2024-11-22 08:01 م

غزة 2023: تحوّل نموذجي في حرب الـ 100 عام على فلسطين

 

كنب رشيد الخالدي
ترجمة وتحرير نون بوست

قبل ستة أسابيع، كان من الممكن أن يكون لهذا المقال عنوان مختلف ومحتوى مختلف بعض الشيء. كنت سأقدم بعد ذلك الخلفية التاريخية للحظة الحالية من خلال الإطار المنصوص عليه في كتابي، حرب المائة عام على فلسطين: تاريخ الاستعمار الاستيطاني والمقاومة. يشرح هذا الكتاب الأحداث التي شهدتها فلسطين منذ سنة 1917 على أنها نتيجة للحرب التي شُنت على السكان الفلسطينيين الأصليين على مراحل مختلفة من قبل مجموعة متنوعة من القوى العظمى المتحالفة مع الحركة الصهيونية – وهي حركة كانت استعمارية استيطانية وقومية في الوقت ذاته. وتحالفت هذه القوى فيما بعد مع القومية الإسرائيلية التي انبثقت عن تلك الحركة.

ما زلت أعتقد أن هذا الإطار هو أفضل طريقة لشرح تاريخ القرن الماضي وأكثر من ذلك. وبالتالي، فإن هذا ليس صراعا قديما بين العرب واليهود، ولم يكن مستمرا منذ زمن سحيق فحسب، بل هو نتاج حديث تمامًا لاجتياح الإمبريالية الشرق الأوسط وصعود الدولة القومية الحديثة، العربية واليهودية على حد سواء. علاوة على ذلك، لم تكن هذه الحرب مجرد حرب بين الحركة الصهيونية وإسرائيل من جهة والفلسطينيين من جهة أخرى، الذين كانوا يحظون بدعم العرب وغيرهم من الجهات الفاعلة في بعض الأحيان. لقد اشتملت دائمًا على تدخل هائل من القوى العظمى إلى جانب الحركة الصهيونية وإسرائيل: على غرار بريطانيا حتى الحرب العالمية الثانية، والولايات المتحدة وقوى أخرى منذ ذلك الحين.

لم تكن هذه القوى العظمى محايدة أبدًا، ولم تكن أبدًا وسيطًا نزيهًا، لكنها كانت ولا تزال أطرافًا فاعلة في هذه الحرب إلى جانب إسرائيل. بالنظر إلى هذه الحقائق، وبعيدا عن وجود تكافؤ بين الجانبين، فقد كانت هذه حربا بين المستعمِر والمستعمَر، بين الظالم والمظلوم، وكان هناك دائما اختلال كبير في موازين القوى بين الجانبين في فلسطين لصالح الصهيونية وإسرائيل.

في حين أعتقد أن هذا الإطار قد تَعزز على مدى الأسابيع الستة الماضية من خلال المشاركة الأمريكية والطبيعة المحدودة نسبيًا لمشاركة إيران والدول العربية، فقد نشهد تحولًا في النموذج بسبب التطورات الجديدة التي ظهرت منذ السابع من تشرين الأول /أكتوبر.

مرحلة جديدة
وتعد المعطيات التي أوشك على طرحها مؤقتة إلى حد كبير. كمؤرخ، أنا متردد في التنبؤ بكيفية تطور الأحداث. ولكن في ظل مسار هذه الحرب على مدى أكثر من قرن، من الواضح أن عناصر خمسة جديدة قد ظهرت ربما تشير إلى أن هذه الحرب تدخل مرحلة جديدة.

الأول هو عدد القتلى في إسرائيل الذي يزيد عن 1200، وهو ثالث أعلى عدد في تاريخ البلاد. قُتل أكثر من 800 مدني إسرائيلي، بالإضافة إلى أكثر من 350 من أفراد الجيش والشرطة، كل ذلك في غضون ما يزيد قليلاً عن يوم واحد. وقتل 64 جنديا إسرائيليا منذ ذلك الحين. وربما يكون هذا أعلى عدد من القتلى المدنيين الإسرائيليين على الإطلاق (قُتل 719 مدنيا في الانتفاضة الثانية على مدى أربع سنوات)، وكان معظم القتلى الإسرائيليين البالغ عددهم 6000 في سنة 1948، وهو أعلى عدد من القتلى في أي حرب، من الجنود. إن الخسائر في صفوف الجيش والشرطة الإسرائيلية، بالإضافة إلى تلك التي تكبدتها إسرائيل منذ بدء الغزو البري قبل عدة أسابيع، تجاوزت بالفعل 400 جندي. وسوف يقترب هذا العدد قريبا من عدد الجنود الإسرائيليين الذين قتلوا أثناء الغزو الإسرائيلي للبنان في سنة 1982 (عندما قُتل أكثر من 450 جنديا).

