2024-11-25 03:49 م

السياسة الأمريكية تجاه حماس.. حرب اجتثاث متعددة المحاور

تمتد جذور العداء بين الإدارة الأمريكية وحماس إلى نشأة الحركة، ويشير المتحدث السابق لحماس، إبراهيم غوشة، في مذكراته إلى أن أول لقاء جمع الحركة مع شخصية أمريكية رسمية كان في أوائل عام 1993، لكن فشلت “معضلة الترويض” بسبب رفض حماس التسوية غير العادلة للقضية الفلسطينية ونبذ المقاومة وتسليم أسلحتها.

ومنذ ذلك الحين، حاول صنّاع القرار الأمريكيون وضع العراقيل في طريق حماس، لكن الأخيرة صمدت رغم الابتزازات والضغوط الدولية والإقليمية والداخلية التي مورست عليها، بل استطاعت أن تحقق إنجازات عسكرية، ودخل الصراع منحى آخر كانت تجلياته الأخيرة في معركة “طوفان الأقصى” التي وضعت القضية الفلسطينية على مفترق طرق.

وإيذانًا ببدء مرحلة جديدة سيتقرر على إثرها مصير الصراع، لم تكتفِ السياسة الأمريكية بترك “إسرائيل” تتجاوز الخطوط المسموح بها، وتزيد لها من المعونات العسكرية والاقتصادية التي ارتفعت بشكل خيالي لم يسبق له مثيل، بل وضعت حماس أمام طوق غير مسبوق من الحصار الشديد لم تشهده الحركة في تاريخها، الأمر هنا ليس فقط تعزيزًا لسياسة الحصار التي تنتهجها الولايات المتحدة و”إسرائيل” وتجفيف الموارد التي تجعل الحركة صامدة، إنما خنقها تمامًا من كل اتجاه داخليًّا وخارجيًّا.

إن الطريقة التي تعتمدها السياسة الأمريكية في مواجهة حركة حماس تعتمد على فرض مبدأ التوحش، والواقع أن الإدارة الأمريكية تنظر بشكل أساسي إلى “طوفان الأقصى” كخطر يمكن أن يؤدي إلى توجُّه فلسطيني أكبر نحو حماس سياسيًّا وأيدولوجيًّا، ما يعني ذوبان التوجهات الفكرية الأخرى، فضلًا عن انعكاسات “طوفان الأقصى” على تنشئة الجيل الجديد، لذا لا بدَّ أن يكون الردّ مرعبًا بغضّ النظر عن التكلفة والغضب الذي قد تثيره.

وفيما يلي أبرز الإجراءات التي اتخذتها إدارة بادين لخنق حماس:

الحصار المالي 
وضعت الإدارة الأمريكية مؤسسات العمل الخيري والإغاثي في قفص الاتهام بحجّة صلتها بحركة حماس، وجمّدت أي أموال أو مؤسسات مشتبه أو مشكوك فيها بدعم حماس، فقد أصدر وزير الخارجية أنتوني بلينكن في 18 أكتوبر/ تشرين الأول بيانًا، أعلن فيه إدراج أشخاص من أعضاء المكتب السياسي لحماس وجمعيات خيرية وداعمين ماليين للحركة على قائمة العقوبات.

وقال مسؤول في وزارة الخزانة الأمريكية: “نحن نمنعهم من الوصول إلى أموالهم”، مضيفًا أن وزارة الخزانة استهدفت حتى الآن ما يقرب من 1000 فرد وكيان مرتبطين بالنظام الإيراني وحماس و”حزب الله”، هذا مع كون حماس كانت تخضع أصلًا لعقوبات مالية قبل “طوفان الأقصى”.

تجفيف الدعم الدبلوماسي 
دفعت معركة “طوفان الأقصى” الدبلوماسية الأمريكية إلى التحرك على كل الأصعدة لدعم “إسرائيل”، وقد أخذت مستويات وأنواعًا مختلفة، منها الفيتو الأمريكي في مجلس الأمن، وعرقلة أي قرار يؤيد وقف إطلاق النار في المحافل الدولية، أو إدانة المذابح التي تقترفها “إسرائيل”.

ونزولًا عند الرغبة الأمريكية، تمّ تشديد الحصار الدبلوماسي على قادة المكتب السياسي لحماس، إذ قوبلت الحركة بشبه مقاطعة رسمية عربية وصلت إلى حد عدم السماح لها بزيارة بعض العواصم العربية.

كما جاءت سياسة الدول الأوروبية تجاه حماس مطاوعة لسياسة واشنطن، إذ تنظر الأولى إلى حماس من رؤية أمريكية، ولذا إن الموقف والتعاون بين العديد من الدول الأوروبية وأمريكا يصلان إلى حد التطابق.

أما الموقف الروسي، فقد وجّه بوتين دعوة لحركة حماس لزيارة موسكو، وقد لقيت استهجانًا أمريكيًّا، والموقف نفسه تكرر مع الصين التي انتقدت الإدارة الأمريكية و”إسرائيل”، لكن يبدو أن هذه المواقف ليست وليدة قناعة بالقضية الفلسطينية وأهداف “طوفان الأقصى”، إنما جاءت في إطار توافق مصالح روسيا والصين ضد السياسة الأمريكية.

