2024-11-24 01:54 م

الصراع المثير للجنون إزاء الكارثة في فلسطين/إسرائيل

الرواية السائدة في الغرب والتي تعتبر اسرائيل البطل والضحية في آن، تمكِّن هذا الغرب من ضرب عصفورين وربما ثلاثة عصافير، بحجر واحد: عبر دعمهم المتطرف للسياسة الإسرائيلية فإن الأوروبيين يفوِّضون لهذه الدولة دوراً - محفوفاً بمخاطر كبيرة جداً - كحارس لمصالحهم في الشرق الأدنى، ويكفِّرون (أو هم يعتقدون ذلك) عن ذنوبهم في المحرقة لقاء مقابل زهيد. وخلف هذا الحجاب من "الفضيلة" يمكنهم أن يُطلِقوا العنان لمكبوتاتهم الكولونيالية من خلال نظرتهم للفلسطينيين ومعاملتهم لهم.
منى شوليه*

غضب واحباط شديدين إزاء تراكم المعاناة التي لا تُحتمل وتتالى صورها على شاشاتنا. إحساس بالظلم يعذبنا نفسياً، وهلع أمام تدفق بروباغندا الحرب، وقلق قاتل إزاء الكارثة العظيمة وانعكاساتها المحتملة : خلال الأسبوعين الفائتين الذين قضيتهما وأنا متسمرة اتابع الأخبار القادمة من إسرائيل/فلسطين شعرت في عدة مرات - مثل الكثيرين على ما أعتقد - أنني أفقد عقلي.

هناك أولاً التصادم المستمر بين روايتين تأويليتين متناقضتين، يمكن ان نسميهما الرواية "البطولية" والرواية "الاستعمارية".

ما زالت أوروبا والولايات المتحدة تنظران إلى إسرائيل من منظور المحرقة اليهودية لا غير، أي باعتبارها ملاذاً لضحايا معاداة السامية الأوروبية، إلى درجة أن هناك ما يشبه هالة براءة ثابتة وآلية وغير واقعية تحيط بكل أعمال الجهاز الحكومي لإسرائيل وجيشها. ومهما فعلت هذه الدولة فهي دائماً البطل والضحية، تجسّد الفضيلة والنقاء، وكل انتقاد موجه لها لا يمكن أن يُفهم إلا باعتباره تعبيراً عن معاداة السامية.

في المقابل، فإن العالم العربي - الذي لا يتحمل أي مسؤولية في الإبادة الجماعية ليهود أوروبا- والجنوب العالمي بصفة عامة يريان إسرائيل كما هي عليه أيضاً. أي، بأوصاف أقل شعرية: دولة مدججة بالسلاح ومدعومة بشكل غير مشروط من قبل القوة العالمية الأولى، بنيت على الاستعمار وعلى القتل الجماعي أو التهجير لجزء كبير من الفلسطينيين في 1948. دولة تحتل بشكل غير قانوني الضفة الغربية[1] متجاهلة القرارات الأممية ومطبِّقة لسياسة ابرتهايد (تعريفاً هو "التطور المتفاوت") عبر تكثيف عمليات انتزاع ومصادرة أراض ومنازل جديدة. ومهما كان الهجوم التي شنته حماس مريعاً فهو لم يغيّر شيئاً في ميزان القوة المختل بشكل جذري بين القوة المحتلة والمحتَل.

ذاكرة الاستعمار - وليس التضامن الديني - هي العنصر المحدِّد في دعم الدول العربية لفلسطين (هذه هي الحال في الجزائر بالأخص). كما يلخص الباحث اللبناني جلبير الأشقر الوضع: "خارج العالم الغربي، لا يُنظر للإسرائيليين - ولست أتحدث عن اليهود بشكل عام، بل عن الإسرائيليين بالتحديد - كأبطال أو ضحايا، بل كمستعمِرين يقودون سياسة استعمار استيطاني. يجب إذاً أن نخرج قليلاً من هذه الرؤية الغربية وأن نحاول رؤية الأمور كما يمكن أن يراها الآخرون، وهم يمثلون أغلبية سكان الكوكب.

