يسعى وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن، خلال زيارته الحالية للشرق الأوسط، لمحاولة تثبيت وقف إطلاق النار الهش، مع تجنب محادثات السلام الأطول مدى، ومنع المقاومة الفلسطينية من جني ثمار حرب غزة.
ويبدو أنَّ هدف زيارة بلينكن الرئيسي للشرق الأوسط هو إضعاف حماس، وتقوية السلطة الفلسطينية وحلفاء أمريكا القدامى، وليس إحياء مفاوضات جديدة للسلام، حسبما ورد في تقرير لصحيفة The New York Times الأمريكية.
إعادة العلاقات مع مصر للمستوى السابق
وفي حديث إلى المراسلين قبل رحلة بلينكن يوم الإثنين 24 مايو/أيار، أشار مسؤول كبير في وزارة الخارجية إلى أنَّ الجهد الدبلوماسي الأمريكي بالمنطقة سيستهدف جزئياً إعادة السلطة الفلسطينية إلى غزة، الأمر الذي سيتطلب تهميش نفوذ حماس هناك وعلى الأرجح تأجيج الصراع على السلطة بينهما. وقال المسؤول إنَّ الخطوة تهدف إلى تهيئة الظروف لاستقرار أفضل في غزة.
أما مصر، بصفتها القوة الإقليمية الوحيدة التي تحافظ على علاقات عمل وحدود مع كل من إسرائيل وحماس، فقد أرسلت وفوداً من المسؤولين الأمنيين إلى غزة وتل أبيب، بينما اجتمع دبلوماسيوها مع مبعوثين أمريكيين وأردنيين. وتُوِّجَت مساعدتها بإنهاء الأزمة بمكالمة من بايدن إلى الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي، الذي قال على تويتر، يوم الجمعة 21 مايو/أيار، إنه "استقبلها بسعادة كبيرة".
وبعد لقاء الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي، مع بلينكن، في أول زيارة للأخير للقاهرة، اتفق الطرفان على تعزيز التنسيق بشأن هدنة وإعمار قطاع غزة.
وقال وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن، الأربعاء، إن مصر "شريك حقيقي وفعال" ساهم في إنهاء حرب غزة.
جاء ذلك خلال كلمة لبلينكن في السفارة الأمريكية في القاهرة، عقب اجتماع قصير مع الرئيس المصري ومسؤولين مصريين، ضمن جولة في المنطقة بدأت الثلاثاء، وتشمل إسرائيل ورام الله، والأردن؛ لبحث تثبيت الهدنة.
وذكر بيان للرئاسة المصرية: "أنه تم التوافق على تعزيز التنسيق والتشاور الثنائي بين البلدين فيما يخص تثبيت وقف إطلاق النار وكذلك إطلاق عملية إعادة الإعمار بقطاع غزة تأسيساً على المبادرة المصرية في هذا الإطار".
وأكدت الرئاسة المصرية أن اللقاء تطرق لأحداث غزة وتطورات ليبيا وملف سد النهضة الإثيوبي الذي تشهد مفاوضاته تعثراً منذ أشهر، ورفض مصري سوداني للملء الثاني للسد.
ماذا عن ملف حقوق الإنسان؟
حين كان بايدن لا يزال مرشحاً للرئاسة، قال إنه "لن يكون هناك مزيد من الشيكات البيضاء لديكتاتور ترامب المفضل"، في إشارة إلى السيسي، وعلى الرغم من أنَّ الرئيس المصري كان أول زعيم عربي يهنئ بايدن بعد الانتخابات، فقد انتظر بايدن حتى الأسبوع الماضي لمعاودة الاتصال، حسب The New York Times.
لكن بعد تلك البداية الباردة لعلاقتهما، سعت مصر للاستفادة من أزمة غزة لتعزيز علاقاتها مع الإدارة الجديدة. وقدم استقبال السيسي لبلينكن في القاهرة؛ فرصة للقائد المصري ليس فقط لإعادة تأكيد علاقة بلاده مع الولايات المتحدة، بل أيضاً لتعزيز مكانة مصر بوصفها قائدة في المنطقة ووسيطاً قوياً بين الدول العربية.
