2024-11-24 03:11 م

ألمانيا و"ذنْبها": تكرار الجريمة باسم عدم تكرارها

"إنّ الشرطة مشغولةٌ جداً بإلقاء القبض على اليهود من المظاهرة لدرجة أن لا وقتَ لديها للاهتمام بالنازيين"، قالت المتحدثة على الميكروفون في مظاهرة برلينية داعية إلى وقف إطلاق النار في غزة يوم السبت 11 تشرين الثاني / نوفمبر 2023، بعد أن اعتقلت الشرطة ناشطة يهودية تحمل شعار "أوقفوا الإبادة". تبعتها متحدّثة ثانية تقول للمتظاهرين بجدّية ساخرةً "رجاءً، علينا أن نتوقّف عن المطالبة بوقف الإبادة، لأنّ الشرطة تقول أنه من غير المسموح المطالبة بوقف الإبادة". يحدث هذا الآن، في ألمانيا في أواخر العام 2023. هذا هو المستوى الذي وصلت إليه حرية التعبير وهذا هو السقف الذي ما ينفكّ يهبط ويتدنّى.

تعرِف ألمانيا الاتحادية أن تاريخها "الاستثنائي" في الهمجية والعنصرية الذي أتاح لفكرة كالنازية أن تتفشى وتصير عادية وترتكب الإبادات، يتطلّب منها موقفاً شرساً تجاه ما يحدث في غزة اليوم. وإن كانت النتيجة الطبيعية التي يتوقّعها الأسوياء - منطقياً - هي موقفٌ "ضدّ الإبادة"، إلّا أنّ ألمانيا تخون شِعار Nie Weider ("لن تتكرر أبداً") وتختار منطقاً ملتوياً يعتبر إسرائيل ممثّلة فِعلية ووحيدة لليهود وضحايا النازية، على الرغمَ من أصوات آلاف اليهود الذين يناقضون ذلك حول العالم ويباعِدون ما بينهم وبين دولة الاحتلال/الإبادة، على اختلاف هؤلاء أنفسهم ومواقفهم.

في الشارع، يتكشّف كلّ يوم منعٌ جديد. لا تبقى المسموحات على حالها أحياناً في المظاهرة نفسها. الشعار نفسه قد تطّلع عليه الشرطة وتقول أنه "أوكي"، ليعودوا بعد ساعة بنزعه بالقوّة واعتقال رافعيه واستخدام العنف ضدّ المتحلقين حوله. الأمر نفسه بالنسبة للكوفية التي منعتها بعض المدارس والمؤسسات ويصرّ كثر على اعتبارها رمزاً إرهابياً يجب تجريمه. يلفّ القانون وتطبيقاته غموض واستنسابية حسب المناطق والمدن التي تُقام فيها التحركات، وهو ما يتيح المجال لطغيان جوّ يسهل فيه صبغ كل متظاهر بصفة "معاداة السامية" وتحفيز جو من الكراهية تجاه العرب والمسلمين والمناضلين والمتظاهرين.

يُترجم هذا الجوّ في حوادث مختلفة مُقلِقة للغاية، فعلى سبيل المثال، وتعليقاً على منصّة "إكس" (تويتر سابقاً) ، شاركت المواطنة الألمانية-السورية رهام الكوسى صورة تقول فيها أنها جزء من نادٍ مسجّل رسمياً في ألمانيا للمشي في الطبيعة (hiking club)، معظم أعضائه من السوريين المقيمين في مختلف مناطق ألمانيا، وأنهم قصدوا الغابات في ساكسونيا السويسرية، شرق ألمانيا، للمشي في الطبيعة، وإثر عودة المجموعة إلى الفندق الذي حجزوا فيه، فوجئوا بالشرطة بانتظارهم لأنّ أحدهم بلّغ عن مجموعة غرباء في المنطقة على أنهم "مهاجرون غير شرعيين". قبلها بأيام، انتشر فيديو لمحتفلين داخل نادٍ ليلي في ألمانيا يغنّون "ألمانيا للألمان، ليخرج الغرباء".

وضعت جريدة TAZ الألمانية صورة الناشطة المناخية "غريتا تونبرغ" لابسةً كوفية في إحدى التجمعات الداعمة لفلسطين، مع مانشيت بالخط العريض “Persona non Greta?”، أي "شخصية غير مرحّب بها"، مع لعب رخيص على الكلمات. كانت تونبرغ حتى الأمس تُدرّس للأطفال في ألمانيا كإحدى بطلات كوكبنا الشجاعات باعتبارها مؤسِسة لحركة "الجمعة من أجل المناخ" التي خرج طلاب ألمانيا مشاركين في مظاهراتها بشكل واسع، إلى أن قالت بلا مراوغة "لا عدالة مناخية على أرضٍ محتلة".