الرواية التأويلية التي يتبناها الجنوب يتشاركها في الغرب العديد من الأشخاص الذين خبروا بأنفسهم العنصرية و/أو المثْقَلين بذاكرة عوائلهم عن الاستعمار، وعلى نطاق أوسع مناضلون سياسيون من اليسار، ومن بينهم كثير من اليهود[2]. كل هؤلاء الناس واعون بالظلم الذي يعيشه الفلسطينيون، لكنهم يعون أيضاً مدى كارثية الوضع الذي أوصلت اليه السياسة المطبقة إلى حد الآن، حتى بالنسبة على الإسرائيليين أنفسهم.

تشجيع الإسرائيليين على التشبث بالرواية التأويلية البطولية يعني في واقع الأمر دفعهم إلى المضي أبعد فأبعد في ضلالهم، مثل مسافر يُمنح خارطة مبتورة - عن عمد - للبلد الذي يتوجب عليه عبوره. هذا ليس "دعماً" بل هدية مسمومة. في 2001 وتحت عنوان " لا يربطون بين الأمور" أوردت الصحافية الإسرائيلية عميرة هاس حادثة معبرة جداً: على حاجز تفتيش مقام في الضفة الغربية، كان أحد أصدقاء الصحافية الفلسطينيين في سيارته رفقة ابنه عندما صاح به جندي إسرائيلي وهو يلوح بسلاحه "هل تريدون السلام؟ هل تريدون السلام؟”. رد الرجل متلعثما بسبب المفاجأة "نعم، بالطبع" وقبل ان يجد الوقت لشرح ما الذي يعنيه السلام من وجهة نظره، أجابه الجندي "لماذا إذا ينظر الي ابنك بمثل هذه الكراهية؟" بالفعل، لا يمكن ان تفهم نظرة الكره في عين ولد صغير، ولا أن تفهم بشكل صحيح وضعك شخصياً عندما ترى نفسك البراءة المجسدة، والحال إنك جندي في جيش احتلال يرهب ويذل شعباً بأكمله.

المكبوت الكولونيالي ينفلت من عقاله
لكن بالنسبة للغرب تمثل هذه الرواية التأويلية "البطولية" نعمة حقيقية. فهي تمكِّن من ضرب عصفورين، وربما ثلاثة عصافير، بحجر واحد: عبر دعمهم المتطرف للسياسة الإسرائيلية فإن الأوروبيين يفوضون لهذه الدولة دوراً - محفوفاً بمخاطر كبيرة جداً- كحارس لمصالحهم في الشرق الأدنى، ويكفِّرون (أو هم يعتقدون ذلك) عن ذنوبهم في المحرقة لقاء مقابل زهيد. وخلف هذا الحجاب من "الفضيلة" يمكنهم أن يطلقوا العنان لمكبوتاتهم الكولونيالية من خلال نظرتهم للفلسطينيين ومعاملتهم لهم.

الرؤية الرومنسية لإسرائيل والممتزجة بعنصرية هائلة ضد العرب تقود حلفائها الغربيين إلى احتقار الفلسطينيين أو شيطنتهم، وإلى تبرير - بل وتأييد - سحقهم باعتباره دفاعاً مشروعاً عن النفس من قبل القوة المحتلة. عندما نستمع إليهم يتولد لدينا انطباع بأن فلسطين هي التي تحتل إسرائيل وليس العكس. وبينما كان عدد ضحايا غزة قد تجاوز ثلاثة أضعاف (عند كتابة هذا المقال) وفي الوقت الذي كان يخضع فيه مجتمع حبيس لحصار رهيب وطوفان من القنابل، كانت رئيسة المجلس الوطني الفرنسي، يائيل براون بيفيه، تواصل الحديث عن "حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها"، مؤكدة انه "هناك معتدي ومعتدى عليهم" (22 تشرين الأول / أكتوبر).

هذا التحريف للحقائق يمكن ان يهوي بك إلى الجنون: "إسرائيل تريد ان تقنعكم بأنها هي الضحية. التعامل مع إسرائيل هو مثل الارتباط بمنحرف نرجسي: سيدمرك ثم يقنعك بأنها غلطتك!" يطلق الإعلامي المصري الساخر باسم يوسف - المتزوج من غزَاوية - خلال استضافته يوم 17 تشرين الأول/أكتوبر من قبل مقدِّم التلفزيون البريطاني المحافظ بيرس مورغان.