وعلى الرغم من أنَّ هذه المكانة تراجعت منذ سنوات، مع سقوط مصر في الاضطرابات الداخلية وتأكيد الدول العربية الأكثر ثراءً وجودها في المنطقة، لكن القاهرة تمتعت بعلاقات سلسة مع واشنطن في الغالب خلال السنوات الأخيرة حتى وصول إدارة بايدن، التي وضعت حقوق الإنسان في محور استراتيجية سياستها الخارجية.
ورغم تهديدات إدارة بايدن في ملف حقوق الإنسان، لم تغير الإدارة أساسيات العلاقة مع القاهرة تغييراً جذرياً، وهي ترتكز على 1.3 مليار دولار من المساعدات العسكرية التي تتلقاها مصر كل عام من الولايات المتحدة، وهي نتيجة تاريخية لاتفاقها على السلام مع إسرائيل في عام 1979، حسب الصحيفة الأمريكية.
ووافقت وزارة الخارجية الأمريكية على بيع أسلحة بقيمة 197 مليون دولار لمصر في فبراير/شباط 2021، في الوقت نفسه تقريباً الذي اعتقلت فيه مصر أبناء عمومة المعارض المصري الأمريكي محمد سلطان، فيما وصفه سلطان بأنه محاولة للضغط عليه للتوقف عن انتقادها.
المفارقة أن وزير الخارجية الأمريكي لم يتطرق في مصر علناً، على ما يبدو، إلى سجلّ القاهرة في ملف حقوق الإنسان، ولكنه كشف اليوم الأربعاء، لدى وصوله إلى العاصمة الأردنية عمّان، قادماً من القاهرة، أنه أجرى حواراً مطولاً مع الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي حول هذا الملف، حسبما ذكرت وكالة رويترز.
وقال بلينكن، متحدثاً للصحفيين في عمّان، إنه أثار مع السيسي أيضاً مشكلة الأمريكيين المحتجزين في مصر.
ولا يريد أن يبدو داعماً لنتنياهو في مواجهة مأزقه الداخلي
ويمكن أن تعمل حرب غزة دوراً في مواصلة إصلاح العلاقة بين الولايات المتحدة والأردن والتي كانت مُعلَّقة إلى حد كبير خلال إدارة ترامب، بسبب تحفظ الأردن على صفقة القرن.
ويعيش ما لا يقل عن مليوني لاجئ فلسطيني في الأردن، وتتولى ملكيتها الهاشمية الوصاية على المسجد الأقصى في القدس.
إضافة إلى ذلك، تأتي زيارة بلينكن في وقت عصيب تمر به السياسة الإسرائيلية، إذ يترأس رئيس الوزراء، بنيامين نتنياهو، حكومة تصريف أعمال قد تكون في أيامها الأخيرة، بعد أربع جولات انتخابية غير حاسمة في غضون عامين، ودون صورة واضحة لما ينتظر إسرائيل.
وقال خبراء في المنطقة، إنَّ على بلينكن المناورة بحذر بين التعبير عن دعم إدارته الثابت لإسرائيل وأمنها، مع عدم تسليم أي هدايا يمكن اعتبارها تدخلاً في المأزق المحلي لنتنياهو.
الهدف الأهم لزيارة بلينكن تقوية السلطة الفلسطينية
لكن الزيارة ستعطي على الأرجح دفعة لرئيس السلطة الفلسطينية المدعومة من الغرب محمود عباس، الذي تضاءلت شرعيته الشعبية، بسبب مواقفه غير القوية خلال أزمة القدس وحرب غزة وهي الشعبية المتزعزعة أصلاً بسبب إلغائه الانتخابات العامة الفلسطينية التي طال انتظارها، والتي كان من المقرر إجراؤها في 22 مايو/أيار، ثم بسبب منافسته، حماس، التي عززت مكانتها كزعيمة للمقاومة ضد إسرائيل ومدافِعة عن حقوق الفلسطينيين في القدس المحتلة.
