لا حديث يعلو الآن فوق احتفالات ذكرى انتصارات أكتوبر/ تشرين الأول 1973، تلك الانتصارات التي ربما تكون الوحيدة للعرب في صراعهم الممتد مع دولة الاحتلال على مدار أكثر من 7 عقود كاملة، وبعيدًا عن كواليس تلك المعركة وتبايُن وجهات النظر حيالها، إلا أنها تظل العلامة المضيئة الوحيدة في مسار الصراع العربي الإسرائيلي المليء بالنكسات والعبرات.
اللافت للنظر أن الدولة الخاسرة في تلك الحرب، وهي "إسرائيل"، هي من تتبارى للكشف عن وثائق هذه المواجهة والإفصاح بين الحين والآخر عن بعض الكواليس والملابسات الخاصة بأدق تفاصيلها، هذا في الوقت الذي تقف فيه الدولة المنتصرة، وهي مصر، موقف المتفرج دون الرد، سلبًا أوإيجابًا، إزاء ما تُفرج عنه تل أبيب من وثائق عسكرية هامة.
المثير للدهشة أن الدولة المنتصرة بإعلامها وباحثيها ومؤرخيها يستندون فيما يكتبون عن فترة 1967-1973، وهي الفترة التي شهدت وقائع النكسة والانتصار، إلى كتابات المهزوم، إذ لم يكن هناك أي مصدر آخر لتلك الفترة الحساسة سوى ما أرّخه الإسرائيليون وما أخرجوه من خزانات أسرارهم.
ومع الذكرى الـ 49 للعبور، ما زالت الأسئلة الجدلية ذاتها تفرض نفسها دون إجابة شافية: لماذا تتكتّم مصر على وثائق حرب أكتوبر/تشرين الأول؟ وما هي دوافع المصريين إزاء هذا الموقف المستهجَن من قبل الكثير من الباحثين والمؤرخين؟ ثم السؤال الأكثر حرجًا وخطورة في آن واحد: هل يعي القائمون على أمور الدولة المصرية تبعات الاعتماد على الرواية الإسرائيلية في توثيق تلك المواجهة؟
"إسرائيل" تفرج عن وثائقها
العقد الأخير تحديدًا شهد تسريبات شبه سنوية لدولة الاحتلال عن بعض أسرار حرب أكتوبر/ تشرين الأول، معظمها يعزف على وتر أن مصر ما كان لها الانتصار سوى بالخديعة، وهي الشمّاعة التي تعلق عليها دولة الاحتلال خسارتها في تلك الحرب التي تؤكد أنها ربحتها في نهاية المطاف، حسبما كتب الناطق الرسمي باسم الجيش الإسرائيلي، أفيخاي أدرعي، على صفحته الرسمية على فيسبوك، حيث قال إن "السادس من أكتوبر: الحرب التي بدأت بمفاجأة كبيرة وانتهت بنصر عسكري إسرائيلي".
ومن أحدث الوثائق المفرج عنها، والتي أثارت الكثير من الجدل، تلك المنشورة قبل أشهر قليلة بشأن الجاسوس المصري أشرف مروان، المستشار المقرَّب من الرئيس المصري آنذاك، أنور السادات، وزوج ابنة الرئيس الراحل جمال عبد الناصر، حيث كشفت تل أبيب عن تلقيها معلومات مؤكدة منه حول نية مصر شنّ حرب ضد دولة الاحتلال، لافتة إلى أنها لم تتعامل مع تلك المعلومات بالجدية الكافية، في رغبة منها للإيحاء بأن مروان كان جاسوسًا لديها وليس عميلًا مزدوجًا وفق السردية المصرية.
هذا بخلاف ما سرّبته صحيفة "هآارتس" العبرية في يوليو/ تموز الماضي بشأن المقبرة الجماعية التي تضم 80 جنديًّا مصريًّا، قتلتهم قوات الاحتلال، منهم 20 جنديًّا قُتلوا حرقًا، خلال إحدى المعارك التي نشبت بين القوتين في كيبوتس نحشون الواقعة بالضفة الغربية المحتلة خلال حرب الأيام الستة عام 1967، وهي التسريبات التي أثارت حفيظة الشارع المصري بشكل كبير.
