ستضيف مدينة شرم الشيخ المصرية، الأحد 19 مارس/ آذار 2023، قمة أمنية جديدة تضم ممثلين عن السلطة الفلسطينية والحكومة الإسرائيلية، برعاية مصرية، ومشاركة أردنية أمريكية، وتأتي في إطار "الجهود الإقليمية والدولية الرامية إلى تحقيق ودعم التهدئة بين الجانبيَن الفلسطيني والإسرائيلي (…)، واستكمالًا للمناقشات التي شهدها اجتماع العقبة يوم 26 فبراير/ شباط الماضي"، بحسب المتحدث باسم الخارجية المصرية أحمد أبو زيد.
وأضاف المتحدث في بيان للوزارة أن هذا الاجتماع "يهدف لدعم الحوار بين الجانبَين الفلسطيني والإسرائيلي، للعمل على وقف الإجراءات الأحادية والتصعيد وكسر حلقة العنف القائمة وتحقيق التهدئة، بما يمهّد لخلق مناخ ملائم يُسهم في استئناف عملية السلام"، في وقت تشهد فيه الساحة الفلسطينية تصعيدًا إسرائيليًّا كبيرًا منذ بداية العام الحالي، أسفر عن ارتقاء عشرات الشهداء وأضعافهم من الجرحى والمصابين.
وتأتي مشاركة السلطة في هذا الاجتماع رغم الرفض الفصائلي لهذه الخطوة التي تخدم الكيان المحتل، وتشرعن تحركاته وجرائمه، وتغطي على انتهاكاته المستمرة بحق الشعب الفلسطيني، آخرها المجزرة التي ارتكبها في مخيم جنين في 16 من الشهر الجاري، وأسفرت عن استشهاد 4 فلسطينيين بينهم مقاومان.
وكان المشاركون في اجتماع شرم الشيخ قد التقوا في 26 فبراير/شباط الماضي في مدينة العقبة جنوبي الأردن، وخلص الاجتماع إلى إعلان اتفاق على وقف الإجراءات أحادية الجانب لمدة تتراوح بين 4 و6 أشهر، بما يشمل وقف الترويج للاستيطان، لكنها التعهّدات التي لم تلتزم بها حكومة بنيامين نتنياهو، المصرّة على المضيّ قدمًا في خطواتها التصعيدية دون أي اعتبارات أخرى، الأمر الذي يثير التساؤل حول جدوى انعقاد قمة ثانية في شرم الشيخ.
رفض فصائلي.. خيانة للقضية الفلسطينية
رفضت الفصائل الفلسطينية مشاركة السلطة في تلك القمة، مطالبة بعدم سفر الوفد الفلسطيني والاعتذار فورًا عن الحضور، كرسالة مباشرة حول الانتهاكات الإسرائيلية المستمرة، ففي بيان مشترك لهما، قالت الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين وحركة الجهاد الإسلامي إن ""إسرائيل" تستغل هذه القمم واللقاءات الأمنية لشنّ المزيد من العدوان بحقّ شعبنا".
من جانبه، قال أمين سر اللجنة المركزية العامة في الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، إياد عوض الله، إن مشاركة السلطة الفلسطينية في المؤتمر "خيانة صريحة لدماء الشهداء، وطعنة غادرة في خاصرة شعبنا الذي يتعرض لعدوان إسرائيلي شامل ومتواصل".
مضيفًا خلال مسيرة حاشدة في رفح، في الـ 16 من الشهر الجاري، "على السلطة أن تنحاز لصوت الجماهير ونبض الشارع، ولا تتهرب من تنفيذ قرارات الإجماع الوطني، خاصة قرارات المجلسَين المركزي والوطني، بالتحلل من اتفاق أوسلو، وسحب الاعتراف بالاحتلال، ووقف التنسيق الأمني"، محذّرًا ممّا أسماه "مواصلة الانجرار وراء أوهام وسراب الحلول الأمريكية، أو التفاهمات الهادفة لقطع الطريق أمام مقاومة شعبنا الفلسطيني، والانقضاض على حقوقه وثوابته".
فيما أشارت الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين (ضمن فصائل منظمة التحرير) إلى أن "الأضاليل وروايات الغش عن جدوى مسار العقبة-شرم الشيخ، وضرورته المزعومة لخدمة مصالح شعبنا، تكشفها حمّامات الدم ومسلسل الجرائم اليومية التي ترتكبها قوات الاحتلال".
مضيفة في بيان لها في 17 مارس/ آذار الجاري أن مجزرة جنين شكّلت "صفعة لكل الذين كانوا يعملون على التحضير لاجتماع شرم الشيخ، ويروّجون له ويدعونه واجبًا وطنيًّا لدرء مخاطر الأعمال العدوانية لـ"إسرائيل"، ليتأكد بالواقع الملموس أن اجتماع شرم الشيخ وما سبقه من تفاهمات في اجتماع العقبة لم يكن إلا غطاءً وتسترًّا على حكومة الاحتلال".
