرج الاحتلال عنه شريطة إبعاده خارج فلسطين لمدة 3 سنوات بهدف تأديبه، هذا الإبعاد الذي يصفه خبراء أمنيون لدى الاحتلال بأنه “خطأ إسرائيل”.

العمل من الخارج
بعد عام من الإبعاد، شارك الشيخ صالح العاروري في الفريق المفاوض لإتمام صفقة الجندي الإسرائيلي الأسير جلعاد شاليط لدى المقاومة الفلسطينية، وهي الصفقة المعروفة باسم “وفاء الأحرار” عام 2011، والتي بموجبها حررت كتائب القسام 1027 أسيرًا وأسيرة من سجون الاحتلال.

واستطاع خلال إبعاده أن يلتقي بقيادات “حزب الله” اللبناني والقيادات الإيرانية، ويشكّل حركة وصل للحركة بينهما، ويمدّ بناءً على هذا التقارب المقاومة بالسلاح العسكري، ويمكن اعتبار قرار إبعاده والتضييق عليه في قطر وتركيا مع عدد كبير من كوادر وقيادات الحركة المبعدين، بسبب اتهامات الاحتلال لهم بالمسؤولية عن عمليات عسكرية وتنظيم خلايا في الضفة، من الأسباب التي زادت من متانة علاقته مع “حزب الله” وإيران.

فخلال السبع سنوات الأخيرة، ظل الشيخ العاروري ممنوعًا من دخول كل الدول المحيطة والإقليم باستثناء لبنان وقطر وتركيا، وصار يتنقل بين تركيا ولبنان بصعوبة بالغة، ووصل الأمر أنه قبل عامَين لم يجد دولة تستقبله، فظلّ عالقًا في طائرته إلى حين تنسيق دخوله بالخفاء إلى إحدى الدول.

ويُذكر أن أحد الشروط التي وضعها الاحتلال لتركيا في بداية المفاوضات حول اتفاق المصالحة بخصوص قضية سفينة مرمرة عام 2015، كان الطلب بمغادرة العاروري من الدولة، ونتيجة لذلك غادر إسطنبول وانتقل إلى قطر، التي اضطر أيضًا إلى مغادرتها بعد عامَين بسبب تفاهمات بين الكيان والقطريين، وأخيرًا وجد نفسه في بيروت يعيش بالقرب من مكاتب قيادة “حزب الله” في الضاحية، حيث أُغتيل.

الضفة مرة أخرى
عام 2014، وجهت كتائب القسام ضربة كبيرة للاحتلال، بعد أن خطفت خليةٌ تابعة لها 3 مستوطنين قرب الخليل، قبل أن يُقتلوا، حينها أعلن الشيخ صالح العاروري في أحد المؤتمرات في تركيا المسؤولية عن العملية، ما زاد من التحريض الإسرائيلي عليه، ومن جانب آخر قوبل هذا الإعلان ببعض الانتقادات داخل الحركة الموجّهة للشيخ، بسبب ما يمكن أن يتركه من أثر سلبي على علاقات الحركة مع تركيا.

وفي 5 أكتوبر/ تشرين الأول 2017، اُنتخب العاروري نائبًا لرئيس المكتب السياسي لحركة حماس، وقائد ساحة الضفة الغربية التي شهدت قيام المقاومة في تلك الفترة بما يعرَف بـ”هبّة القدس” 2015-2016، وفترة ما بعد معركة “سيف القدس” 2021، وحتى اللحظة، حيث نشطت الخلايا العسكرية في الضفة ومن بينها كتائب القسام.

يقول الشيخ في إحدى مقابلاته: “اليوم الضفة رأس حربة في مواجهة العدو، لأن المشروع الاستيطاني لا تكفي معركة واحدة لتراجعه وتفكُّكه، بينما معركة استنزاف ميدانية تدور رحاها على أرض الضفة بوجود دعم من الساحات الأخرى، سواء داخل فلسطين أو خارجها، سيجعل المشروع الاستيطاني ينكفئ ويتراجع ويردع قادة العدو وحكومته المتطرفة عن مواصلة برنامجها في تهويد الضفة”.

وفي عام 2023 تكثّف العمل المقاوم في الضفة الغربية، وتبنّي كتائب القسام بشكل صريح عمليات نوعية نفّذها مقاتلوها الشهداء عبد الفتاح خروشة، وحسن قطناني ومعاذ المصري، ومهند شحادة وخالد صباح، وعبد الوهاب خلايلة، وأحمد ياسين هلال غيظان، وغيرهم، بل تشكّلت كتائب تحمل اسم كتائب القسام في جنين وطولكرم، وكتيبة عياش التي بدأت محاولات إطلاق صواريخ في جنين.