لا يعتبر عدد القتلى الفلسطينيين الحالي الذي يتجاوز 11.500، مثل عدد القتلى في إسرائيل، رقماً نهائياً بعد، وسوف يرتفع بسبب المعدلات المرتفعة للوفيات بسبب الحرب والأمراض، ووفيات الأطفال، وأسباب أخرى، إلى جانب الإضافة المحتملة لمعظم المفقودين البالغ عددهم 2700 شخص. وهذا يجعله بالفعل ثاني أعلى عدد من القتلى الفلسطينيين منذ سنة 1948، عندما قُتل حوالي 20 ألف شخص، معظمهم من المدنيين، وربما يكون أعلى من عدد القتلى الفلسطينيين خلال الحرب الإسرائيلية على لبنان سنة 1982. عندما قُتل 20 ألف شخص، كان أكثر من نصف عدد القتلى فلسطينيين والباقي لبنانيون [خلال الانتفاضة الثانية قُتل نحو 5000 فلسطيني].

وأنا أقرأ هذه الإحصائيات المروعة كدليل على نقلة نوعية. لقد خلقت حصيلة الضحايا الإسرائيليين، ولاسيما عدد المدنيين الذين قتلوا، صدمة مؤلمة ترددت أصداؤها في إسرائيل، وفي المجتمعات اليهودية في مختلف أنحاء العالم، ولاسيما الغرب. من المستحيل التنبؤ بتأثيراتها السياسية طويلة الأمد، ولكنها أثرت بالفعل بشكل كبير على عملية صنع القرار في الحكومتين الإسرائيلية والأمريكية، الأمر الذي جعل كلا البلدين أكثر عدوانية وتعنتا.

في الوقت نفسه، فإن التأثير السياسي طويل المدى لمثل هذا العدد الهائل من القتلى الفلسطينيين خلال فترة قصيرة، ليس فقط على الفلسطينيين، ولكن أيضًا على العالم العربي، وربما أبعد من ذلك، لا يمكن حسابه أيضًا وقد يؤثر على السياسة الداخلية لإسرائيل والعديد من الدول العربية، وكذلك مستقبل إسرائيل في المنطقة.

ثانيا، يجب النظر إلى هذه الأرقام في سياق سمتين أخرتين. الهجوم المفاجئ الذي شنته حماس، وتغلب على الدفاعات الإسرائيلية، بما في ذلك هزيمة فرقة كاملة من الجيش الإسرائيلي (فرقة غزة)، والفشل الكامل لتكنولوجيا الاستخبارات والمراقبة الإسرائيلية، وذبح العديد من الإسرائيليين تمثل المرة الأولى التي تُشن فيها حرب بهذه الشراسة على إسرائيل منذ سنة 1948. وقد عانت إسرائيل من هجمات شديدة على سكانها المدنيين من قبل، من الصواريخ والفدائيين، ولكن منذ سنة 1948، كل الحروب الإسرائيلية الكبرى – 1956، 1967، حرب الاستنزاف 1968-1970، والانتفاضة الثانية 1973، 1982، وجميع الحروب على غزة – دارت بشكل أساسي على الأراضي العربية. ولكن لم يحدث شيء مثل هذا لإسرائيل منذ 75 سنة.

ثالثا، تمثل هذه الحرب انهيارًا مؤقتًا للعقيدة الأمنية الإسرائيلية. وكثيرا ما يُطلق على هذا اسم ” قوة الردع”، ولكنه في الواقع مستمد من العقيدة العدوانية التي تعلمها مؤسسو القوات المسلحة الإسرائيلية لأول مرة على يد خبراء بريطانيين في مكافحة التمرد مثل تمرد أوردي وينجيت. ويرى هذا المبدأ أنه من خلال الهجوم الوقائي أو بطريقة انتقامية بقوة ساحقة، يمكن هزيمة العدو بشكل حاسم، وترهيبه بشكل دائم، وإرغامه على قبول الشروط الإسرائيلية. وفيما يتعلق بغزة، كان هذا يعني قصف سكان غزة بشكل دوري وقتل أعداد كبيرة منهم لإجبارهم على قبول الحصار الذي استمر لمدة 16 سنة.

