بعد أن كان التفاؤل هو المُسيطر على الساحة، والحديث “الإيجابي” يتناقل في كل مكان عن قرب توقيع “اتفاق تاريخي” بين لبنان وإسرائيل، حول ترسيم الحدود البحرية ونجاح الوسيط الأمريكي في ممارسه ضغوطه على الطرفين، وخروج تصريحات رسمية من بيروت و”تل أبيب” تؤكد أنه لا خاسر من هذا الاتفاق، إلا أن كل هذا التفاؤل لم يصمد طويلا وتحول فجأة نحو السيناريو الأخطر.
الحالة المُسيطرة الآن هي التهديد والوعيد بفتح جبهة عسكرية جديدة قد تصل لحرب كبيرة، وأن كل ما كان ينشر حول قرب الاتفاق كان مجرد “تمنيات” لا أكثر، فإسرائيل التي أعلنت صراحةً رفضها للتعديلات التي وضعتها لبنان على مسود الاتفاق، لم تتوقف عند الرفض بل أعطت الضوء الأخضر لجيشها بالتجهيز لعملية عسكرية ضد حزب الله ولبنان.
هذا السيناريو كان الأخطر الذي أرد الجميع الابتعاد عنه، لكن لغة الواقع ومعركة الحقوق والسيادة اللبنانية على غازها وحقولها وثرواتها المائية، قد تفرض معادلة جديدة، قد يكون عنوانها “الحرب” في ظل تمسك إسرائيل بممارسات القمعية والخبيثة في سرقة الحقوق والموارد الفلسطينية والعربية دون وجه حق.
الخيار العسكري بدأ يلوح حين أوعز أمس وزير الجيش الإسرائيلي، بيني غانتس، للجيش بالاستعداد لتصعيد محتمل مقابل لبنان، بعدما أعلنت إسرائيل رفضها لملاحظات قدمتها لبنان لمسودة اتفاق ترسيم الحدود، وكذلك استعداد لبدء إسرائيل باستخراج الغاز من منصة “كاريش” من دون علاقة باتفاق ترسيم الحدود.
وكان أمين عام حزب الله، حسن نصر الله، قد أعلن مؤخرا أنه ليس بإمكان إسرائيل استخراج الغاز من البحر المتوسط فيما يُحرم لبنان من ذلك، بسبب عدم التوصل لاتفاق ترسيم حدود بحرية.
خيار الحرب
وأعلنت الرئاسة اللبنانية، أن ملاحظات بيروت على مسودة اتفاق لترسيم الحدود تضمن حقوق لبنان في التنقيب عن النفط والغاز الطبيعي، وفي إسرائيل، قال مصدر سياسي رفيع إن احتمال التوقيع على الاتفاق قبل انتخابات الكنيست، مطلع تشرين الثاني/نوفمبر المقبل، هو احتمال ضئيل.
وجاء ذلك في بيان للرئاسة عقب اجتماع الرئيس اللبناني، ميشال عون، في قصر بعبدا في بيروت، مع وزير الدفاع، موريس سليم.
ووفقا لبيان صادر عن الرئاسة اللبنانية، فإن اجتماعا عقده عون مع وزير الدفاع، موريس سليم، تناول “آخر المعطيات المتصلة بالمفاوضات الجارية لترسيم الحدود البحرية الجنوبية في ضوء الملاحظات التي وضعها الجانب اللبناني على العرض الذي قدمه الوسيط الأميركي، آموس هوكستين”.
وأضاف البيان أن “هذه الملاحظات تضمن حقوق لبنان في التنقيب عن النفط والغاز في الحقول المحددة في المنطقة الاقتصادية الخالصة”، لافتا إلى أن “الملاحظات تمنع أي تفسيرات لا تنطبق على الإطار الذي حدده لبنان لعملية الترسيم خلال المفاوضات التي استمرت أشهرا”.
وبحسب المصدر الإسرائيلي، فإنه “عندما تلقت إسرائيل مسودة الاتفاق، أبلغت هوكستين بأنها موافقة، وأوضحت إسرائيل أنه إذا قدم اللبنانيون ملاحظات جوهرية فلن نتمكن من التوصل لاتفاق.
وعلم هوكستين بذلك مسبقا، كما أن اللبنانيين علموا مسبقا بموقف إسرائيل. واعتقدوا في إسرائيل أن الاتفاق جلب أمورا جيدة جدا لإسرائيل وأنه يستجيب لكافة مطالبها الأمنية والاقتصادية”.
