كشفت صحيفة “واشنطن بوست” في تحقيق لها عن مئات الجنرالات الأمريكيين المتقاعدين الذين قبلوا مناصب في السعودية وافقت عليها الحكومة الأمريكية لكنها حاولت الإبقاء على سريتها. وقالت إن هناك أكثر من 500 عسكري أمريكي متقاعد منهم جنرالات وأمراء بحر قبلوا ومنذ عام 2015 وظائف برواتب خيالية للعمل مع حكومات أجنبية معروفة بسجلات فقيرة في حقوق الإنسان وقمع المعارضين.
وفي السعودية مثلا، عمل 15 جنرالا وأمير بحر متقاعدا ومنذ عام 2016 كمستشارين برواتب لوزارة الدفاع السعودية والتي كان يترأسها حتى وقت قريب، ولي العهد محمد بن سلمان.
ويضم المستشارون برواتب في السعودية جنرال المارينز المتقاعد جيمس لي جونز، مستشار الأمن القومي للرئيس باراك أوباما والجنرال المتقاعد كيث ألكسندر الذي قاد وكالة الأمن الوطني في عهد كل من أوباما وجورج دبليو بوش، وذلك حسب وثائق حصلت عليها الصحيفة بناء على دعاوى قضائية ضمن قانون حرية المعلومات.
وعمل آخرون كمستشارين للسعودية منذ مقتل الصحافي جمال خاشقجي في عام 2018 ومن ضمنهم جنرال متقاعد بأربع نجوم من سلاح الجو وقائد عسكري سابق للقوات الأمريكية في أفغانستان. وعمل معظم الجنرالات المتقاعدين كمتعهدين مدنيين في السعودية والإمارات ودول الخليج الأخرى حيث لعبوا دورا مهما ولكن غير بارز في تحديث جيوش هذه الدول. كل هذا في وقت استمرت فيه قوات الأمن التابعة لهذه الدول بارتكاب انتهاكات حقوق إنسان في الداخل والخارج.
وبمشاركة استخباراتية جوية والمساعدة في تزويد الوقود بالجو للطيران السعودي والإمارات، تدخل هذان البلدان في اليمن بشكل أدى إلى كارثة إنسانية، حسب محققي الأمم المتحدة. وطالما عملت الدول الأجنبية على دعم مصالحها في واشنطن عبر دفع أموال لشركات اللوبي والمحامين والمستشارين السياسيين ومراكز الأبحاث والمستشارين في مجال العلاقات العامة بواشنطن. ولكن تعيين الجنرالات السابقين للاستفادة من خبراتهم ونفوذهم زاد في العقد الماضي بعد زيادة النفقات الدفاعية في دول الخليج وتقوية الشراكات مع البنتاغون. ويسمح الكونغرس للجنود المتقاعدين والاحتياط العمل في خدمة حكومات أجنبية لو استطاعوا الحصول على إذن من الفرع الذي يخدمون به في الجيش الأمريكي ووزارة الخارجية. إلا أن الحكومة الأمريكية كافحت من أجل التعتيم على خدمات هؤلاء الجنود. واحتفظت وعلى مدى سنين ماضية بالمعلومات الشخصية المتعلقة بالجنرالات والجنود والدول التي يعملون فيها وكم يحصلون على رواتب.
وكي تضيء الصحيفة على عالم خدمات الجنرالات المتقاعدين للدول الأجنبية، تقدمت بدعاوى ضد الجيش، سلاح الجو، البحرية، قوات المارينز والخارجية الأمريكية إلى المحكمة الفدرالية وبناء على قانون حرية المعلومات. وبعد معركتين قضائيتين، حصلت الصحيفة على أكثر من 4.000 وثيقة بما فيها ملفات تعني 450 جنديا وبحارا وطيارين ومارينز متقاعدين. وتكشف الوثائق أن الحكومات الأجنبية تدفع رواتب مغرية للمواهب العسكرية الأمريكية بالإضافة لرزمة منافع تصل أحيانا إلى ستة أصفار وأحيانا سبعة وأكثر مما يحصلون عليه أثناء عملهم في القوات الأمريكية المسلحة.
