2024-11-22 08:10 م

الإعلام العربي وحرب غزة.. مقاربات توثق الخذلان

“هناك معركة إعلامية بسبب تصدير رواية مضللة من الإعلام الإسرائيلي، ويجب التصدي لتلك الرواية في إعلامنا ونقاتل بالقلم والصورة حتى نوصل روايتنا إلى العالم”، لخص القيادي بحركة حماس، فوزي برهوم، بتلك التصريحات التي قالها على هامش ندوة “القضية الفلسطينية من وعد بلفور.. إلى طوفان الأقصى”، التي عقدت بمدينة إسطنبول، السبت 4 نوفمبر/تشرين الثاني 2023، واقع الإعلام العربي ومأزق التعاطي مع الحرب البربرية التي تشنها قوات الاحتلال في غزة منذ أكثر من 40 يومًا.

يلعب الإعلام أوقات الأزمات والحروب دورًا لا يقل أهمية – إن لن يكن أكبر في بعض الأوقات – عن دور الجيوش والقوات المقاتلة في الميدان، فهو أحد المحركات الرئيسية للمسارات السياسية والاقتصادية والشعبية في أثناء المعارك الفاصلة، لذا يعول عليه في أداء الدور المنوط به بالموازاة مع الحراك العسكري.

وفي الوقت الذي كان يتوقع فيه – أخلاقيًا وسياسيًا – أن يكون الإعلام العربي في ظهر القضية الفلسطينية، وعلى قلب رجل واحد ضد حرب الإبادة التي يشنها الكيان المحتل بحق أبناء الشعب الفلسطيني، وأن يُنحي جانبًا أي أبعاد سياسية أو أيديولوجية، إذ به يتأرجح يمينًا ويسارًا، متكئًا على مقاربات متباينة عكست فجوة كبيرة في التعاطي الإعلامي العربي مع تلك الأزمة، وهي الفجوة ذاتها التي تعاني منها المواقف السياسية للدول العربية تجاه عملية “طوفان الأقصى”، وما يحدث في غزة منذ 7 أكتوبر/تشرين الأول الماضي.

هذا في الوقت في الذي أبدى فيه الإعلام الغربي – في معظمه – دعمه الكامل للكيان الإسرائيلي وتبني سرديته المضللة، ومهاجمة المقاومة الفلسطينية وشيطنتها، في تناقض فج وضع الإعلام العربي والقائمين عليه في مأزق شعبي وجماهيري كبير، وأوقعه في حرج سياسي، سيكون له ما بعده.. فما مقاربات الإعلام العربي في تغطيته لحرب غزة التي يعتبرها البعض الاختبار الأكثر دقة في العقود الأخيرة للإنسانية والضمير العالمي، ناهيك بالبعد العروبي والإسلامي؟

3 مسارات رئيسية
ينطلق الإعلام العربي في تعاطيه مع الحرب وتفاصيلها من خلال 3 مسارات رئيسية:

الأول: إعلام المقاومة.. وهو الذي يتبنى سردية المقاومة من حيث تبرير وتمجيد عملية الطوفان وتأثيرها في الإجهاز على الأسطورة الإسرائيلية المزيفة، وإلقاء الضوء على البطولات التي تقوم بها الفصائل في استنزاف جيش الاحتلال وتكبيده الخسائر الفادحة، ومن جهة أخرى مناهضة السردية الإسرائيلية التي تعتمد على رواية المظلومية من زاوية وشيطنة المقاومة من زاوية ثانية.

الثاني: الإعلام المضاد.. وهو الإعلام التابع للدول المطبعة التي تتمتع بعلاقات جيدة مع الاحتلال، وهذا الإعلام في أغلبه يتبنى السردية الإسرائيلية بصورة كبيرة، وإن لم يكن ذلك بصورة مباشرة، عبر تجاهل ما تقوم به المقاومة من انتصارات ميدانية، والتعامل مع الحرب كمعركة سجال بين طرفين، مدعيًا التزام الحياد، وفق ما تكشفه السياسة التحريرية الواضحة.

الثالث: الإعلام الرمادي.. وهو الذي يقع بين الإعلامين المقاوم والتطبيعي، وتحت هذا النوع تندرج معظم التغطيات الإعلامية، وهو الإعلام الذي يتأرجح ما بين الدعم والمناهضة، تبعًا لسير الأحداث وتغير مواقف الدول المالكة لتلك النوافذ الإعلامية من المشهد، فهو إعلام في مجمله متغير ويفتقد للتأثير.