وفي أغسطس/ آب من العام نفسه، قال جيش الاحتلال إنه ألقى القبض على خلية تابعة لحماس مكوّنة من 9 رجال، كانت تخطط لاختطاف جندي إسرائيلي في الضفة الغربية، بعدما أعلن سابقًا في النصف الأول من عام 2023 أنه أحبط محاولة تفجير حافلة في الخضيرة، كانت قد خططت لها الحركة.

في الشهر ذاته، بدأ نتنياهو بالحديث من جديد عن اغتيال العاروري، وقال في اجتماع لحكومة الاحتلال: “لقد استمعت إلى رجل حماس العاروري من مخبئه في لبنان، هو يعرف لماذا يختبئ، لأننا نقاتلهم بكل الوسائل، ومن يمارس الإرهاب ضد إسرائيل سيدفع الثمن كاملًا”.

كان ردّ العاروري عليه صامتًا، واكتفت الحركة بتسريب صور للرجل الثاني في الحركة على الصعيد السياسي، وهو يجلس داخل قاعة من مكتبه في لبنان بزيّه العسكري وأمامه 3 خطوط هاتفية، وقطعة سلاح يعتقد أنها من طراز إم-16، وهو السلاح الدارج في الضفة الغربية.

من مهندسي “طوفان الأقصى”
بعد إطلاق كتائب القسام عملية “طوفان الأقصى” في 7 أكتوبر/ تشرين الأول 2023، كشف الشيخ صالح العاروري أن خطة “طوفان الأقصى” قامت على أساس اقتحام 1200 من عناصر القسام غلاف غزة، ومهاجمة “فرقة غزة” المسؤولة عن حصار قطاع غزة وعمليات الاغتيال والقتل التي تنفّذ بحقّ الفلسطينيين في القطاع.

وبحسب العاروري، فإن الخطة كانت تتوقع “أن تستمر المعارك مع فرقة غزة لساعات طويلة، إلا أن مقاتلي القسام تفاجؤوا بانهيار الفرقة كاملة خلال ساعات قصيرة، وتمكنوا من الوصول بسهولة لمركز قيادتها وللمطار والكيبوتسات والمستوطنات القريبة”، بعد أن هرب من نجا من الجنود الإسرائيليين، في حين قُتل وأُسر الكثير منهم.

وبينما “طوفان الأقصى” هو طوفان الجبهات المختلفة نحو الأقصى، نفّذت كتائب القسام، بتوجيهات من العاروري، عمليات في الضفة الغربية، افتتحتها بعملية بيت ليد شرق مدينة طولكرم المحتلة في 6 نوفمبر/ تشرين الثاني، والتي أسفرت عن مقتل جندي إسرائيلي خلال عملية إطلاق النار التي نفّذها المنفذ -الذي لم يجده الاحتلال بعد- من سيارة، تجاه سيارة أخرى تُقلّ جنديًّا على الأقل.

لكنّ الكتائب وفي تبنّيها للعملية، كشفت عن مشاهد لم يعلن عنها الاحتلال، تمثلت في استدراج المنفّذ قوات الاحتلال إلى كمين من خلال حرق سيارة في قرية بلعا شرق طولكرم، ومن ثم تفجير عبوات زُرعت مسبقًا، وتعتبر هذه العملية هي العملية الموثَّقة الأولى من قبل فصيل فلسطيني منذ ما يقارب 20 عامًا في الضفة الغربية.

وعملية النفق، في نوفمبر/ تشرين الثاني أيضًا، تبنّتها كتائب الشهيد عز الدين القسام، والتي أسفرت عن مقتل مستوطن، ونفذها 3 منفذين هم الشهيد عبد القادر القواسمي نجل القائد في كتائب القسام عبد الله القواسمي، الذي ارتقى خلال انتفاضة الأقصى؛ والشهيد حسن قفيشة، وهو نجل الأسير المحرر المبعد مأمون قفيشة؛ ونصر القواسمي، وهو شقيق أحمد القواسمي الذي نفّذ عملية استشهادية خلال انتفاضة الأقصى، وقال الاحتلال إن المنفذين كانوا في طريقهم لتنفيذ عملية في القدس المحتلة، لكنهم كُشفوا عند حاجز جنوب القدس فاضطروا إلى تنفيذ عمليتهم هناك.

ليس عبثًا أن الاحتلال وضع العاروري في رتبة الصف الأول لقيادات حماس الذين يسعى إلى اغتيالهم، بنفس درجة أهمية محمد الضيف القائد العام للقسام، ويحيى السنوار قائد حماس في غزة، فمن وجهة نظر الاحتلال تشكّل جبهة الضفة الغربية الجبهة الأخطر من بين جبهات الاحتلال، فهي تهدد بشكل مباشر وجوده الاستيطاني الممتد على أراضي، نتيجة لتداخل المستوطنات مع مناطق التواجد الفلسطيني، ما يجعلها هدفًا سهلًا لعمليات المقاومة.