وفي رأس قائمة الرواتب أثناء الخدمة، يحصل الجنرال بأربع نجوم على 203.698 دولارا كراتب أساسي. وبالمقارنة قدمت حكومة أستراليا صفقات تصل إلى 10 ملايين دولار لمسؤولين بارزين وسابقين قي البحرية. وتوصلت شركة استشارات يملكها متقاعدون سابقون من البنتاغون إلى صفقة بـ 23.6 مليون دولار مع قطر الدولة التي تستضيف أكبر قاعدة أمريكية في الشرق الأوسط، مع أن الصفقة لم تتم في النهاية. وفي أذربيجان، منح جنرال متقاعد من سلاح الجو استشارات يومية بـ 5.000 دولار. وعادة ما يحصل الجنرالات وأمراء البحر المتقاعدون على أعلى الرواتب، إلا أن الجنود السابقين والاحتياطيين قد يحصلون على مبالغ كبيرة إلى جانب رواتبهم التقاعدية في الولايات المتحدة.
واستأجرت السعودية عنصرا سابقا في القوات الخاصة، نيفي سيل، للعمل كمستشار عمليات براتب 258.000 دولار في العام. وعرضت الإمارات حزمة تعويضات تصل إلى 200.000 دولار لطياري الهيلوكوبتر و120.000 دولار لفنيي الطائرات. وفي أندونيسيا استأجرت شركة تنقيب حكومية مارينز برتبة رقيب بمبلغ 500 دولار في اليوم إلى جانب تكاليف المعيشة.
وانتفع الكثير من الجنرالات وأمراء البحر من العلاقات التي بنوها أثناء مشاركتهم في حروب الشرق الأوسط. وتظهر السجلات أن بعضهم تفاوض على فرص عمل أثناء عملهم. وظلل المسؤولون العسكريون رواتب الجنرالات وأمراء الحرب وكذا الجنود في المراتب الدنيا. وناقش المحامون عن الجيش أثناء المرافعات القضائية أن الكشف عن هذه المعلومات يعني خرقا للخصوصية التي يستحقها هؤلاء وقد “تسبب لهم الإحراج والتحرش” و”تضر بطريقة غير منصفة بسمعتهم العامة”. وتواصل الصحيفة عملية تقديم الدعاوى القانونية ضد الجيش والخارجية لكي تفرجا عن معلومات جديدة.
وفي أيلول/سبتمبر قام قاضي محكمة منطقة أميت ميهتا بإصدار قرار لصالح الصحيفة وطلب من الجيش والخارجية الإفراج عن المعلومات المتعلقة بحزم التعيين والرواتب. واعتبر ميهتا دفاع الحكومة القائم على الخصوصية “غير مقنع” وقال إن من حق الرأي العام معرفة إن كان الرموز الكبار في الجيش قد استغلوا مناصبهم للحصول على فرص عمل مع حكومات أجنبية.
وفي إطار آخر، قدم مشروع الرقابة على الحكومة بواشنطن دعاوى قضائية مماثلة ولكي يكشف عن الطريقة التي يقوم بها الجنرالات المتقاعدون ببيع الخبرات العسكرية للحكومات الأجنبية. وقال مدير البحث في هذه المؤسسة الرقابية براندون بروكماير إن الجنرالات السابقين يقدمون شهادات أمام لجان الكونغرس ويدلون بآرائهم في النقاشات التلفزيونية، ولكن من النادر أن يكشفوا عن خدماتهم للحكومات الأجنبية وإن كانوا يتلقون أموالا منها. ويقيد القانون الفيدرالي تعيين أو استفادة الجنود السابقين ممن خدموا 20 عاما أو أكثر في الجيش أو تلقيهم أشياء ثمينة من الحكومات الأجنبية بطريقة تعرض ولاءهم للولايات المتحدة للخطر. وهذا المنع نابع من بند في الدستور الذي يحظر على العاملين في مؤسسات الدولة قبول هدايا “من أي ملك، أمير أو دولة أجنبية” بدون موافقة الكونغرس.