مقاربات الإعلام العربي
يستند الإعلام العربي في تغطيته للأحداث في غزة إلى محاور رئيسية ثلاثة تحكم طبيعة التناول ومضمونه ومساراته.

علاقة الدول المالكة لتلك الوسائل الإعلامية بالاحتلال.. فالإعلام التابع للدول التي لديها اتفاقيات تطبيع مع الكيان المحتل، يختلف في تغطيته عن الإعلام التابع لدول غير مطبعة، الأمر كذلك مع الدول التي في المسافات الرمادية ما بين التطبيع الرسمي وغير الرسمي التي تتجنب التصعيد مع دولة الاحتلال وتحاول خطب ودها دون توتير للأجواء.

موقف الدول من القضية الفلسطينية.. فالبلدان التي تحتل لديها القضية الفلسطينية أولوية في قائمة توجهاتها واهتماماتها تكون التغطية لدى إعلامها مختلفة إلى حد كبير عن تلك التي تتراجع فيها مكانة القضية، وهو ما يمكن أن تعكسه الخريطة البرامجية للإعلام هنا وهناك، ناهيك بالسياسة التحريرية المتبناة.

موقف الدول من المقاومة تحديدًا، فبعض البلدان تتخذ موقفًا إيجابيًا وداعمًا للمقاومة وبالتالي ينعكس ذلك في إعلامها، مقارنة بالدول الأخرى التي تشيطن المقاومة وتقذفها براجمات التشكيك والتسطيح والتهميش، بدعوى علاقاتها مع بعض القوى كإيران مثلًا، وتركيا وقطر إلى حد ما، حيث تعتبر تلك القوى الفصائل الفلسطينية المقاومة مؤدلجة ولا تعبر عن الهوية الفلسطينية، بل تنفذ أجندات إقليمية، وهي السردية الإسرائيلية ذاتها.

كما أن بعض الدول ترى في المقاومة شبحًا يهدد استقرار أنظمتها وحكوماتها، إيهامًا أن تلك الفصائل وخاصة حماس هي امتداد لجماعة الإخوان المسلمين والضلع الأبرز المتبقى من ثورات الربيع العربي، وبالتالي فإن انتصارها يعني احتمالية نقل العدوى إلى بقية الدول، وعليه كانت محاربتها مبكرًا والحيلولة دون نصرها مسألة أمن قومي بالنسبة لكثير من الحكومات الإقليمية.

مرتكزات التغطية
تباينت تغطية وسائل الإعلام العربية للحرب في غزة منذ 7 أكتوبر/تشرين الأول الماضي وحتى اليوم، استنادًا إلى المقاربات سالفة الذكر، ويمكن الوقوف على حجم هذا التباين ونوعيته من خلال تقييم المرتكزات التي استند إليها المضمون الإعلامي العربي طيلة الأيام الأربعين الماضية.

أولًا: السياسة الإعلامية.. يمكن كشف حجم الفارق في التغطيات واستشراف التوجه العام لوسائل الإعلام المختلفة من خلال السياسة الإعلامية المتبعة، التي يسهل اكتشافها عبر المصطلحات والمرادفات المستخدمة، كتوصيف الجيش الإسرائيلي على سبيل المثال، ما بين جيش الاحتلال أو جيش الدفاع، كذلك تسمية الفصائل الفلسطينية، ما بين مقاومة وطرف صراع، إلخ.

ثانيًا: السردية الإسرائيلية في مقابل سردية المقاومة.. بعض الوسائل تلتزم بتبني سردية المقاومة من حيث التركيز على بطولاتها وتأثيرها على الداخل الإسرائيلي، وما حققته من طفرة في التكتيك العسكري والسياسي، فضلًا عن نجاحها في إلحاق الهزائم والخسائر في صفوف الكيان المحتل.

وعلى الجانب الآخر هناك إعلام يغض الطرف عن كل ذلك، ويبروز بشكل لافت التقدم العسكري الميداني لجيش الاحتلال في عمليته البرية، ويحمل حماس والمقاومة مسؤولية ما وصلت إليه الأوضاع في غزة، بل ويتجاهل ما حققته المقاومة من انتصارات ميدانية شهد بها الجميع، وعلى النقيض من ذلك يهمشها ويسطحها ويقلل من شأنها.