وقد أشارت إلى الانهيار المؤقت لهذا المبدأ لأنه في حين كان ينبغي لما حدث في 7 تشرين الأول/أكتوبر أن يظهر الانهيار التام للقوات الإسرائيلية، فمن الواضح أن المؤسسة الأمنية الإسرائيلية لم تتعلم شيئا وضاعفت جهودها العسكرية. ويبدو أنهم نسوا مقولة كلاوزفيتز بأن الحرب هي استمرار للسياسات القائمة بوسائل أخرى. ومن الواضح أن القيادة الإسرائيلية ليس لديها هدف سياسي واضح في شن هذه الحرب، باستثناء الانتقام من الخسائر في صفوف المدنيين والهزيمة العسكرية المذلة  لهجوم السابع من تشرين الأول/ أكتوبر، والتي تم تقديمها على أنها استعادة لقوة “الردع”.

بدلاً من تحديد هدف سياسي لهذه الحرب، طرحت الحكومة الإسرائيلية وجيشها هدفاً مستحيلاً يتمثل في تدمير حماس، الكيان السياسي العسكري الإيديولوجي الذي ربما يمكن هزيمته عسكريا ولكن لا يمكن تدميره. وسواء تم إضعاف حماس أو تعزيزها في النهاية، وهو أمر لن نعرفه جيدًا إلا بعد انتهاء هذه الحرب، فلن يُقضى عليها كقوة سياسية وأيديولوجية طالما استمر الاحتلال والقمع للشعب الفلسطيني.

رابعا، هناك عنصر جديد آخر قد يكون جزءًا من التحول النموذجي، وهو أنه بعد التعاطف الأولي واسع النطاق مع إسرائيل على المستوى العالمي في البداية، كانت هناك ردود فعل سلبية شديدة تجاه الحرب الإسرائيلية على غزة. وكانت هذه هي الحال في مختلف أنحاء العالم العربي، وفي معظم البلدان الإسلامية، وفي أغلب أنحاء العالم (أو بالأحرى العالم الحقيقي، باستثناء الولايات المتحدة وعدد قليل من الدول الغربية). وكانت هناك ردود فعل سلبية مكثفة مماثلة حتى بين شرائح واسعة من السكان الأميركيين والأوروبيين. ومن المستحيل قول ما إذا كان رد الفعل هذا سيكون له تأثير دائم. ومن المؤكد أنه لم يكن له أي تأثير ملحوظ تقريبًا على سياسة إدارة بايدن المتمثلة في الدعم الشامل لإسرائيل الذي يرتقي إلى مستوى المشاركة النشطة في حربها على غزة، والذي قد يؤدي إلى التزام القوات الأمريكية بالقتال في حال تطور الصراع إلى حرب واسعة النطاق.

تثبت ردود الفعل في الدول العربية على الأقل الجهل المطلق من جانب صناع السياسات والنقاد الغربيين والإسرائيليين الذين زعموا باستهزاء أن “العرب لا يهتمون بفلسطين”. وبتأكيدهم على ذلك بثقة، فقد أخطأوا في فهم المستبدين الذين يحكمون معظم الدول العربية وشعوبهم، الذين من الواضح أنهم يهتمون كثيرًا  بالقضية الفلسطينية، حيث نظموا أكبر المظاهرات التي شهدتها معظم العواصم العربية منذ أكثر من 12 سنة.

وكما كان بوسع أي مؤرخ جاد أن يقول لهم، فقد أبدت الشعوب العربية، على امتداد أكثر من قرن من الزمان، اهتماما عميقا بفلسطين. من المستحيل أن نقول ما إذا كان رد الفعل السلبي القوي تجاه إسرائيل سوف يستمر، وما إذا كانت الأنظمة المناهضة للديمقراطية التي ابتليت بها المنطقة ستنجح في قمع التعبير عن هذه المشاعر ومتى سيتم ذلك. والأمر الواضح هو أنه سيتعين عليهم، في سياساتهم المستقبلية تجاه إسرائيل، أن يكونوا أكثر حرصًا مما كانوا عليه سابقًا في الأخذ بعين  الاعتبار الدعم العاطفي لشعوبهم للقضية الفلسطينية.