وثائق أكتوبر/ تشرين الأول لم تكن حكرًا على "إسرائيل" فحسب، فها هي بريطانيا، وهي ليست طرفًا في الحرب من الأساس، تكشف عن وثائق تتعلق بها، أبرزها تلك التي نشرته هيئة الإذاعة البريطانية (بي بي سي) مؤخرًا، والتي تقول إن بريطانيا وأمريكا فوجئتا بوقف الدول العربية المنتجة للنفط إمداداتها من البترول للغرب بعد 10 أيام من بداية الحرب، رغم تقليلهما الاستخباراتي قبل ذلك من إرادة العرب في اتخاذ خطوة كهذه، وهو ما كان له صداه في حسم المعركة للطرف المصري.
ومصر تلتزم الصمت
تعرّضت حرب العبور إلى العديد من سهام التشكيك، بعضها على أيدي العدو الإسرائيلي والآخر على أيدي المناوئين لنظام السادات من أبناء الحقبة الناصرية، وصلت بعضها إلى أن ما حدث لم يكن نصرًا كما يروَّج له، بل اتفاقًا مسبقًا بين القاهرة وواشنطن وتل أبيب لفرض واقع جديد يضمن لـ"إسرائيل" أن تكون دولة معترفًا بها رسميًّا نظير استرداد سيناء المحتلة.
كما تروِّج دولة الاحتلال أن الحرب انتهت بانتصار كبير لها عكس بدايتها والتي كانت الغلبة فيه للجيشَين المصري والسوري، هذا بخلاف الإيهام بين الحين والآخر بالفشل المخابراتي المصري في التعامل مع ملف الجاسوسية، كل هذا يتم على مرأى ومسمع من المصريين، حكومات وشعوب.
عدة أسئلة كانت مثار الشارع والباحثين والمؤرخين على شاكلة: هل أشرف مروان جاسوس مصري أم إسرائيلي أم كان عميلًا مزدوجًا؟ هل حرب أكتوبر/ تشرين الأول حرب تحرير كما هو معروف أم حرب تحريك لرسم خارطة إقليمية جديدة يكون لـ"إسرائيل" فيها موقع عليها، كما ذهب الكاتب الصحفي محمد حسنين هيكل، الملقّب بـ"قميص عبد الناصر"؟ ماذا عن الثغرة وهل كانت بفعل فاعل حقًّا أم خطأ تكتيكيًّا؟ وفي النهاية: من انتصر حقًّا في تلك الحرب، مصر أم "إسرائيل"؟ وهي الأسئلة الحائرة دون إجابات لسنوات طويلة.
وأمام تلك الوضعية التي تضرب الانتصار الوحيد للعرب في مقتل، لم تحرّك مصر ساكنًا، ولم تكلف نفسها عناء الرد على تلك الأوهام والأكاذيب، وتجيب عن تلك الأسئلة الجدلية التي يفوح من بين ثناياها عبق التشكيك بالوثائق والمستندات التي تثبت من خلالها أن ما حدث كان معجزة بكل المقاييس، وأن دولة الاحتلال تلقّت هزيمة نكراء في فنون القتال والمواجهة، حين كانت المعركة متكافئة إلى حد ما، وهو ما يمكن سحبه على بقية المواجهات المستقبلية التي تنسف خيال الأسطورة الإسرائيلية والجيش الذي لا يقهر.
لماذا الإبقاء على الوثائق حبيسة الأدراج؟
وفق قانون رفع السرّية عن الوثائق التاريخية للحفاظ على مصلحة الدولة العليا وأمنها القومي، المدشَّن عام 1989، فإن الحد الأقصى للحفاظ على تلك الوثائق دون نشرها 30 عامًا، بموجب القاعدة الشهيرة "قاعدة الثلاثين عامًا"، ومع فجر اليوم الأول لانتهاء تلك الفترة تسمح الحكومات بنشر ما لديها من أسرار من باب حرية تداول المعلومات، وهناك بعض الدول تقلل تلك الفترة كما هو الحال لدى بريطانيا، حيث الكشف عن الوثائق الهامة لديها بعد مرور 20 عامًا فقط.
وها هي مصر تقترب من عامها الخمسين على انتهاء حرب أكتوبر/تشرين الأول 1973، وأكثر من 55 عامًا على هزيمة يونيو/ حزيران 1967، ورغم ذلك لا تزال الوثائق حبيسة الأدراج، أسيرة تكتُّم شديد، يثير الجدل أحيانًا إذا ما تعلق الأمر بالتزام الصمت إزاء محاولات التشكيك في الحرب ونتائجها من قبل الإعلام الإسرائيلي والغربي.