هكذا يجد الفلسطينيون أنفسهم عالقين فيما يشبه شرْكاً نصبه الضمير الغربي. "نحن ضحايا الضحايا، واللاجئين الذين هجرهم لاجئون"، كما لاحظ المثقف الأمريكي-الفلسطيني ادوارد سعيد[3] في 1999 في عبارة شهيرة تنضح مرارة. وفي محاولة يائسة للتحرر من هذا الشرك ونزع الغشاوة عن أعين الغرب، ينساق أحياناً أنصار رؤية اسرائيل كأداة استعمارية وراء اغراء وضع الفظاعات المرتكبة من قبل الجيش الإسرائيلي أو المستوطنين أمام أعين العالم.

خلال قصف غزة في حرب 2008/2009 وضعت الصحيفة اليومية الشيوعية "لومانيتيه"L’Humanité - المعروفة بمساندتها التاريخية للفلسطينيين - على صفحتها الأولى (العدد الصادر بتاريخ 7 كانون الأول/يناير 2009) صورة لرأس فتاة صغيرة مقتولة وسط الركام، يلطخ الدم والغبار جثتها. كان اختياراً يلعب على استثارة المشاعر، ولا يمكن الدفاع عنه حيث بالمقابل لا يجري أبداً تدنيس جسد أبيض[4] بهذه الطريقة. لكنه ذو دلالة. "نظل مستيقظين طيلة الليل على ضوء هواتفنا المتذبذب، باحثين عن الاستعارة أو الفيديو أو الصورة التي تثبت أن طفلاً هو طفل. تكتب الكاتبة الامريكية الفلسطينية حلا عليان. أي صورة ستكون أكثر نجاعة في آخر الأمر؟ هذه الصورة لنصف طفل فوق سطح؟ أو صورة هذه الطفلة الصغيرة التي تعتقد انها تستطيع التعرف على جسد أمها من بين الموتى؟"[5] لكن هذه الجهود تُأول من قبل الذين تتوجه إليهم باعتبارها علامة على التكالب والهوس المعادي للسامية والرغبة المرضية في شيطنة إسرائيل. فهي إذاً تعطي نتيجة معاكسة للأثر المنشود، وبهذا الشكل تقوي أكثر شبكة التأويل البطولية. حلقة مفرغة تماماً.

وعندما لا تتم شيطنتهم ولا يُنظر إليهم كحشد مبهم وهمجي يتوارث جينات العنف و"الإرهاب"، فإن الفلسطينيين يعامَلون ككمية ضئيلة لا وزن لها. مواراة الفلسطينيين ليست وليدة اليوم فجذورها تمتد إلى الكذبة الأولى التي سوّقتها الحركة الصهيونية في بداياتها عبر شعار "أرض بلا شعب لشعب بلا أرض"[6]. الاتهام الآلي للمدافعين عن الفلسطينيين بمعاداة السامية يعني فيما يعني أن موجِهي هذه التهمة لا يستطيعون حتى تخيل انه يمكن الاكتراث لأمر الفلسطينيين، انتقاد إسرائيل بالنسبة لهم لا يمكن تفسيره إلا بمعاداة السامية. الجدار الفاصل في الضفة الغربية والسياج المدجج بالتكنولوجيات المتطورة في غزة يترجمان بأكثر طريقة ملموسة رفض "رؤية" الفلسطينيين وأخذهم في الحسبان والقبول بوجودهم.

عندما يمحى شعب بأكمله من القصة
خلال العقد الأول من الألفية الحالية، قادت المناضلة اليسارية الأمريكية و"الساحرة الوثنية الجديدة" ستارهوك عدة تحركات تضامنية مع فلسطين. ولدت ستارهوك، "اليهودية المولد والتربية" كما تقول عن نفسها، سنة 1951 بعد سنوات قليلة من نهاية الحرب العالمية الثانية. في نص كتبته عندما كانت غزة تتعرض للقصف في حرب 2008 – 2009 ، تستذكر ستارهوك القصة الأسطورية لنشأة إسرائيل التي تربت عليها خلال طفولتها. وتعلق عليها قائلة: "كانت قصة قوية ومؤثرة. لم يكن فيها إلا عيب واحد: كانت تنسى الفلسطينيين. وكان على القصة أن تنساهم لأنه إذا ما توجب علينا الإقرار بأن وطننا ملك لشعب آخر فستفسد القصة (...) غولدا مائير كانت تقول :" الفلسطينيون، من هم؟ هم غير موجودون". هذا الإقرار كرره وزير المالية الحالي بتسلئيل سموتريش، أحد قادة اقصى اليمين الإسرائيلي وهو يعيش في احدى مستوطنات الضفة الغربية، في شباط/مارس 2023 خلال زيارة إلى باريس، مما تسبب في فضيحة صغيرة.