وتخشى إسرائيل من حدوث تصعيد محتمل على الجبهة الشمالية مع حزب الله بعد فشل مفاوضات ترسيم الحدود، وأفاد مراسل الصحيفة يوآف زيتون أنه تقرر إجراء استعدادات في ذراع الجو وذراع البحر وذراع البر على الجبهة الشمالية.
وأشارت القناة 14 العبرية إلى أن حالة من الخوف والصدمة انتابت المستوطنين في المناطق الشمالية عقب تصريح غانتس بالاستعداد لاحتمال اندلاع تصعيد مع لبنان.
وقال كبير المفاوضين اللبنانيين إلياس بو صعب، الخميس، إن صفقة الحدود البحرية المقترحة مع إسرائيل في “مرحلة الصنع أو الانهيار”، مضيفًا أن الصفقة “تمت 90٪ لكن الـ 10٪ المتبقية يمكن أن تنجزها أو تنهيها”.
وكان بوصعب، قد قال قبل يومين: إن لبنان لن يقدم موقفه النهائي قبل الحصول على رد من الوسيط الأميركي على الملاحظات، مؤكدًا أنهم سيحصلون على كامل حقوقهم من حقل قانا بموجب العرض الأميركي.
وسبق أن صرّح الرئيس اللبناني ميشال عون بأنه سيحدد موقف بلاده من مضمون العرض الأميركي لترسيم الحدود البحرية مع إسرائيل، بالتشاور مع كل من رئيسي البرلمان وحكومة تصريف الأعمال، وعلى ضوء ملاحظات اللجنة الفنية المشكّلة لهذه الغاية.
كما أكد عون أنه لن تكون هناك أية شراكة مع إسرائيل في عمليات التنقيب بحقول النفط الجنوبية، مشددًا على ضمان حقوق لبنان في مياهه، وتوفير الظروف الملائمة لبدء عمليات التنقيب في المنطقة الاقتصادية اللبنانية الخالصة.
وقال رئيس الوزراء اللبناني نجيب ميقاتي، الخميس، إن اتفاق ترسيم الحدود البحرية مع إسرائيل “له أهمية استراتيجية لأنه سيمنع اندلاع حرب إقليمية”.
سبب الرفض الإسرائيلي
ونقل موقع “أكسيوس” الأميركي عن مسؤولين إسرائيليين، لم يكشف عن هويتهم، قولهم إن هوكشتين أطلع مستشار الأمن القومي الإسرائيلي إيال حولاتا مساء الأربعاء، على الملاحظات اللبنانية بشكل مفصل، وأوضح 3 مسؤولين إسرائيليين أن من أهم أسباب رفض إسرائيل لملاحظات اللبنانيين، مطالبتهم بتغييرات تتعلق بـ”خط العوامات”، الذي تعتبره إسرائيل حدوداً دولية.
وكانت إسرائيل قامت بتثبيت خط العوامات، الذي يبلغ طوله 3 أميال ويمتد من ساحل رأس الناقورة إلى البحر الأبيض المتوسط، بعد انسحابها أحادي الجانب من لبنان في عام 2000.
وقال المسؤولون الإسرائيليون إن الاعتراف بـ “خط العوامات” يعد مصلحة أمنية ومطلباً إسرائيلياً رئيسياً في المحادثات، مشددين على أن تثبيت هذا الخط أمر مهم للغاية بالنسبة لتل أبيب لأسباب أمنية، وأضافوا “الجيش الإسرائيلي عمل على طول هذا الخط من جانب واحد على مدى السنوات العشرين الماضية، وكان للبنان شرعية دولية للاعتراض عليه”.
ورأى مسؤولون إسرائيليون أن “تحريك خط العوامات باتجاه الجنوب سيؤدي إلى خلق خط رؤية من الجانب اللبناني على الساحل الشمالي لإسرائيل”.
وقال هوكشتين لقادة لبنانيين، بحسب المسؤولين الإسرائيليين، إن “إسرائيل مستعدة للتنازل عن أشياء كثيرة، لكن ليس عن موقع خط العوامات، الذي سيتحول إلى حدود دولية متفق عليها بين البلدين”.
ووفقاً لما نقله الموقع الأميركي عن مسؤولين إسرائيليين وتقارير صحافية لبنانية، أكدت بيروت في ملاحظاتها على مسودة الاتفاق أنها “لن تعترف” بخط العوامات أو شرعيته.
وقال المسؤولون الإسرائيليون إن المسؤولين في بيروت طالبوا باستبدال عبارة “الوضع الراهن” في السياق المتعلق بخط العوامات في المسودة بعبارة “الأمر الواقع”، وهو ما قالت إسرائيل إنه سيؤدي لإضعاف الاتفاق من الناحية القانونية، ويفتح الباب أمام الادعاءات اللبنانية بشأن “خط العوامات” في المستقبل.