خامسا، هناك عنصر خامس وأخير لهذا التحول النموذجي المحتمل، حيث إن التدابير غير المتكافئة التي تقدر بموجبها النخب والسياسيين الغربيين حياة الأشخاص ذوي البشرة السمراء أو العربية من ناحية، وحياة البيض أو الإسرائيليين من ناحية أخرى، قد ولّدت جوًا سامًا في المساحات التي تهيمن عليها هذه النخب، مثل الساحة السياسية والشركات ووسائل الإعلام، والجامعات مثل كولومبيا.

تنظر هذه النخب، وغيرها، إلى المجازر التي يتعرض لها المدنيون الإسرائيليون على أنها تختلف جوهريا عن المذابح التي ارتكبها أكثر من 12 ضعفا من المدنيين الفلسطينيين. وقد استشهد الرئيس بايدن صراحةً مرة أخرى بمعاناة المدنيين الإسرائيليين، وحدهم، في 15 تشرين الثاني/ نوفمبر، في حين قام في الوقت نفسه بتبرئة القصف الإسرائيلي لغزة، وكرر، بلغته غير المتماسكة المميزة، الخطاب الإسرائيلي الروتينية.

إن هذا النهج غير المتكافئ بشكل صارخ يشكل سلاحا ذا حدين، ففي حين أنه قد يخدم إسرائيل على المدى القصير، إلا أن التحيز والمعايير المزدوجة المتأصلة فيه واضحة أمام العالم، وفي نظر شرائح متنامية من الرأي في الغرب، وخاصة الشباب. وينطبق هذا بشكل عام على جميع الأشخاص الذين لا يتأثرون بالعروض المتحيزة بشدة التي تقدمها وسائل الإعلام الرئيسية، والتي تقدم بشكل عام جميع الأخبار التي تراها إسرائيل مناسبة للنشر.

إن دعم 68 بالمئة من الأميركيين، بما في ذلك أغلبية كبيرة من الديمقراطيين، لوقف إطلاق النار في غزة، وهو الإجراء الذي تعارضه بشدة الحكومة الإسرائيلية وداعميها في البيت الأبيض، يعد مؤشرا على الأهمية، إن لم يكن نذيرا لتغيير النموذج.

ومع ذلك، وعلى الرغم من الاستغلال السياسي الفظ لمقتل المدنيين الإسرائيليين واختطاف الرهائن المدنيين، فمن الأهمية بمكان أن ندرك أن هذه القضايا تمثل مشكلة أخلاقية خطيرة، فضلاً عن مشاكل قانونية وسياسية، لمؤيدي الحقوق الفلسطينية. والعنصر الأخلاقي واضح: فالنساء والأطفال والمسنون وكل الأشخاص غير المقاتلين العزل لابد وأن يتمتعوا بالحماية في زمن الحرب. ويجب أن يكون الجانب القانوني واضحًا أيضًا. ويمكن للمرء أن يختار عدم تطبيق معايير القانون الدولي الإنساني.

ومع ذلك، إذا أراد أحد تطبيقهم، فيجب أن ينطبق على الجميع. وتدعي إسرائيل زورا أنها تلتزم بالقانون الدولي الإنساني، على الرغم من أنها اعترفت صراحة، من خلال “مبدأ الضاحية” الذي أعلنه في سنة 2007 الجنرال السابق غادي أيزنكوت، الذي يشغل حاليا منصب عضو في مجلس الوزراء الحربي الإسرائيلي، بأنها لا تفعل ذلك.

وقد صرح قادة إسرائيل مرارا وتكرارا وبشكل علني بأنهم لا يلتزمون باثنين على الأقل من العناصر الأساسية للقانون الإنساني الدولي، وهما التناسب، الذي يتطلب ألا تكون الخسائر في الأرواح أو الممتلكات مفرطة مقارنة بالميزة المتوقعة من تدمير قوة عسكرية. والهدف والتمييز الذي يتطلب التمييز بين السكان المدنيين والمقاتلين. وفي هجماتها اليومية على غزة، كما حدث في مرات عديدة في الماضي، أظهرت إسرائيل تجاهلها التام لهذه المبادئ من خلال محو حياة أعداد لا حصر لها من المدنيين بدعوى سعيها لقتل أحد المسلحين أو المسلحين.