الأمر يمكن ملاحظته بدقة من خلال ضيوف القنوات والوسائل الإعلامية، والخبراء السياسيين والعسكريين المستعان بهم، فشتان شتان بين محلل قناة “العربية” اللبناني رياض قهوجي الذي وصف مقاومي القسام بـ”الدواعش” وزعم بأن حماس تتخذ من مستشفى الشفاء مقرًا لها، ونظيره الأردني على قناة “الجزيرة” فايز الدويري الذي يرى فيما قدمته المقاومة انتصارًا سيغير خريطة المنطقة ويعيد ترتيب معادلة التوازنات في المنطقة.

ثالثًا: دعم الجهود الشعبية في مقابل تفتيتها وتسطيحها.. عدد من وسائل الإعلام تلقي الضوء على الجهود المبذولة لدعم المقاومة عبر المسارات المختلفة، مثل حملات المقاطعة للمنتجات الإسرائيلية والدول الداعمة لها، والتعاطف مع أهل غزة من خلال وقف الحفلات والأنشطة الترفيهية المختلفة.

في مقابل أخرى تقود هجومًا على أنصار هذا التوجه، كما فعل الإعلامي بقناة “إم بي سي” السعودية، عمرو أديب، ردًا على دعوات المقاطعة بأنها ذات تأثير سلبي على الاقتصادات العربية، كذلك الإعلامي في قناة “الحرة” الأمريكية، إبراهيم عيسى، الذي وصف المقاطعة بـ”إننا نضرب نار على نفسنا”، الأمر تكرر مع التغطية الإعلامية لدعم رئيس هيئة الترفيه السعودي تركي آل الشيخ لسلسلة مطاعم “ماكدونالدز” في مواجهة حملة المقاطعة العربية والإسلامية لها بسبب دعمها لجنود الاحتلال في حربهم ضد غزة.

كذلك حملة الشيطنة والهجوم التي تبنتها قنوات إعلامية ولجان إلكترونية ضد الفنان المصري محمد سلام بسبب اعتذاره عن المشاركة في موسم الرياض تعاطفًا مع أهل غزة، في مقابل حملات دعم ممنهجة  للفنان المصري فؤاد بيومي الذي هاجم زميله بسبب موقفه الإنساني، وقوبل بسببها بهجوم قوي من الشارع المصري.

رابعًا: امتصاص غضب الشارع بتسليط الضوء على المساعدات المقدمة.. لم تكن حالة الخذلان العربي الرسمي تجاه ما يحدث في غزة، ببعيدة عن طاولة القائمين على أمور الإعلام العربي، في ظل الاحتقان الذي يخيم على المشهد جراء هذا الموقف المتهاون، ومن ثم حاولت بعض الوسائل الإعلامية الالتفاف على هذا الخذلان بتسليط الضوء على المساعدات التي تقدمها بعض الدول – لا سيما الخليجية – لفلسطين، مستعرضة أمجادها في تقديم المنح والمعونات للشعب الفلسطيني وسلطته الحاكمة، وأن هذا – من وجهة نظرها – يكفي لتبرئة ذمتها تجاه قضية العرب الأولى، عازفة في الوقت ذاته على وتر تحميل المقاومة مسؤولية ما وصلت إليه الأمور.

العربية وسكاي نيوز.. النموذج الأكثر جدلًا
رغم حالة التنوع في التباين التي عليها الإعلام العربي إزاء تعاطيه مع الحرب في غزة، فإن قناتي “العربية” السعودية، و”سكاي نيوز” الإماراتية، كانتا الأكثر جدلًا على الساحة، للفجوة الكبيرة بينهما وبين معظم منظومة الإعلام العربي التي إن لم تلتزم المقاربة الكاملة لدعم القضية والسردية الفلسطينية، لكنها التزمت خط المنتصف بنسب متقاربة دون التدحرج نحو أقصى الطرف المقابل.

لم تكن تغطية “سكاي نيوز” مفاجئة للغالبية، خاصة أنها تتماشى مع الموقف الرسمي الإماراتي المعروف للجميع، حيث تقود أبو ظبي قطار التطبيع في السنوات الأخيرة، وتحيا علاقاتها مع الكيان المحتل أوج قمتها وحميميتها.

لكن تعاطي “العربية” السعودية كان الأكثر صدمة، حتى إن كان على القناة العديد من الاستفهام السابقة، استنادًا إلى المواقف الرسمية للمملكة تجاه القضية الفلسطينية سابقًا، وما لها من ثقل وما لعبته من دور محوري لنصرة القضية، وهي المواقف التي لا تعبر عنها التغطية الحاليّة بأي شكل من الأشكال.