ويلاحظ أن روسيا تنتهج سياسة مزدوجة في غزة، وتحاول استخدام القضية الفلسطينية إعلاميًّا بهدف تغيير صورتها الملطّخة بالدماء في العالم العربي.

التجويع وضرب البنية التحتية
تؤكد المؤشرات التي تتبعها “إسرائيل” حاليًّا أن الإدارة الأمريكية لا تريد استهدف أدوات حماس المالية والعسكرية فقط، إنما تسعى لممارسة أشد أنواع الحصار ضد الشعب الفلسطيني بغزة، وضرب بنيته التحتية والخدمات الصناعية والطبية والاجتماعية، من أجل انتشار الفوضى وضغط الشارع الشعبي على حماس.

فرغم الحصار المالي والسياسي الذي فرضته الإدارة الأمريكية على حماس بهدف إسقاطها، لكنها تدرك تمامًا ظروف الشعب الفلسطيني الذي لا يستطيع أن يعيش بغير فتح المعابر ولاعتبارات فرضتها ظروف الاحتلال، لذا ترى أن حالة الخراب التام بأي ثمن وتحت أي اسم ستعزز من الهدف المطلوب، وحتى لو دخلت حماس في مفاوضات، فورقة التجويع كفيلة بتقليل سقف المطالب وتحقيق نتائج سريعة.

البربرية العلنية
بعد أن فشلت السياسة الإعلامية التي اعتمدت على إيجاد حاجز نفسي مع المتعاطفين مع القضية الفلسطينية على مستوى العالم، من خلال إجبار الضيف أولًا على أن ينأى بنفسه عن حماس ويدين ما قامت به، لوحظ أن استضافة الاتجاه الآخر أو الذي ينتقد الرواية الإسرائيلية قد قلّت بشكل لافت، وإن وجدت شخصية تنتقد “إسرائيل” فهي ضئيلة ولا تمثل شيئًا في بحر الآراء التي تصبّ في مصلحة الكيان الصهيوني.

تحاول إدارة بايدن أن تنشر صورًا مضللة عن حركة حماس، وإقناع الرأي العام بأن “إسرائيل” في حربها على غزة تقف مع الولايات المتحدة في محاربتها للإرهاب، وبكل الوسائل العقلية والعاطفية، ويتم تصوير المجازر التي تقوم بها “إسرائيل” بكونها لا تخرج عن دائرة الدفاع عن النفس، بينما الرد الفلسطيني هو فقط الذي يجب أن يتوقف.

وبشكل عام، ركزت الإجراءات الإعلامية التي تروج لها الإدارة الأمريكية على تحميل حماس تبعات أي أحداث تقع بغض النظر عمّا يعانيه المجتمع الفلسطيني، بجانب إظهار عجزها أمام الرأي العام واتهامها بتبنّي مواقف وسياسات متهورة وغير محسوبة، وأنها تستخدم الأطفال والنساء دروعًا بشرية والمستشفيات لأغراض عسكرية، وقد صرّح بذلك وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن.

إضافة إلى تجريد حماس من أي مصداقية والتقليل من أي خسائر في صفوف المدنيين تدلي بها، فعلى سبيل المثال عند مواجهة بايدن بإحصاءات القتلى في غزة، قال إنه لا يثق بإحصائيات وزارة الصحة التي تديرها حماس، رغم أن الوزارة أصدرت قائمة مكونة من 212 صفحة بأسماء وأرقام هوية كل فلسطين تقول إنه قُتل في القصف الإسرائيلي.

هذا بجانب التأكيد المتكرر على أن حماس لا تدافع عن حق الشعب الفلسطيني في الكرامة وتقرير المصير، وأنه لا يمكن أن يكون هناك تعايش سلمي معها، وفي المقابل تصوير محمود عباس أنه رجل عقلاني والممثل الحقيقي للشعب الفلسطيني، وجدير بالذكر أن هذا الخطاب يتردد أيضًا في بعض وسائل الإعلام العربية.

استراتيجية التطويق: الحصار الإقليمي
انطلاقًا من حرص الإدارة الأمريكية على اجتثاث حماس خلال الفترة القادمة، فإن السيناريو الأمريكي يتمثل في التمهيد لهذه المرحلة من خلال ضرب حصار اقتصادي وسياسي إقليمي متواصل ضد حماس لإرباكها، والحيلولة دون تحقيق أي هدف تسعى إليه.

والواقع أن السياسة الأمريكية القائمة على تعبئة وحشد المحور المعادي لحركة حماس لاقت قبولًا من بعض النخب العربية الحاكمة، فالحصار الإقليمي ليس فقط رغبة واشنطن و”إسرائيل”، بقدر ما هي أيضًا رغبة من الأطراف العربية التي تريد الخلاص من حماس، وغير مستعدة للتلويح بأي ورقة لديها لإيقاف الإبادة.