أما أحزاب الشعب والجبهة الديمقراطية وحركة فدا، فدعت في بيان لها مصر والأردن إلى إلغاء اجتماع شرم الشيخ، وعدم المضيّ في هذا المسار "بالغ الخطورة على الشعب الفلسطيني وحقوقه العادلة"، مطالبة رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس بوقف المشاركة الفلسطينية في هذا الاجتماع، منوّهة أن مثل تلك اللقاءات أصبحت ذات طبيعة أمنية منفصلة عن جوهر القضية السياسية للشعب الفلسطيني، والمتمثلة في إنهاء الاحتلال.
فيما وصف مدير عام المركز الفلسطيني لأبحاث السياسات والدراسات الاستراتيجية، هاني المصري، إصرار السلطة الفلسطينية على المشاركة في مثل تلك اللقاءات مع حكومة الاحتلال، بأنه "يشكّل إمعاناً في السير في طريق جهنم"، لافتًا في حديث صحفي له لـ"الخليج أونلاين" أن "مشاركة السلطة في قمة شرخ الشيخ يوفر الغطاء لأسوأ حكومة إسرائيلية، يجب تشديد الخناق عليها ورفض التعامل معها، والمطالبة بمقاطعتها وفرض العقوبات عليها".
منوّهًا أنه ليس هناك مبرر على الإطلاق في مشاركة السلطة في ظل التصعيد الإسرائيلي، معتبرًا أن كل ما يهمّ أبو مازن وسلطته من وراء تلك المشاركة هو "بقاؤها ووقف مسار الضعف والانهيار الذي تسير فيه، على أمل الحصول على بعض الأموال"، على حد قوله.
وفي المقابل، دافع الناطق باسم حركة فتح، حسين حمايل، عن جدوى الانخراط في مثل تلك المشاورات واللقاءات، متهمًا الفصائل التي تعارض مشاركة السلطة في القمة بأنها تغلّب مصالحها الحزبية على ما أسماه "المصلحة الوطنية لشعبنا"، لافتًا أن المشاركة في قمة شرم الشيخ تحتاج إلى جرأة بعيدًا عن الشعارات.
غطاء للهمجية الإسرائيلية
منذ تولي حكومة نتنياهو الجديدة السلطة وتسابق الزمن نحو إشعال الموقف داخليًّا، ولم تكن مجزرة جنين الأخيرة في 16 مارس/ آذار الجاري والتي ارتقى فيها 4 شهداء هي الأولى، فقد سبقها مجزرتان في المخيم ذاته، واحدة في السابع من الشهر وأسفرت عن ارتقاء 6 شهداء وجرح 26 آخرين بعضهم في حالة حرجة، والثانية في يناير/كانون الثاني الماضي واستشهد فيها 9 فلسطينيين بينهم امرأة، أعقبتها مجزرة أخرى في نابلس، شمالي الضفة، في 22 فبراير/ شباط الماضي، وأدّت إلى ارتقاء 11 شهيدًا فلسطينيًّا بينهم طفل و3 مسنين، وإصابة أكثر من 102 آخرين بجروح بينهم 6 في حالة الخطر.
وتعدّ تلك المجازر استمرارًا للنهج الذي سارت عليه حكومة الاحتلال خلال العام الماضي، حيث أسفرت المجازر المرتكبة خلاله عن استشهاد أكثر من 240 شهيدًا، منهم 171 في الضفة و53 في غزة و6 من فلسطينيي 48، بجانب أكثر من 9 آلاف و350 مصابًا وأكثر من 7 آلاف معتقل (منهم 4700 لا يزالون في سجون الاحتلال).
رافقت تلك المذابح توسعات مهولة في سياسة الاستيطان، ليصل عدد المستوطنات إلى 176 مستوطنة و186 بؤرة تستوعب 730 ألف مستوطن، فيما تمَّ الاستيلاء على 223 من الممتلكات الفلسطينية، وصدور قرارات بالاستيلاء على 26 ألفًا و424 دونمًا، بجانب شرعنة البؤر الاستيطانية غير القانونية في مخطط تهجير عنصري بامتياز.
وتحاول حكومة الاحتلال التغطية على تلك الجرائم من خلال الادّعاء بإجراء تفاهمات ونقاشات مع الجانب الفلسطيني للتوصُّل إلى حلول للتهدئة وتخفيف حدة التوتر، ولم تجد أكثر مرونة من السلطة في تحقيق هذا الهدف الذي تُوهم به المجتمع الدولي برغبتها في التوصل إلى اتفاق، لتصبح السلطة الجسر الأكبر الذي تعبر عليه حكومة نتنياهو إلى أهدافها التوسعية المنشودة من جانب، وعدم استثارة المجتمع الدولي من جانب آخر.