اليوم "صامِدون".. غداً أنا وأنت
يوم الثاني من تشرين الثاني/ نوفمبر 2023، أعلنت وزيرة الداخلية الألمانية نانسي فيزر حظرَ شبكة "صامدون" لحقوق الأسرى الفلسطينيين وحلّها ومنعها من العمل في ألمانيا. أشار "صامدون" في بيان على موقعهم إلى أن فيزر معروفة بقيادتها سابقاً لحملات دعائية متعددة مُعادية للعرب في ألمانيا. أتى قرار فيزر بعد بيان المستشار الألماني أولاف شولتس في البوندستاغ في 12 تشرين الأول/ أكتوبر 2023[1]، الذي أعلن فيه حظر عدد من الأنشطة منها أنشطة "صامدون" ومجموعاتها الرديفة في ألمانيا، بالذريعة الموحّدة والشاملة والمطّاطة والكسولة ذاتها التي تلوكها ألسنة المسؤولين في ألمانيا، ولكن أيضاً على امتداد خارطة أوروبا وفي الولايات المتحدة وكندا وغيرها: "معاداة السامية"، بلا حجّة أو دليل، وبالاستناد إلى تعريفٍ غامضٍ للعبارة يجعلها مساوية لانتقاد إسرائيل أو الصهيونية، وفي أقوال أخرى، "التسامح مع الإرهاب أو الاحتفاء به".

يدافع شولتس عمّا يسمّيه "القانون"، لكنه يستدعي فجأة معجماً قروسطياً يرفع الأسوار ويسلّ السيوف، قائلاً: "قانون الجمعيات الخاص بنا هو سيفٌ حاد، وسوف نسلّ هذا السيف بصفتنا دولة دستورية قوية"، ومثله فعل سفير إسرائيل في برلين، فوصف سفير دولة الاحتلال - نفسها التي قتلت ما يزيد عن 12 ألف شخص منهم أكثر من 4000 طفل في غزة خلال أسابيع قليلة - "صامدون" بالـ"برابرة" لمشاركة صورة على منصة "إكس" من عملية "7 أكتوبر" مع عبارة "عاشت مقاومة الشعب الفلسطيني"، كما وصفها بـ"حصان طروادة الذي يسيء استخدام الديمقراطية الألمانية"، مطالِباً بمنعها في كلّ مكان.

مقالات ذات صلة
 هل يستقيم عقد المقارنة بين النازية والصهيونية؟
عبّر بيان شبكة "صامدون للدفاع عن الأسرى الفلسطينيين" عن غضبٍ عارم من بيان المستشار الألماني أولاف شولتس وقرار وزارة الداخلية، ومما جاء في بيان الشبكة: "الدولة الألمانية وكل القوى الاستعمارية الغربية، التابعة للنظام الأمريكي بقيادة رئيسه جو بايدن، هم شركاء ليس فقط في الحرب الإعلامية ضد الشعب الفلسطيني ولكن في جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية التي يقودها الاحتلال الصهيوني". وبعد أن شرح البيان أحوال القمع في شوارع برلين من اعتقال وضرب الشرطة الألمانية للناشطين والمتظاهرين الفلسطينيين والعرب والألمان والمناضلين الأمميين، بما فيهم اليهود المناهضين للصهيونية، بسبب ارتدائهم الكوفية أو إطلاق هتافات "من النهر إلى البحر"، ذكّر البيان بأنّ أجواء المنع والمضايقات كانت أصلاً في ازدياد مطّرد في السنوات الأخيرة، ما قبل 7 تشرين الأول/ أكتوبر 2023 بكثير، مضيفاً: "عملت السلطات الألمانية على حظر التظاهرات التي تدعم فلسطين. علاوة على ذلك تخترق الدولة الألمانية قوانينها ودستورها وتبتزّ اللاجئين الفلسطينيين بأوراقهم، هؤلاء الّذين تم تهجيرهم من ديارهم فلسطين وممنوعون من العودة لوطنهم". وخلصت الشبكة إلى تأكيد توجّهها نحو مواجهة قانونية للحظر بجميع الوسائل القانونية المتاحة لديها.