ترى الأنظمة العربية أن أيديولوجيا حماس ورؤيتها في إدارة الصراع تقوّضان شرعية السلام مع الكيان الصهيوني، وبالتالي يُنظر إلى حماس من خلال رفضها تصفير القضية الفلسطينية وحالة التخاذل العربي الرسمي بأنها تساهم في العزلة التي تعيشها “إسرائيل” في المنطقة، وتُفشل مشاريع الأنظمة العربية في إدماج “إسرائيل” في المحيط العربي الشعبي الرافض لها، خصوصًا أن “إسرائيل” في العديد من المشاريع الاقتصادية الأخيرة كانت محورًا مركزيًّا لكل سيناريوهات التعاون الإقليمي الاقتصادي في المنطقة العربية.

وبالتالي، عملية “طوفان الأقصى” وضعت حماس في مواجهة مع بعض الأنظمة العربية التي تنظر إليها كمصدر إزعاج يقوض شرعية السلام مع “إسرائيل”، ويهدد حالة استمرار هذه الأنظمة في مشروع الاستسلام والتنازلات للولايات المتحدة و”إسرائيل”.

بجانب أن بعض الأنظمة العربية تربط حماس بصراعها مع تيار الإسلام السياسي في بلدانها، وتتخوف من تداعيات نجاح الحركة، ومن هذا المنطق ترى أن هزيمة حماس تساوي هزيمة المشروع الإسلامي في المنطقة، وبالتالي ليس من المستغرب أن ترى في اللحظة الحالية فرصة لتصفية الحسابات، خصوصًا إذا تعلق الأمر باستهداف فصيل إسلامي مقاوم لسياسة التطبيع.

ولذا كثرت الخطابات العربية المناهضة لحماس، والتذكير بأن خروجها من الحرب دون القضاء عليها يعني انتصارًا لمشروعها الفكري، والتحذير من أن وجودها سيؤدي إلى تعثُّر وفشل المشاريع التي تفرَض على شعوب المنطقة.

وبناءً على ما سبق، فإن إيجاد ترتيبات اقتصادية جديدة في المنطقة العربية لا بدَّ أن يصطدم بحركة حماس، لأن بقاءها لا يشكّل فقط تهديدًا مباشرًا لـ”إسرائيل”، إنما له تداعيات استراتيجية على الأنظمة الصديقة للولايات المتحدة و”إسرائيل” في المنطقة، خصوصًا مع بروز تأثير حركة حماس في الشارع العربي، لكن الأنظمة العربية لا تعلن ذلك نظرًا إلى حساسية القضية ورمزيتها لدى الشارع العربي الضاغط باتجاه تقديم الدعم لغزة.

كما أن الإدارة الأمريكية نجحت في مقايضة بعض الأنظمة العربية المتحفّظة على موضوع التهجير فقط، من خلال التلويح لها بأوراق حقوق الإنسان والديمقراطية والمشاركة السياسية والمعونات السنوية التي تقدمها لمصر والأردن، لانتزاع مكاسب سياسية تصبّ في المصلحة الإسرائيلية، أو بعبارة أخرى فرض مزيد من الحصار على قطاع غزة وتضييق الخناق على حركة حماس.

وما يؤكد الانزلاق الخطير لهذه السياسة الأمريكية، هو المواقف الحالية التي أظهرتها مصر والأردن وعدم تقديم الدعم الإنساني للشعب الفلسطيني، ووقوفها مكتوفة الأيدي في وقت يطلق فيه العنان للجيش الصهيوني، لممارسة أبشع الجرائم ضد غزة التي ما زالت تدَكّ بأطنان القذائف.

هندسة جديدة: كرزاي فلسطين 
الواقع أن حماس تحاصَر أيضًا سياسيًّا وأمنيًّا على مستوى الداخل الفلسطيني، حيث شنّت “إسرائيل” حملة اعتقالات واسعة تحت أعين السلطة الفلسطينية، واعتقلت 740 ناشطًا من حماس في الضفة الغربية عقب معركة “طوفان الأقصى”، من ضمنهم المتحدث الرسمي باسم الحركة، وما زالت الاعتقالات مستمرة حتى الآن.

تبحث الإدارة الأمريكية “تشكيل قيادة فلسطينية” في غزة بعد القضاء النهائي على حماس، وترتكز حاليًّا على تدعيم موقف محمود عباس، وبعض القوى في الداخل الفلسطيني، والذين تتماشى سياستهم معها في ضرورة اجتثاث حماس، باعتبار أن هذا الأمر قاسم مشترك وفقًا لحسابات ومصالح الطرفَين.

ويبدو أن هناك أطرافًا إقليمية على استعداد للمشاركة في هذا السيناريو، إذ ظهرت بوادر هذه الخطة بعد سلسلة اتصالات مكثفة قام بها دبلوماسيون أمريكيون للتنسيق والتشاور مع الأطراف العربية والفلسطينية لتشكيل إدارة مؤقتة بقيادة فلسطينية، بجانب دور مؤقت في الأمن للدول العربية المجاورة، وما زالت المحادثات جارية، لكن يبدو أن نقطة الخلاف الحالية هي في قدرة الهيكل الجديد على أن يكون فعّالًا.

المصدر: نون بوست/ أحمد سيف النصر