مقالات ذات صلة
 حالة نموذجية من الإبادة الجماعية
 نكبة ثانية؟ مسؤوليات "المجتمع الدولي"
في 18 تشرين الأول / أكتوبر الفائت نشرت ستارهوك نسخة معدّلة من النص الذي كتبته في 2008، وأضافت اليه هذه الملاحظة: "عندما يمحى شعب بأكمله من القصة فإن اغراء محوه تماماً تصعب مقاومته". وبالفعل مواراة الفلسطينيين كشرط ضروري للحفاظ على الأسطورة الوطنية الاسرائيلية يمكن أن يجعل من منطق الإبادة الجماعية أمراً معقولاً. يتم اليوم ارتكاب مجازر في حق الغزاويين بشكل يدفع أصوات يتزايد عددها أكثر فأكثر إلى استعمال مصطلح "إبادة جماعية"، ومن بينها: الفيلسوف إتيان باليبار في فرنسا، والمركز الأمريكي للحقوق الدستورية، والمنظمة الأمريكية "إن لم يكن الآن، فمتى؟"، وخبراء من الأمم المتحدة، وصحافي بريطاني كان قد غطى الإبادة الجماعية في رواندا، ووزيرة اسبانية، والفيلسوفة الأمريكية جوديث بتلر (العضوة في مكتب منظمة "صوت يهودي من أجل السلام")، والرئيس البرازيلي...

تُعرِّف الإبادة الجماعية، حسب اتفاقية الأمم المتحدة لمنع ومعاقبة جريمة الإبادة الجماعية، على قاعدة الأعمال المرتَكبة "بنيّة التدمير الكلي أو الجزئي لجماعة قومية أو عرقية أو عنصرية أو دينية بصفتها تلك". واعتماداً على هذا التعريف اعتُبرتْ أعمال القتل الجماعي لحوالي 8000 انسان من قبل الجيش الصربي في سربرنيتشا البوسنية في 25 تموز/يوليو 1995 إبادة جماعية.

في حالتنا هذه، فإن حرمان مجموعة سكانية بأكملها من الماء والغذاء والكهرباء، واستعمال معجم يجرّد الفلسطينيين من انسانيتهم من قبل وزير الدفاع الإسرائيلي يوآف غالانت الذي قال في 9 تشرين الأول/ أكتوبر: "نحن نقاتل ضد حيوانات بشرية"، وتصريح الرئيس الاسرائيلي إسحاق هرتسوغ يوم 12 تشرين الأول/أكتوبر الذي عبّر فيه عن رفضه فكرة أن يكون المدنيون الغزاويون أبرياء[7]، وكذلك الكلمات التي أتت في اليوم التالي على لسان المتحدث الرسمي باسم الجيش دانيال هاجاري، حيث أكد ان المنشود "هو الإضرار وليس الدقة" - صراحة جديدة تماماً -، كل هذه الأمور يمكن أن تشير إلى أن ما يحصل يُصنّف فعلا ضمن خانة الإبادة الجماعية. إلى حد يوم 24 تشرين الأول/ أكتوبر (عند كتابة هذا النص) بلغتْ نسبة المساكن المدمرة في غزة 42 في المئة.

مطرقة إعلامية لا حد لها
في هذا القرن الحادي والعشرين شديد الاتصال بالأنترنت، تستوجب إبادة - أو السماح بإبادة- مجموعة سكانية الاستثمار بالقدر نفسه في العملية الاتصالية والأسلحة، بهدف إقناع الرأي العام الغربي بتأييدها أو على الأقل القبول بها دون أي ردة فعل. ويقتضي هذا إقناع المشاهدين بأنهم ليسوا حقاً بصدد رؤية ما هم بصدد رؤيته.