في الإعلام الألماني، تمّ وضع "صامدون" و"حماس" في الجمل نفسها مراراً وتكراراً، على اعتبار أن الاثنين محظوران في ألمانيا.. هو ربطُ غريب جداً من الواضح أنّ هدفه إثارة الرعب في نفوس المستهلكين لهذه المواد الترويجية، الذين يعرفون اسم حركة "حماس" ويعتبرونها "إرهابية" ولكنّ جلّهم لم يسمعوا بـ"صامدون" إلّا مع حَظْرِها. ما يبقى في الأذهان هو كلمة "إرهاب" في نهاية المطاف.

يشكّل حظر "صامدون" مؤشراً خطيراً للغاية، يتجاوز عرقلة المظاهرات وعدم إعطاء التصريحات لبعضها وغيرها من المضايقات التي تفضح تهاوي حرية التعبير تماماً في ألمانيا وعدد من الدول الأوروبية. فالحظر لا يفضح فقط هذا الكذب بما يمكن الإشارة إليه والتحايل عليه بتحركات أخرى، ولكنه يكرّس مبدأ إلغاء وتجريم العمل المؤسسي السلمي والمناضِل بما يتعلق بفلسطين والتضامن معها، ويهدف إلى تدمير كلّ المجهود التراكمي الذي سعت هذه الجمعيات إلى دفعه قدماً والبناء عليه بمختلف فروعه حول العالم.

"إرهابيون" حتى يثبتوا العكس
من جهة أخرى، قال الرئيس الألماني فرانك فالتر شتاينماير إن الألمان من أصل عربي وفلسطيني يجب أن يتخذوا خطوات للنأي بأنفسهم عن معاداة السامية والتبرؤ من "حماس"[2]، معبّراً عن قلقه من التأثيرات المدمّرة لما سمّاه "النزاع بين إسرائيل وحماس" على العلاقات الاجتماعية في ألمانيا. يضع شتاينماير الملامة والمسؤولية بكاملها على العرب والفلسطينيين الذين يباد أهلهم في هذه الأثناء لضبط هذه العلاقات الاجتماعية، ولا يبدو مستعداً للتلميح بأيّة مسؤولية للحكومة الألمانية بيمينها ويسارها أو لأي من المكونات الأخرى في البلاد في إذكاء نار التوتر.

"عبّروا عن أنفسكم واتخذوا موقفا واضحاً ضدّ الإرهاب"، يأمرنا شتاينماير، في محاسَبة على النوايا وافتراض الكلّ متهمين، بل مدانين، حتى يُثبتوا العكس (الذي لا يثبت إلّا بإدانة المقاومة). حتى مَن لم يعلّق سلباً أو إيجاباً على الموضوع، اتُهم بمعاداة السامية. من الواضح أن ألمانيا التي فتحت بابها للاجئين السوريين وغيرهم في فترات معينة لحاجتها إلى يد عاملة شابة بالدرجة الأولى، تستبطن تمييزاً وإدانة دائمّين للمسلمين والعرب والفلسطينيين، تشبه – لسخرية القدر- التمييز ضد مكوّنها اليهودي إبان صعود النازية، ما علق عليه هيو لوفات، محلل شؤون الشرق الأوسط في المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية، بالقول "لا يجب محاسبة اليهود على تصرفات إسرائيل، فلماذا إذاً تطلب ألمانيا من مواطنيها المسلمين محاسبة حماس؟"

"اليهودية الرسمية" دولة تبتلع الجميع
في مقالها في صحيفة "الغارديان"[3]، تعتبر الكاتبة اليهودية الألمانية-الأميركية ديبورا فيلدمان، أنّ "عقدة الذنب" الألمانية حوّلت الموضوع اليهودي في ألمانيا إلى "فيتيش" صنمي، وشبّهته بالوسواس القهري العام. بالفعل، تمنع حالة الهلع العامة الحقيقية من انتقاد إسرائيل أي نقاش فعلي وتؤدي إلى تجهيل متعمد في الميديا. ببساطة، يُغلق الموضوع قبل فتحه، وهذا في الأيام العادية ما قبل الحرب، فما بالنا في هذه المرحلة...

على سبيل المثال، تقول فيلدمان التي عاشت العقد الأخير من الزمن في برلين أنها لم تستطع يوماً مناقشة إسرائيل وفلسطين مع الألمان، وأنّها وجدت نفسها قادرة على التحدث مع فلسطينيين وإسرائيليين فقط حول الموضوع، فيما قطع عليها الألمان الذين قابلتهم أي مجال للنقاش بحجة أن الموضوع "معقَّد للغاية". حتّى أن مؤسسات فنية ورسمية تمنع أنشطة أو مسرحيات ليهود عرضوا أعمالهم في نيويورك أو تل أبيب، بينما هي لا تُعطى مساحة في ألمانيا.