ومنذ انطلاق طوفان الأقصى وتتعرض “العربية” لانتقادات لاذعة بسبب سياستها التحريرية، حيث تصف جيش الاحتلال بأنه الجيش الإسرائيلي، والشهداء الفلسطينيين بالقتلى، وتنعت القسام وحماس بطرف صراع، وغيرها من السرديات التي تُمرر في الإعلام العبري، الأمر الذي أثار غضب السفير الفلسطيني في بريطانيا، حسام زملط، ما دفعه لتوبيخ مذيعة القناة ميسون عزام خلال استضافته للحديث عن المظاهرات الداعمة لفلسطين في لندن.

حيث قال السفير: “أسمحيلي أخت ميسون التعليق على تقريركم (طرفي صراع)، وأن (المظاهرات كانت من الجانبين)، ما شهدناه غير مسبوق، خصوصًا من الشعب البريطاني من نصرة للفلسطينيين ورفض للظلم والعدوان”، وأضاف “مهم جدًا عدم تبني مصطلحات مثل (طرفي الصراع)، لا يوجد طرفان، يوجد طرف واحد هو المحتل المعتدي الغازي المستعمر المحاصر، والشعب الذي يقبع تحت الاحتلال، فالمصطلح الأساسي هو عدوان حقيقي يرتقي إلى جرائم إبادة”.

انتقاد “العربية” انتقل من الساسة والإعلاميين العرب إلى السعوديين أنفسهم، كما جاء على لسان الإعلامي السعودي داود الشريان، وهو نائب مدير القناة سابقًا، حيث كتب في تغريدة له على منصة “X”: “أعتقد أن قناة العربية أصغر من التعبير عن السعودية، ولا تعرف حجم الرياض ومكانتها العربية والإسلامية، ودورها المحوري في إدارة أزمات المنطقة”، وأضاف “قناة العربية مشاهداتها متدنية، وهي تمارس دعاية سياسية بليدة، تعد سابقة في الغباء المهني والخور”.

وبينما حاول البعض اتهام الشريان بشخصنة الانتقاد، وأنه ردًا على استبعاده من المشهد الإعلامي، إلا أن تغريدته لاقت تفاعلًا مع العديد من السعوديين الذين أيدوا موقفه واتهموا القناة بالابتعاد عن مرتكزات المملكة ومواقفها المعروفة سابقًا بشأن القضية الفلسطينية.

لم تكن تلك هي المرة الأولى التي تتعرض لها القناة السعودية لتلك الانتقادات، حتى من أبناء المملكة، ففي تغريدات سابقة لرجال دين وعلماء سعوديين هاجموا سياسة القناة وطالبوها بإعادة النظر فيها، كما جاء على لسان الشيخ محمد العريفي الذي وصفها بأنها “قناة صهيونية” على حد قوله، كذلك الداعية سعيد الغامدي الذي وصف في تعليق سابق له صمت القناة عما يتعرض له الفلسطينيون من مجازر على أيدي الإسرائيليين بالخيانة.

ونتاجًا لتلك السياسة التي تنتهجها العربية وأقرانها، منعت حكومة حماس في غزة القناة السعودية من العمل في القطاع، أكثر من مرة، كان آخرها في 2013 بقرار من النائب العام، حيث اتهمتها ببث أخبار غير صحيحة، ومنعتها قبل ذلك في عام 2006، وبررت الحركة في بيان لها نشرته على موقعها الإلكتروني هذا المنع بقولها: “ما تقوم به قناة العربية وغيرها ينسجم تمامًا مع سياسات الاحتلال الصهيوني ومخططاته المستمرة للعدوان على شعبنا، وشطب حقوقه التاريخية، ما يجعلها تقف مع الاحتلال صفًا واحدًا ضد شعبنا مع ما يترتب على ذلك من تداعيات في كل الاتجاهات”.

وفي الأخير يبدو أن الخذلان العربي لأهل غزة والمقاومة الفلسطينية والقضية برمتها لم يقف عند حد الخذلان السياسي والإنساني والعسكري فحسب، ليضاف إلى تلك القائمة خذلان إعلامي جديد، من أجل أن يكتمل مخطط التآمر على القضية في مشهد سوداوي مخزي سيكون له ما بعده من ارتدادات على الجميع.

المصدر: نون بوست