ومن المتوقع أن يستغل عباس الزيارة في محاولة إعادة تأكيد قوة السلطة التنفيذية ونطاق نفوذه.
وبعد حديث عباس هاتفياً مع بلينكن يوم الجمعة 21 مايو/أيار، قال مكتبه إنه حث الإدارة الأمريكية على الضغط على إسرائيل لوقف أعمالها العدائية في القدس، وتحديداً بالمسجد الأقصى، والتي ساعدت في إشعال الجولة الأخيرة من القتال.
وفي اليوم الأول من جولته الشرق أوسطية وبعد لقائه مع عباس، أكد بلينكن رغبة بلاده في "إعادة بناء" علاقتها مع الفلسطينيين وسعيها لإعادة فتح القنصلية الأمريكية في القدس.
وتعهد أيضاً بالمساعدة في تنمية وغوث قطاع غزة المحاصر. وأكد الوزير الأمريكي أن "الولايات المتحدة ستقوم بإبلاغ الكونغرس نيتها تقديم 75 مليون دولار كمساعدات للتنمية والمساعدة الاقتصادية للفلسطينيين في 2021".
وكانت إدارة الرئيس الأمريكي السابق، دونالد ترامب، قد أوقفت تمويل وكالة "الأونروا"، وأغلقت مكتب منظمة التحرير الفلسطينية في واشنطن، وقامت بإغلاق قنصليتها العامة في القدس.
وشكر الرئيس الفلسطيني عباس الإدارة الأمريكية على دعمها، مؤكداً أن الحكومة "مستعدة للعمل مباشرة في إعادة بناء غزة، وتشكيل حكومة وحدة وطنية تمثل كل الأطراف".
دعم السلطة عبر إعمار غزة والإغراءات الاقتصادية
وعبر الإغراءات الاقتصادية، تسعى واشنطن لتقوية السلطة الفلسطينية دعماً لإسرائيل وخشية من تزايد قوة حماس بعد نجاحها في حرب غزة، حسب تقرير سابق لـ"عربي بوست".
وكان بلينكن أكد صباح الثلاثاء 25 مايو/أيار 2021، بعد اجتماعه برئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، في القدس، أن واشنطن ستضمن عدم "استفادة" حركة حماس من المساعدات الدولية التي ستخصَّص لإعادة إعمار قطاع غزة. وتعهد نتنياهو بردٍّ "قوي للغاية" في حال خرقت حركة حماس وقف إطلاق النار، موضحاً: "في حال خرقت حماس الهدوء وقامت بمهاجمة إسرائيل، فإن ردَّنا سيكون قوياً للغاية".
ولم يتطرق بلينكن إلى حل الدولتين، خلال لقائه مع نتنياهو.
وسرعان ما تُرجم الموقف الأمريكي بضرورة تقوية موقف السلطة في الشارع الفلسطيني، بإصدار وزير الدفاع الإسرائيلي، بيني غانتس، قراراً بفتح معبر جلمة التجاري الواصل بين مدينة جنين وإسرائيل، والذي يعد شرياناً اقتصادياً ورافداً مالياً مهماً لمناطق شمال الضفة الغربية.
وتدرك الإدارة الأمريكية أن الضعف الذي ظهرت به السلطة الفلسطينية في حرب غزة، والمتمثل برفع شعارات من قِبل المتظاهرين بفشل مشروعها السياسي، دفعها إلى الإسراع بتبني خطوات من شأنها منح السلطة مكانة متقدمة، عبر تعزيز مشروعها السياسي بإعادة مسار المفاوضات مع إسرائيل برعاية أمريكية، ولكن من الواضح أن المسار المقترح سيركز على القضايا الجزئية ويهمش محاولة الوصول لطريق لتحقيق رؤية حل الدولتين الذي تبناه بايدن في برنامجه الانتخابي.