حتى عندما يكون الجيش الإسرائيلي بصدد قصف المدنيين يتم تصويره كمجموعة من الفتيان الشجعان تحركهم النوايا الحسنة، والمقاتلات الباسلات و"المثيرات". ينقل صحافيون فرنسيون ما يقوله ممثلون عن الجيش الإسرائيلي من غير أي تحفظ أو تثبت، ضاربين بعرض الحائط كل الأخلاقيات المهنية.

الخطابات التي تؤكد على التفوق الحضاري الغربي ("انه صراع بين ابناء النور وأبناء الظلمات"، كما جاء على لسان نتنياهو في 17 تشرين الأول/أكتوبر) مضنية جداً. ومثلما حصل في حملات القصف المكثف لغزة - في 2008-2009 ثم في 2014- أو ما أسماه الجنرالات الإسرائيليون ب"جز العشب"، تمت استعادة المقولات الجاهزة نفسها بلا توقف، مع التغطية على سخافتها بمطرقة إعلامية لا حد لها. الحجج الكرتونية الواهية التي كان يفترض بها ان تبرر تحطيم الحيوات الفلسطينية، سحقها باسم يوسف خلال حواره مع بيرس مورغان، مما يفسر، على الأرجح، الانتشار السريع والهائل لمحتوى اللقاء. عندما تصطدم مرات ومرات بحائط الحمق والدوغماتية والمركزية الاثنية ضيقة الأفق، قد تصبح السخرية ملاذك الأخير حتى لا يصيبك الجنون.

مقالات ذات صلة
 هل تعرفون بدرو دييز فلوريس؟
 هل اختارت إسرائيل قتلَ مسلّحي حماس والرهائن بلا أيّ تمييز؟
في دقائق قليلة أعاد باسم يوسف البروباغندا إلى مكانها الطبيعي وجوهرها الحقيقي: مجرد هراء. "إسرائيل لديها الجيش الوحيد في العالم الذي ينذر الناس قبل قصفهم. ظريف جداً! هذا من لطفهم!"، "حسن ابن عم زوجتي، شخص عديم الفائدة لا يستطيع أبداً البقاء في نفس العمل، حتى انه لم يفلح في مقابلة توظيف الدروع البشرية"، "هل يخفي كل واحد من ال14 ألف مدني الذين قتلوا أو جرحوا إلى حد الآن أهدافاً عسكرية؟ لأنه إذا صح الأمر فهذا يعني الكثير من الأسلحة، وان حركة حماس مدرّعة!"، آه، هم مجرد "أضرار جانبية"؟ حسناً، في هذه الحالة لا بأس، يمكن تبرير الأمر"...

حجة "الدروع البشرية" تشذ عن المنطق عندما نعلم أن قطاع غزة واحد من أكثر المناطق كثافة سكانية في العالم، وأن سكانه لا يمكنهم مغادرته وليست لديهم ملاجئ تحت الأرض. من جهة أخرى، بوسعنا الافتراض انه في صورة اختباء إرهابيين في باريس مثلاً، ونسف نصف المدينة حتى يصبح مشابهاً لسطح القمر، والفتك بسكانها تحت ذريعة استهداف الإرهابيين فإن حجة "الأضرار الجانبية" لن تمر بمثل هذه السهولة.

رؤية الغرب للغزاويين: "مؤثرات هوملاند"
كتبتُ في تدوينة سابقة ان تماهي الغربيين مع الإسرائيليين الذين يشبهونهم كثيراً في نمط العيش، أسهل بكثير من تماهيهم مع الفلسطينيين. كان يجب علي أن أوضح وأضيف بأن الخطاب الحكومي الإسرائيلي يثبط بحيوية أي تماه غربي مع الفلسطينيين. قبل عشرون عاماً من الآن كان أرييل شارون يكرر باستمرار هذه الحجة لتبرير رفضه التفاوض مع السلطة الفلسطينية: "يجب أن تدركوا بوضوح ما يمثله تنفيذ عملية إرهابية في إسرائيل. عندما يقتل أربعون شخصاً في إسرائيل فهذا يعادل مقتل 400 شخص في فرنسا". في ذلك الوقت، أشار دنيس سيفر، الصحافي في مجلة "بوليتيس" Politis، إلى أن هذه المعادلة لا تطبق أبداً على الفلسطينيين: "أكثر من 2000 قتيل من بين ثلاثة ملايين ساكن خلال سنتين، ألا يعادل هذا الرقم 40 ألف قتيل في فرنسا؟"[8]. لكن السياسة الاتصالية الإسرائيلية لم تضع في حسبانها أن هناك فرنسيين يمكن أن تخامر أذهانهم مثل هذه الفكرة الغريبة والسخيفة فيتخيلون أنفسهم مكان الفلسطينيين!!