بل هناك فترات بأكملها لا توجد وثيقة أو مستند رسمي واحد يتطرق إليهما، كما هو الوضع في فترة الاستنزاف 1967-1973، وكانت معظم الكتابات التي تناولت تلك الفترة إما معتمدة على ما نشرته "إسرائيل"، وإما عبر الكتابات الخاصة لبعض المؤرخين والكتّاب مثل محمد حسنين هيكل وموسى صبري، بخلاف المذكرات النادرة لعدد من الجنرالات على رأسهم رئيس الأركان الأسبق سعد الدين الشاذلي.
غير أن تلك الكتابات لا يمكن الاعتماد عليها كوثائق، حسبما أشار أستاذ التاريخ بالجامعة الأمريكية بالقاهرة، خالد فهمي، الذي لفت إلى أن الذاكرة ربما تخون أي شخص يتعرض لتلك المرحلة، هذا بخلاف التأثير الأيديولوجي للمؤرخ، وهو ما يمكن الوقوف عليه من خلال التباين الواضح في تناول الواقعة ذاتها بين كتّاب تابعين للحقبة الناصرية وآخرين يمليون إلى السادات.
ومن ثم إن الذاكرة المؤسسية التي تعتمد على الوثائق الرسمية التي تحتفظ بها الدولة في خزائنها العسكرية هي الحل، وهي الذاكرة التي لا تكذَّب ولا تتجمّل، مشددًا على أن ضرورة أن تتاح تلك الوثائق للمهتمين من الباحثين والصحفيين، بما يصحّح الصورة المغلوطة ويقوّم بعض السرديات الشاذة التي تعتمد على أوهام أكثر منها حقائق ومعلومات.
عدة تساؤلات حول دوافع التكتُّم المصري عن وثائق النصر والهزيمة، البعض يرجِع الأمر إلى بُعد "الأمن القومي" الذي يتطلب فرض السرّية على تلك الوثائق، لا سيما أن الخطر ما زال قائمًا بوجود العدو على الحدود المصرية، حتى إن كانت العلاقات معه تشهد أوج قمتها من التناغم والحميمية، غير أن هذا المبرر ربما يصطدم بالقوانين الدولية التي تشدد على الإفصاح عن المستندات الرسمية وإتاحة المعلومات بشفافية أمام الجميع، خاصة مع مرور قرابة 5 عقود كاملة على تلك الحرب.
رأي آخر يميل إلى أن التنسيق الحالي بين القاهرة وتل أبيب حال دون كشف الأول عن وثائق الفترة التي شهدت نزاعا وحربًا وعداءً مع الثاني، وهو التكتُّم الذي يأتي في إطار الدبلوماسية المصرية لإبقاء العلاقات مع "إسرائيل" في إطارها الدافئ، بما لا يستفز العدو الذي بات اليوم حليفًا موثوقًا.
يذكَر أن وزارة الثقافة المصرية قد تبنّت عام 2012 مشروعًا يلزم جميع الجهات -بما فيها الجهات السيادية كوزارة الدفاع والمخابرات العامة ورئاسة الجمهورية- أن تودع ما لديها من وثائق قديمة لدار الوثائق القومية، تمهيدًا لإتاحتها للمتخصصين، لكن حتى كتابة هذه السطور لا أحد يعلم مصير هذا المشروع وإلى أي المراحل وصل، وسط مطالب بتفعيله في أعقاب ما أُثير بشأن امتلاك بعض الساسة كميات هائلة من الوثائق الرسمية التي لا تتوفر لدى جهات الدولة، وهي الظاهرة التي تهدد تأريخ الحقب الهامة في تاريخ البلاد.
في ضوء ما سبق.. إن الكشف عن وثائق أكتوبر/ تشرين الأول ويونيو/ حزيران من الأهمية بمكان، على الأقل للردّ على حملات التشكيك الإسرائيلية، وبعد مرور 49 عامًا ليس هناك من داعٍ مقلق ولا سبب مقنع للإبقاء على تلك الوثائق -أو على الأقل بعضها- في خزائن السرّية، فيما يترَك الشعب أسير كتابات خاضعة للأهواء وإعلام دعائي بعيد عن الحقيقة، وعدو يلعب وحده في ميدان التأريخ لتلك الفترة التي بلا شك سيكون الميل فيها نحو سرديته التي يعزف عليها بشأن نصره الذي حققه على حساب الجيوش العربية.
المصدر/ نون بوست