ونقلت صحيفة “يديعوت أحرونوت” العبرية، عن مسؤول إسرائيلي قوله في هذه النقطة إن إسرائيل أرادت أن يكون التعريف الوارد في الاتفاقية هو أن خط العوامات هو الوضع الراهن الذي يعهد به للأمم المتحدة، ويتضمن نهاية المطالبات (نهاية النزاع)، ليكون بمثابة حدود برية إقليمية.
في المقابل، أراد اللبنانيون وضع تعريف قانوني لخط العوامات وتسميته “خط الأمر الواقع”، ما يعني أن هذه ليست نهاية الصراع، وأن هذا الأمر يمكن أن يصبح لاحقاً محوراً للجدل. علماً أن إسرائيل لم تكن مستعدة للتنازل عن الخط المذكور بأي شكل من الأشكال، بحسب المسؤول الإسرائيلي.
وأوضح مسؤولون إسرائيليون أن السبب الثاني المهم وراء رفض إسرائيل للملاحظات اللبنانية، يكمن في أن لبنان رفض أيضاً بنداً في مسودة الاتفاق يمنح اسرائيل “حق النقض” بشأن بدء التنقيب عن الغاز في المنطقة المتنازع عليها، وهو ما كان مطلباً إسرائيلياً رئيسياً، للتأكد من حصول تل أبيب على حقوقها الاقتصادية.
ويرى مسؤولون إسرائيليون أن هذه الأزمة الأخيرة التي شهدتها المحادثات تجعل من المستبعد للغاية أن يتم التوصل إلى اتفاق قبل الانتخابات الإسرائيلية المقررة في الأول من نوفمبر.
وأشار موقع “أكسيوس” إلى وجود مخاوف من أن هذه الأزمة الكبيرة في المفاوضات قد تؤدي إلى تصعيد عسكري بين إسرائيل وحزب الله، الذي يهدد بالحرب في حال لم يتم احترام الحقوق الاقتصادية للبنان.
وانطلقت المفاوضات بين لبنان وإسرائيل في العام 2020، ثم توقفت في مايو/ايار 2021 جراء خلافات حول مساحة المنطقة المتنازع عليها بعد مطالبة بيروت بتعديل الخريطة التي استخدمتها الأمم المتحدة خلال المحادثات وقال إنها استندت إلى تقديرات خاطئة.
وكان من المفترض أن تقتصر المحادثات بين الجانبين لدى انطلاقها على مساحة بحرية تقدّر بنحو 860 كيلومترا مربعا تُعرف حدودها بالخط 23، بناء على خريطة أرسلها لبنان عام 2011 إلى الأمم المتحدة.
لكن لبنان اعتبر لاحقا أن الخريطة استندت إلى تقديرات خاطئة وطالب بالبحث في مساحة 1430 كيلومترا مربعا إضافية تشمل أجزاء من حقل “كاريش” وتُعرف بالخط 29.
وتسارعت منذ مطلع يونيو/حزيران التطورات المرتبطة بالملف بعد توقف لأشهر، إثر وصول سفينة إنتاج وتخزين على مقربة من حقل كاريش تمهيدا لبدء استخراج الغاز منه. وتعتبر بيروت أن الحقل يقع في منطقة متنازع عليها، في حين تقول إسرائيل إنه ضمن منطقتها الاقتصادية الخالصة.
وبالنسبة لإسرائيل فإن المقترح الأميركي يمنحها السيطرة الكاملة على حقل “كاريش” الذي أكد لبيد وقوعه بالكامل داخل الحدود الإسرائيلية وأنه لم يكن أبدا جزءا من المفاوضات.
وأكد المسؤول الإسرائيلي أن إسرائيل لا تتفاوض مع لبنان حول كاريش و”ستنتج الغاز من الحقل في أقرب وقت ممكن”.
وكان حزب الله وجه سلسلة تهديدات إلى إسرائيل، محذرا إياها من الإقدام على أي نشاط في كاريش قبل التوصل إلى اتفاق على ترسيم الحدود البحرية.
ووفقا للمسؤول فإنه في حال “حاول حزب الله أو أي جهة ثانية الإضرار بحقل كاريش أو تهديدنا فإن المفاوضات ستتوقف على الفور وسيتعين على حسن نصرالله أن يشرح للمواطنين اللبنانيين سبب عدم توافر الغاز لديهم”، مضيفا “التنقيب لمصلحة مستقبلهم (اللبنانيين) الاقتصادية”.
المصدر: رأي اليوم