وفي عام 1977 فوض الكونغرس مهمة منح الموافقات للجنود السابقين للبنتاغون والخارجية. وتعتبر الأذونات مهمة قبل أن يقبل المتقاعدون تعويضات أو بدل سفر وأي شيء آخر له قيمة من دول أجنبية، ويمكنهم العمل كمدنيين ولكن ليس بالزي العسكري. وعليهم أيضا النجاح في امتحان فحص استخباراتي، مع أن الصحيفة وجدت أن الإذن عادة ما يكون أوتوماتيكيا. وكان هذا الحال في 500 طلب قدم منذ 2015 حيث تمت الموافقة بنسبة 95%. وتعتمد السلطات على الجنود المتقاعدين لتقديم تقارير عن نواياهم للعمل في دول أجنبية. ووجدت الصحيفة أن بعضهم لم يهتم لتقديم تقرير عن عمله في الخليج ولا سجلات فدرالية لهم بهذا الشأن. ومن حق وزارة الدفاع منع تقاعد من لا يقدم تقريرا.
ووجدت الصحيفة أن دائرة المالية في الوزارة منعت فقط خمسة من رواتبهم التقاعدية. وأشارت الصحيفة لحالة مايكل فلين، الجنرال الذي كشف عن علاقته بروسيا وكانت سببا في استقالته عام 2017 كمستشار للأمن القومي في إدارة دونالد ترامب. وقام الكونغرس ما بين 2019 و2020 بتمرير قانون يطلب من البنتاغون تقديم تقرير سنوي عن عمل الجنرالات والجنود المتقاعدين مع الحكومات الأجنبية. ومن بين 500 حالة كشف عنها تحقيق الصحيفة، هناك واحدة مرتبطة بروسيا حيث تلقى 300.000 دولار كوظيفة مدير تنفيذي بشركة أقمار صناعية مقرها في أمريكا وتملك روسيا الحصة الكبرى فيها.
وترى الصحيفة أن ثلث الوظائف التي حصل عليها المتقاعدون في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا جاءت نتاج عقدين من التعاون الأمريكي مع حكومات المنطقة في مكافحة الإرهاب. فقد تم منح أذونات لـ 25 متقاعدا من الجيش والبحرية والمارينز للعمل في السعودية. وكان معظمهم من أصحاب الرتب العليا ممن منحوا وظائف كمستشارين في وزارة الدفاع السعودية. ومن المستفيدين من الموافقات، جيمس لي جونز الذي عمل في إدارة أوباما واتصل به عادل الجبير، وزير الخارجية السعودي في حينه ورتب له مقابلة مع الأمير محمد أثناء زيارة الأخير لأمريكا. وطلب منه المساهمة في خبراته ليخفف من النفقات التي تنفقها الوزارة. وقدم جونز طلب موافقة في تشرين الثاني/نوفمبر 2016 وحصل عليه بعد أربعة أشهر، وفي مقابلة مع الصحيفة قال جونز إنه وافق على القيام بتقييم تنظيمي للوزارة ولكن بعد موافقة المسؤولين في الدفاع والخارجية.
وتناولت الصحيفة حالات خدم فيها جنرالات بالسعودية بعد تقاعدهم مثل الجنرال تشارلس وولد، قائد القوات الأمريكية السابق في أوروبا، وكيث الكسندر، وعمل في كلية محمد بن سلمان للأمن الإلكتروني. ورغم المناقشات التي تمت بين العاملين الأمريكيين والممثلين للشركات التابعة للجنرالات السابقين مقتل خاشقجي وإن كان عليهم البقاء أو وقف أعمالهم في المملكة إلا أنهم قرروا البقاء. ونقلت الصحيفة عن أر فيليب ديفال، المحامي الذي كان يشرف على برنامج سلاح الجو ما بين 2012 و2016 قوله إنه رفض عددا قليلا من طلبات المتقاعدين للعمل في “دول العالم الثالث ذات السمعة بالوحشية في النزاع”. وقال إنه تعامل مع طلبات العمل مع حكومات أجنبية بأنها تخدم السياسة الخارجية الأمريكية.