المواراة نفسها والتجريد من الإنسانية قبل بضعة أيام، عندما قام الحساب الرسمي لإسرائيل على منصة إكس-تويتر بتأنيب "غريتا تونبرغ" التي كانت قد صدحت للتو بمساندتها للغزاويين الذين يتعرضون للقصف، عبر الرد عليها بالقول ان الشباب الإسرائيليين الذين قتلتهم حماس خلال مهرجان للموسيقى كان بوسعهم أن يكونوا أصدقائها. وهذا صحيح بالطبع. لكن لما ليس من المحتمل أن تكون أيضاً صديقة للشباب الغزاويين المقتولين؟

"عندما يمحى شعب بأكمله من القصة فإن اغراء محوه تماماً تصعب مقاومته". وبالفعل مواراة الفلسطينيين كشرط ضروري للحفاظ على الأسطورة الوطنية الاسرائيلية يمكن أن يجعل من منطق الإبادة الجماعية أمراً معقولاً. يتم اليوم ارتكاب مجازر في حق الغزاويين بشكل يدفع أصوات يتزايد عددها أكثر فأكثر إلى استعمال مصطلح "الإبادة الجماعية".

يقول باسم يوسف في مقابلة تلفزيونية مع صحافي بريطاني انتشرت بشكل هائل: "لطالما فعل الغربيون الشيء نفسه مع الشعوب الأصلية. في البداية تعاملونهم كمتوحشين – الهنود الحمر والأبوريجيون: " انهم متوحشون! اقتلوا كل هؤلاء المتوحشين!" ثم، وبعد أن يوشكوا على الفناء تبدؤون في الاشفاق عليهم، كما يحدث مع الحيوانات"

هناك في هذه النظرة الاستعلائية التي عادة ما ينظر بها الغرب إلى الغزاويين ما يمكن أن نسميه "مؤثرات هوملاند" (المسلسل التلفزي "الوطن"). في 2015 اثار بث الحلقة الثانية من الموسم الخامس من مسلسل الجاسوسية الأمريكي الإحباط الشديد أو الضحك الصاخب في العالم العربي. يُفترض بأحداث الحلقة أن تدور في بيروت، لكن تم تصوير العاصمة اللبنانية كمتاهة من الأزقة المتربة وسلسلة من المطاعم الشعبية الرخيصة والأكواخ المريبة – في حين ان الأقرب للواقع أن تلك الأمكنة تحتلها محلات "ستربكس" في المدينة الحقيقية. قام الفنانون العرب المكلفون بتزيين جدران بيروت المزيفة بإحراج منتجي المسلسل والسخرية منهم عبر كتابة عبارة "الوطن عنصري" على أحد الديكورات.

على الشاكلة نفسها، وبعيداً عن الاستيهامات، فإن الغزاويين أناس عاديون ليسوا أقل أو أكثر "حداثة" من مجتمعات أخرى. وهذا ما أظهره بوضوح الراحل أنتوني بورداين في 2013 عندما ذهب إلى غزة وسجّل فيها حلقة من برنامجه "أماكن غير معروفة"، خصصها للمطبخ الفلسطيني رفقة الصحافية المتخصصة في فنون الطبخ ليلى الحداد. عميرة هاس الصحافية الإسرائيلية التي عاشت في غزة ما بين 1993 و2003 [9] وزميلها ومواطنها جدعون ليفي حافظا هما الآخرين لمدة طويلة على الصلة بهذه "العادية" الغزاوية.