حماس تردُّ على محاولات الإدارة الأمريكية تهميشها
اللافت أنه بالتزامن مع زيارة بلينكن، هدّد يحيى السنوار، رئيس حركة حماس في قطاع غزة، الأربعاء 26 مايو/أيار 2021، إسرائيل بـ"حرق اليابس والأخضر" إن لم يتم رفع الحصار عن قطاع غزة، مشدداً على أن القطاع "لن يقضي هذا العام ومشاكله كما هي"، كما رحب في حديث له مع الصحفيين بكل جهود إعمار القطاع، مؤكداً أنه "لن يذهب أي قرش للحركة أو أعضائها".
وقال السنوار في أول تصريحات صحفية للسنوار بعد العدوان على غزة، إن مدينة القدس "خط أحمر"، وإن "زوال إسرائيل مرتبط بمخططاتها في المدينة"، حسب تعبيره.
وتأتي تصريحات السنوار في الوقت الذي تقول فيه واشنطن إن"المساعدات لغزة ستذهب في المقام الأول، من خلال الأمم المتحدة بمشاركة السلطة الفلسطينية".
ونقلت قناة "الحرة" عن مسؤول أمريكي، أن بلاده "تتواصل مع دول الخليج ودول مانحة أخرى؛ لبحث سبل تمويل عملية إعادة الإعمار"، مشيراً إلى أن "مصر ستلعب دوراً في إيصال المساعدات إلى القطاع". وأكد أن "عدم إجراء محادثات مع حركة حماس يطرح تحدياً في الوقت الراهن"، معرباً عن أمله في "إعادة دور السلطة الفلسطينية لغزة بشكل ما".
هل يمكن عزل حماس؟
ومن الواضح أن بعض الفاعلين الدوليين يسعون لتعزيز مكانة السلطة الفلسطينية في لحظة صعبة بالنسبة لها، في ظل تراجع شعبيتها بسبب مواقفها الباهتة خلال حرب غزة وحتى قبلها خلال الاعتداءات على الأقصى ومحاولة تهجير سكان حي الشيخ جراح.
ولكن الواقع أن شعبية حماس ارتفعت، ونظرة كثير من الفلسطينيين إليها حتى من غير الإسلاميين أو غير المتعاطفين معها تقليدياً، على أنها أصبحت بمثابة رادع لإسرائيل، تجعل هذا أسوأ وقت للقوى الدولية لمحاولة نزع سلاح حماس، أو إقناعها بذلك أو حتى إخراجها من المعادلة.
فالعكس هو ما يحدث؛ إذ تحدثت المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل عن انفتاحها على إجراء حوار غير مباشر مع حماس حول الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي، كما تحدثت صحيفة هآرتس الإسرائيلية عن تغيُّر أمريكي مع حماس وغزة، قد يدفع إلى حوار ثنائي.
ومما يشير إلى صعوبة استبعاد حماس من ملف إعمار غزة، أن وكالة رويترز نقلت عن مصادر من حماس، قولها إن رئيس المكتب السياسي للحركة، إسماعيل هنية، تلقى بالتزامن مع زيارة بلينكن للمنطقة، دعوة لزيارة القاهرة؛ لإجراء محادثات بشأن إعادة إعمار غزة.
ويشير عريب الرنتاوي، في "الدستور" الأردنية، إلى أنه بعد تصريحات ميركل فإن "الوقت بالنسبة لدول غربية أخرى ربما يكون قد حان لإجراء (حوار مباشر) مع الحركة، وهو ما يعني أيضاً، على حد تعبيره، أن الباب قد فُتح موارباً، لحوار مباشر لاحق، ويرى أن الدول (المترددة) ستجريه مع حماس في الأيام القادمة".
كما يشير إلى تحوُّل "حاضنة حماس في الخارج" بحيث أصبحت الحركة الإسلامية محور الاتصالات الدولية حول الأزمة الأخيرة، بعد أن "بدأ العالم يقتنع على ما يبدو، باختلال توازنات القوى الفلسطينية الداخلية… حماس اليوم، وليس السلطة، هي عنوان الفلسطينيين"، حسب تعبيره.
المشكلة أنه حسبما كتب هشام ملحم في "النهار العربي" اللبنانية، "ليس من المتوقع أن نرى أي تغيير في موقف إسرائيل من حقوق الفلسطينيين عموماً".
المصدر: عربي بوست