صحيح أنه بموجب القانون الدولي يحق للشعوب الواقعة تحت الاحتلال أن تقاوم، وهذا ينطبق بالطبع على الفلسطينيين. ومع ذلك، إذا أردنا المطالبة بتطبيق القانون الدولي الإنساني على إسرائيل، فيجب تطبيقه بالتساوي على الجهات الفلسطينية، ويجب على المرء أن يعترف بأنه على الرغم من انتهاكات إسرائيل الفاضحة لهذه القوانين، فإن انتهاكات حماس وغيرها يجب أن تخضع لنفس المعايير.

تكمن المشكلة السياسية في حقيقة أنه في حين تنتهك إسرائيل القانون الدولي الإنساني مع الإفلات التام من العقاب وبموافقة شاملة من الولايات المتحدة وبعض الحكومات الغربية، يتم استغلال الانتهاكات الفلسطينية للأخلاق والقانون الإنساني الدولي المتورطة في قتل واختطاف المدنيين، والتي تنتهك هذه المبادئ الأخلاقية والقانونية، تُستغل لتشويه ونزع الشرعية عن القضية الفلسطينية برمتها، وليس مرتكبيها فقط. وكما هو واضح من ردود الفعل السلبية السياسية والإعلامية والمؤسساتية في الولايات المتحدة وأوروبا منذ السابع من شهر تشرين الأول/ أكتوبر والتي ترتبط بالكامل بهذه الانتهاكات، كما رأينا في جامعة كولومبيا وفي جامعات أخرى، فإن النضال من أجل الحقوق الفلسطينية هو الذي يتم استهدافه.

إن ما يحدث في الفضاء السياسي والإعلامي والمؤسسي العدائي في الولايات المتحدة والغرب والذي يشغله الكثيرون منا له أهمية كبيرة. إذا قبلنا أن إسرائيل هي مشروع استعماري استيطاني (وكذلك مشروع وطني)، فإن الولايات المتحدة والغرب هما عاصمتها. وكما فهمت حركات التحرير الأيرلندية، والجزائرية، والفيتنامية، والجنوب أفريقية، لم تكن مقاومة الاستعمار في المستعمرة كافية.

كما كان من الضروري كسب الرأي العام في المدن الكبرى، الأمر الذي غالبًا ما كان يتضمن فرض قيود على استخدام العنف، فضلاً عن استخدام الوسائل غير العنيفة (رغم صعوبة القيام بذلك في مواجهة العنف الهائل الذي يمارسه المستعمر). وبهذه الطريقة انتصر الأيرلنديون في حرب الاستقلال من سنة 1916 إلى سنة 1921، وكيف انتصر الجزائريون في سنة 1962، وكيف انتصر الفيتناميون والجنوب أفريقيون أيضا. وفي المساحات السياسية والإعلامية العدائية التي يعمل فيها أولئك الذين يدعمون الحقوق الفلسطينية في الولايات المتحدة وأوروبا، يعد الوضوح المطلق بشأن هذه الأمور أمرًا ضروريًا، ليس فقط لأسباب أخلاقية وقانونية، ولكن لأسباب سياسية أيضًا

من الواضح أنه من المستحيل التنبؤ بنتيجة هذه الحرب في هذه المرحلة، إلا أنها أدت على الأقل إلى التغييرات التي أشرت إليها. هل سيؤدي ذلك إلى تحولات عميقة في النماذج الإنسانية والسياسية؟