اللافت هنا أن رئيس الوزراء الفلسطيني محمد اشتية، قد اتهم الحكومة الإسرائيلية بأنها تسعى إلى "مسح" حدود 1967، وحسم الصراع لصالح الاستعمار من خلال إعادة احتلال الضفة الغربية، لافتًا خلال كلمته أمام المؤتمر السنوي لمركز الأبحاث التابع لمنظمة التحرير الفلسطينية، والمنعقد في مدينة رام الله قبل أيام، أن ""إسرائيل" تشنّ مختلف أنواع الحرب على الشعب الفلسطيني في ظل غياب الأفق السياسي، وفي ظل إدارة أمريكية لا تريد أن تفعل شيئا، وكذلك أزمة أوكرانيا وانشغال أوروبا فيها، الأمر الذي أثّر علينا ماديًّا وسياسيًّا".
وتكشف تلك التصريحات -الأقرب إلى التحذيرات- عن حالة التناقض التي تحياها السلطة الفلسطينية فيما يتعلق بمسألة المشاركة في القمم التي تحضرها حكومة الاحتلال، فبدلًا من إيصال رسائل رادعة وحاسمة للمحتل بوقف التفاوض حتى إعادة النظر في سياساته التصعيدية، ومحاولة تعريته أمام المجتمع الدولي، تكون المشاركة بأريحية كاملة، من العقبة إلى شرم الشيخ وما بينهما، في ازدواجية تمنح حكومة نتنياهو قبلة الحياة في تجنُّب الاستهداف الدولي ولو إعلاميًّا على أقل تقدير.
أي جدوى لقمة شرم الشيخ؟
بالنظر إلى قمة العقبة التي عُقدت قبل 21 يومًا، يلاحظ أنه لم يتحقق أي شيء ممّا تمَّ الاتفاق عليه، والذي كان أبرزه وقف الإجراءات أحادية الجانب لمدة 3-6 أشهر، والتزام "إسرائيل" بوقف مناقشة إقامة أي وحدات استيطانية جديدة لمدة 4 أشهر، ووقف إقرار أي بؤر استيطانية جديدة لمدة 6 أشهر، وضرورة الالتزام بخفض التصعيد على الأرض ومنع المزيد من العنف.
هذا فيما اتفق الأطراف الخمسة المشاركون في الاجتماع على "أهمية الحفاظ على الوضع التاريخي القائم في الأماكن المقدسة في القدس قولًا وعملًا دون تغيير"، مشددين على "الوصاية الهاشمية الأردنية" على هذه الأماكن.
وعلى النقيض تمامًا من مخرجات تلك القمة، جاءت الممارسات الإسرائيلية، حيث التوسع في الاستيطان والاقتحامات المتتالية للمناطق الفلسطينية، وتوسيع دائرة الاعتقالات والاستهداف الممنهج، ومنح المستوطنين الضوء الأخضر لممارسة أنشطتهم العنصرية التي تستهدف الفلسطينيين العزل، بل إن الحكومة الإسرائيلية أعلنتها بكل صراحة أنه لا توقُّف للمشاريع الاستيطانية المتفق عليها، ضاربة بتفاهمات العقبة عرض الحائط.
وهنا تساؤل: إذا كانت تلك هي ردود الفعل الإسرائيلية على تفاهمات العقبة.. فما الجدوى إذًا من عقد قمة جديدة في شرم الشيخ؟ هل يمكن أن تكون تلك القمة هي الرادع لدولة الاحتلال عمّا تقوم به من جرائم وانتهاكات؟ علمًا أن الأطراف المشاركة فيها هي ذاتهم من شارك في العقبة.
هناك عدة قراءات للإصرار على عقد لقاء ثانٍ في شرم الشيخ رغم فشل اللقاء الأول في العقبة، لعلّ أبرزها الرغبة الإسرائيلية في تفريغ القضية الفلسطينية من مضمونها، وتحويلها من قضية دولة وشعب إلى قضية أمنية من الطراز الأول، هذا بجانب الحصول على ضمانات من الحلفاء وممثلي السلطة الفلسطينية لتكبيل المقاومة الفردية تحديدًا، والمتوقع زيادة وتيرة نشاطها في شهر رمضان، الأمر الذي يؤرق مضاجع المستوطنين وحكومة الاحتلال.
في الأخير، تبقى دولة الاحتلال هي المستفيد الأول من مثل تلك اللقاءات التي تسعى من خلالها لتطويق المقاومة وشيطنتها، وتوسعة الهوة بينها وبين الشارع الفلسطيني من جانب، والسلطة الفلسطينية -المستسلمة تمامًا للأهواء الإسرائيلية والضغوط الإقليمية- من جانب آخر، فيما تبقى القضية الفلسطينية عي الخاسر الأكبر في ظل تآمُر الجميع، بقصد أو دون قصد.
المصدر: نون بوست