تعتبر فيلدمان أن معظم اليهود العلمانيين في ألمانيا اعتادوا التعرّض إلى الاعتداء من قبل الكيان الذي يمثّل "اليهودية الرسميّة" في العالم، وبدعم قويّ من الحكومة الألمانية. وفيلدمان من الأشخاص الذين لا يتحرّجون من تسمية حركة "حماس" بالمنظّمة "الإرهابية" علناً، تجد أن لا يهوديتّها ولا إعلانها معاداة "حماس" صراحةً يقيانها من القمع المفروض على الأصوات الخارجة عن موقف ألمانيا الرسمية المطابق لموقف دولة الاحتلال الإسرائيلي. تحكي فيلدمان في المقال نفسه عن صدمتها عندما سألت أحد السياسيين الألمان من الائتلاف الحاكم حول ما تفعله الحكومة للرهائن الألمان، ليقول لها أن "هؤلاء ليسوا ألماناً صافين"، مستعملاً كلمة “reinen”/”pure” بالألمانية، الكلمة نفسها التي كانت تُستخدم في ألمانيا النازية لتمييز العرق الآري الصافي.

في مداخلة لها على قناة ZDF، تقول فيلدمان "في مرحلةٍ ما سيتوجّب عليكم الاختيار بين إسرائيل واليهود"، مضيفةً أن هذين المصطلحين ليسا مترادِفَين، بل قد يكونان متناقضَين حتّى. فكرةٌ تبدو مستعصية على القبول والفهم في ألمانيا سياسياً وإعلامياً وحتّى مجتمعياً، بل يعتبرها البعض مشينة...

الأسطوانة نفسها..
303 مليون يورو هي قيمة صفقة تصدير السلاح إلى إسرائيل التي أبرمتها الحكومة الألمانية هذا الشهر، أي ما قيمته عشرة أضعاف ما كانت عليه في عام 2022. يحدث هذا في خضمّ الإبادة المنقولة بشكل مباشر بالصوت والصورة على مرأى ومسمع العالم أجمع. الصفقة متسقة تماماً مع موقف ألمانيا الرسمي الرافض بتاتاً لوقف إطلاق النار. لا وقف إطلاق نار وتصدير للسلاح، إذاً دخولٌ ألماني كامل في الحرب بما يتجاوز التواطؤ.

في الخلفية، حزب البديل من أجل ألمانيا اليميني AfD، ذو التصريحات العلنية العنصرية والذي يطلق عليه بعض اليساريين اسم "النازيين الجدد"، يبدو الأسعد بما يجري، ومعه التيارات اليمينية المتطرفة التي تكره اليهود والمسلمين الغرباء معاً، والذين باتوا يتسلّحون باتهام مناصري فلسطين بمعاداة السامية التي هم أنفسهم من روّادها. بالنسبة لهم، يمكنّهم الوضع الحالي من جمع مزيد من الأصوات في الانتخابات القادمة عبر استنفار الغرائز، حتى لو كان ذلك على حساب الاستقرار المجتمعي والمهاجرين واللاجئين.

كلّ يوم، يخسر أشخاص وظائفهم في ألمانيا أو يتم ترهيبهم لإسكات أصواتهم أو إقصاؤهم من تعاونات ثقافية وفنية بسبب مشاركتهم لجمل أو صور تحمل تضامناً مع غزّة وفلسطين على صفحاتهم الشخصية على وسائل التواصل الاجتماعي. هذا ما حصل مع الفنان الهاييتي أناييس دوبلان، الذي فوجئ بإلغاء متحف فولكفانغ في مدينة إيسن افتتاح معرضه الوشيك بعد سنة كاملة من التحضيرات وبعد سفر المشاركين ووصولهم إلى ألمانيا، بسبب مشاركاته على صفحته وتعليقاته على صفحات الآخرين. إنّ قطعيّة ونهائية هذه القرارات تجعل ردّ الفعل الأولي عليها دائماً ممهوراً بالصدمة وعدم الفهم، ثمّ يلحقهما غضبٌ وخوف. تبدو سهولة هذه النقلة الشرسة إلى الخطاب التمييزي والقمع المباشر على المستويات الرسمية والمؤسساتية مقدمة للتطبيع مع هذه الممارسات بأسرع ما يمكن تمهيداً لمرحلة أعمق خطراً. هذه صورة ألمانيا اليوم: جريمة باسم "الذنب".

المصدر: السفير العربي