وبعد أن انطلقت في 2005 حملة "المقاطعة وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات" (BDS) التي تهدف إلى إنهاء الاحتلال بوسائل سلمية، جوبه المواطنون الذين ساندوا الحركة في كل أنحاء العالم – بما في ذلك فرنسا - بموجة قمع ضارية تعتمد على الملاحقة القضائية. وبمبادرة من منظمة " كناري ميشن" (Canary Mission) بالأخص، يتم الكشف عن أسماء الطلبة الأمريكيين المنخرطين في حملة المقاطعة باعتبارهم معادين للسامية، ويسجَّلون في قوائم سوداء وضعت خصيصاً لكي يطّلع عليها المشغلون المحتملون لهؤلاء الطلبة. ربما لو تُركت حملة المقاطعة تحقق أهدافها لما كان من الضروري اليوم اللجوء إلى أعمال انتقامية أكبر ضد طلبة هارفارد الذين وقّعوا على بيان حمّلوا فيه مسؤولية هجوم حماس للحكومة الإسرائيلية.

عُرِضت الأسماء والصور تحت عنوان "أكبر المعادين للسامية في جامعة هارفارد" على جانبي شاحنة جالت في شوارع مدينة كمبريدج حيث توجد الجامعة. "الزبائن الجالسين في ساحات المقاهي والمطاعم، والطلبة الذين ينظرون عبر نوافذ غرفهم، والمارون المتجهون إلى محطة القطارات، بإمكانهم كلهم أن يروني موصومة بتهمة معاداة السامية، رفقة ثلة من الطلبة الآخرين. لقد تقيأت في ساحة الجامعة"، تروي إحدى الشابات[10].


على اليسار: "حياة فلسطينية تساوي أي حياة"، على اليمين: "هذا تمجيد للارهاب !". فريد سوشار
إلا أن هذه "الماكارثية" الجديدة المستفحلة في فرنسا أيضاً، والتي تمطر وابلاً من اتهامات معاداة السامية بطريقة أكثر فأكثر عمى وهذياناً، تأتي - أو تزداد حدتها - في اللحظة التي يبدو فيها ان دعم السياسة الإسرائيلية يسمح - أو يترافق مع - بتفريغ كبير للمكبوت، لا الاستعماري فقط بل حتى المعادي للسامية. وكما يُذكِّر بذلك تجمّع "تساداك !" في فرنسا فإن حكومة ايمانويل ماكرون قد كرمت في مناسبات عدة خلال السنوات الأخيرة وجوهاً تاريخية من اليمين المتطرف (مثل الماريشال بيتان وشارل موراس وجاك بانفيل). أحد وزراء هذه الحكومة - جيرالد درمانان - سبق له النشر في صحيفة "لاكسيون فرانسيز" L’Action française (قومية يمينية) واستعادة اطروحات نابوليون المعادية للسامية. في الأسبوع الفائت، نشرت صحيفة "شارلي ايبدو" رسما كاريكاتورياً يظهر الرهائن الإسرائيليين لدى حماس بأنوف معقوفة. ومن بين أكثر العناوين نجاحاً في الموسم الأدبي 2023 كتاب يصوِّر متعاونة مع الاحتلال النازي بلّغت عن جيرانها اليهود خلال الحرب باعتبارها "امرأة حرة".

جزء هام من اليمين المتطرف يصطف وراء الحكومة الإسرائيلية، وبعض يهود فرنسا يقبلون هذا الدعم، وهو أمر - كما لخص "والي ديا" ذلك جيداً في فقرته الإذاعية - لا يقل استهتاراً عن "تقبيل أفعى الكوبرا من فمها". في سنة 2018 وخلال نقل السفارة الامريكية من تل أبيب إلى القدس بقرار من دونالد ترامب - وسط حركة دعم هائلة للمتطرفين الإسرائيليين- أقيمت صلاة قادها قسين انجيليين، لكل واحد منهما تاريخ مثقل بالتصريحات النارية المعادية للسامية[11].

يصيبنا الدوار عندما نفكر في كمية العنف الذي كان يمكن تفاديه لو أجبرت الولايات المتحدة إسرائيل على انهاء الاحتلال قبل ثلاثين عاما. الآن، ربّما قد يكون فات الأوان. من الوارد جداً أن يكون "داعمو" إسرائيل قد حكموا على الفلسطينيين بأن يلقوا بشكل نهائي نفس المصير الذي لقيه سكان أمريكا الأصليون الذين عزلوا في محميات وأبيد أغلبهم فيما يعاني بقيتهم الشيطنة والاحتقار، وعلى الإسرائيليين بأن يكونوا رعاة البقر الجدد في هذا "الغرب المتوحش" الجديد، سجّانين أبديين – مصير دنيء سيكون دليلاً على اخفاق تاريخي رهيب في وقت تشوهت فيه بالفعل قطاعات كاملة من المجتمع من أثر كراهية العرب والتطرف الديني.