هناك ثلاثة أسئلة رئيسية:
هل سيؤدي طرد مليون ونصف المليون إنسان من الجزء الشمالي من قطاع غزة، بما في ذلك مدينة غزة، والذي يمثّل بالفعل نكبة جديدة من نوع ما، إلى التطهير العرقي الدائم لهذه المنطقة الشمالية؟
هل سيقدم المجتمع الدولي، أو الولايات المتحدة (التي تتصرف في كثير من الأحيان كما لو أنها وحدها تشكل المجتمع الدولي)، حلاً سياسيًا جديدًا للصراع على أساس المساواة والعدالة؟
أو، كما هو مرجح، هل ستقوم ببساطة بإعادة تأسيس شكل ما من أشكال الوضع الراهن القمعي السابق المتمثل في الاحتلال وتطويق الفلسطينيين في مساحات أصغر وأصغر، في حين تضخ المزيد من الفورمالديهايد في نعش “حل الدولتين” التي ماتت منذ فترة طويلة؟ من المستحيل الإجابة على هذه الأسئلة اليوم، على الرغم من أن تخميني هو أن الإجابات على التوالي قد تكون نعم للأول، ولا للثاني، ونعم للثالث.
مع ذلك، لا يملك المرء إلا أن يأمل استبعاد نتيجة واحدة، وهي التطهير العرقي لجزء أو كل سكان قطاع غزة والضفة الغربية من خلال طردهم من فلسطين التاريخية إلى سيناء المصرية والأردن. وخلال زياراته الأولى إلى المنطقة بعد اندلاع الحرب، مارس وزير الخارجية أنتوني بلينكن، الذي كان يتصرف على ما يبدو كمبعوث مهمات لإسرائيل، ضغوطًا على حكام مصر والأردن والمملكة العربية السعودية لقبول هذه النتيجة. ولكنهم رفضوا بشكل قاطع. ومن خلال القيام بذلك، كانت هذه الحكومات تتصرف على أساس المصلحة الوطنية لدولها ومصلحة الحفاظ على أنظمتها، ولكن أيضًا لمصلحة الفلسطينيين، الذين يعرفون من 75 سنة من الخبرة المريرة أن إسرائيل لن تسمح أبدًا بعودة من طردته من فلسطين.

يمكن العثور على الدليل القاطع الذي يثبت النوايا الخبيثة للبيت الأبيض في عهد بايدن في طلب الميزانية الذي قدمه مكتب الإدارة والميزانية بتاريخ 20 تشرين الأول/ أكتوبر 2023 إلى الكونغرس للحصول على مليارات الدولارات للمساعدة العسكرية لأوكرانيا وإسرائيل. ويشمل ذلك طلب تمويل تحت عنوان “مساعدة الهجرة واللاجئين” من أجل “الاحتياجات المحتملة لسكان غزة الفارين إلى البلدان المجاورة”، ومن أجل “النزوح عبر الحدود”، ومن أجل “متطلبات البرمجة خارج غزة”.

بالنظر إلى قصر نظر إدارة بايدن في الانحياز الخانع إلى المجهود الحربي الإسرائيلي الذي ينطوي على العديد من جرائم الحرب المحتملة، والتي ليس لها نتيجة سياسية واضحة أو قابلة للتحقيق، يجب أن نضيف إلى ذلك حماقتها السياسية الداخلية. لقد تجاهلت بحزم المعارضة المتزايدة لدعمها غير المحدود لحرب إسرائيل على غزة من جانب العديد من مسؤوليها، فضلاً عن العناصر الأساسية في قاعدة الحزب الديمقراطي. ويتكون هذا إلى حد كبير من الناخبين الشباب، والعناصر الليبرالية والتقدمية في المجتمعات اليهودية والمسيحية، والعرب، والمسلمين، والعناصر القيادية من مجتمعات السود والأقليات الأخرى. ومع استمرار الهجوم الإسرائيلي على غزة بدعم كامل من الإدارة، من الصعب على نحو متزايد أن نرى كيف أن أعدادا كبيرة من هذه المجموعات، ولا سيما تلك الموجودة في الولايات المتأرجحة الحاسمة، سوف تصوّت لصالح جوزيف بايدن في سنة 2024.

إلى جانب الدعم الأميركي لإسرائيل في إجبار أكثر من مليون شخص على الخروج من شمال قطاع غزة، لولا المعارضة الحازمة (حتى الآن) من جانب عدد قليل من الحكومات العربية، لكان من الممكن إضافة المشاركة المشينة للولايات المتحدة في الحرب على غزة في مرحلة جديدة من عملية التطهير العرقي التي تمارسها إسرائيل ضد الفلسطينيين منذ 75 سنة. لم نصل إلى هذه النقطة، ونأمل ألا نصل إليها أبدًا.

بينما تم منعها حتى الآن من التواطؤ في تلك الفظائع المحددة، فقد انزلقت إدارة بايدن بالفعل إلى هاوية من الفساد الأخلاقي من خلال دعم إسرائيل ماديًا في ذبح الآلاف من الفلسطينيين وجعل غزة غير صالحة للسكن، والتغاضي عن التطهير العرقي داخل غزة.

المصدر: موندويس