"لطالما فعل الغربيون الشيء نفسه مع الشعوب الأصلية. في البداية تعاملونهم كمتوحشين – الهنود الحمر والأبوريجيون: " انهم متوحشون! اقتلوا كل هؤلاء المتوحشين!" ثم، وبعد أن يوشكوا على الفناء تبدؤون في الاشفاق عليهم، كما يحدث مع الحيوانات"، يقول باسم يوسف لدى استضافته من قبل بيرس مورغان. ومن المحتمل أن ينتشر هذا العنف في بقية أرجاء العالم: امتداد الحرب إلى لبنان تهديد جدي، والمخاطر الإرهابية تتعزز، والاعتداءات والحوادث ذات الطابع المعادي للسامية وللإسلام تتزايد.

نفاق إدارة بايدن الذي لا يطاق
بصيص الأمل الوحيد يمكن أن نجده في الفحش المفضوح للدعم الأمريكي والذي يمكن أن ينتهي بانفجاره تحت ضغط ثقل تناقضاته (فلنحلم قليلاً!). في 20 تشرين الأول/أكتوبر طلب جو بايدن من الكونغرس الموافقة على صرف مساعدة تقدر ب14 مليار دولار لصالح إسرائيل. وشدد على ان هذه الأموال "ستعود في جزء منها إلى مصانع الأسلحة في الولايات المتحدة". في اليوم التالي أصدرت وزارة الخارجية هذا التصريح: "رسالتنا إلى الفلسطينيين في غزة والضفة الغربية ومختلف أنحاء العالم: نحن نراكم، ونشارككم الأحزان، ونحزن على كل خسارة في أرواح الأبرياء. لا ينبغي إلقاء اللوم على المدنيين ولا ينبغي أن يعانوا من الإرهاب المروع الذي تمارسه حماس". بعبارة أخرى: "سنضع مجدداً قطعاً نقدية في آلة الموت التي تهرس عظامكم، لكننا نحبكم. لا ضغينة!" في 19 تشرين الأول/أكتوبر، وبينما كانت غزة تُسحق بالقنابل، كان بايدن يؤكد بأن "ما يميزنا عن الإرهابيين هو أننا نؤمن بالكرامة الأساسية لحياة كل إنسان". المشكلة، كما علق الصحافي ايلي ميستال، أن "كل ما يفعله بايدن يصرخ بأنه يعطي حياة طفل إسرائيلي أهمية أكبر من تلك التي يوليها لحياة طفل فلسطيني". وهذا قد يجعل الناخبين من غير البيض ينفضون من حوله، يقول ميستال (وهو أسود البشرة)، ويكلفه عدم إعادة انتخابه.. مما يسمح بعودة ترامب. (حسناً. أعترف بأن ما اعتقدتُ انه بارقة أمل ليس كذلك!)

أحد الأصدقاء الذي وجدني مفزوعة من المصير الذي ينتظر طلبة هارفارد، نبهني قائلاً: "في الوقت نفسه، قبل عشرين عاماً ما كنا لنجد أبداً طلبة من هارفارد ينتقدون السياسة الإسرائيلية". بالفعل هناك بعض الحساسيات بصدد التغير. وهذا يعني أيضا اشتداداً أكبر لسياسات التضليل الإعلامي والترهيب. سيتوجب على أنصار السلام العادل - وليس سلام المقابر - أن يتشبثوا أكثر من أي وقت مضى.

______________________

*منى شوليه صحافية وكاتبة فرنسية سويسرية، كانت رئيسة تحرير الموند الدبلوماسي بين عامي 2016 و2022، وهي مناضلة نسوية ولديها مؤلفات عديدة من أشهرها: Sorcières : La puissance invaincue des femmes, Paris, La Découverte, coll. « Zones », 2018
• النص مأخوذ مع بعض الاختصارات من مدونة منى شوليه بالفرنسية https://www.la-meridienne.info/ حيث نشر في 27 تشرين الاول/أكتوبر، ونشر كذلك في "ميديا بارت" في 29تشرين الاول/اكتوبر.
• ترجمه من الفرنسية محمد رامي عبد المولى