يعود المسجد الأقصى على بقعة الضوء مع تتالي التحذيرات من مخططات إسرائيلية ويهودية تستهدفه بأبعاد عقائدية، بل تستهدف وجوده برمته.
وتأخذ هذه المخططات طابعًا رسميا يتمثل في عمل المؤسسات التابعة لجماعات الهيكل بحماية من شرطة الاحتلال والحكومة، من أجل تنفيذ الفعاليات داخل ساحات المسجد الأقصى، خصوصًا أوقات الأعياد والمناسبات اليهودية.
ووصلت هذه المخططات إلى مستويات خطيرة جدًّا، تهدف إلى تهويد الأقصى من خلال 3 مسارات، أولها عزل المسجد عن محيطه من خلال الحفريات التهويدية في ساحة البراق، والتي انتقلت إلى الجهة الغربية، وأحدثت عدة اختراقات في جداره.
ومسار ثانٍ تمثّلَ في تهديد المباني الإسلامية، كما جرى في مدرسة سلوان التي انهار أحد الصفوف فيها عام 2007، وهبوط درج دائرة الأوقاف الذي عرضه 3 أمتار وطوله 10 أمتار، إلى جانب التشقّقات في مُصلّيات الأقصى.
أما المسار الثالث فعبر شرعنة للخطط التهويدية، وتقديمها من قبل الاحتلال على أنها قضايا علمية يقودها جنرالات عسكريون يهدفون إلى إزاحة الوجود الإسلامي، من خلال التدمير الجزئي للأقصى ومعالمه الإسلامية.
وإلى جانب هذه المخططات، سمح الاحتلال مؤخرًا بدخول عارضات أزياء بملابس لا تليق بحرمة المجسد، إلى جانب سماحه لبعض المتطرفين اليهود بارتداء الملابس التلمودية داخل ساحات الأقصى، وأداء صلوات بحماية من شرطة الاحتلال.
وشهدَ شهر أغسطس/ آب خطوة إسرائيلية جديدة، سُمح خلالها لمئات المستوطنين باقتحام المسجد من باب المغاربة، بحماية مشددة من شرطة الاحتلال التي سمحت لبعضهم باقتحام ساحات الأقصى والخروج منه عبر باب الأسباط، وذلك لأول مرة منذ الاحتلال الإسرائيلي لمدينة القدس عام 1967.
ومنذ احتلال مدينة القدس، تسيطر سلطات الاحتلال على مفاتيح باب المغاربة، ومن خلاله تنفَّذ الاقتحامات اليومية للمستوطنين، ولا يسمح للمسلمين بالدخول منه إلى المسجد الأقصى، إذ اُعتبرت هذه الخطوة تغيّرًا في "الوضع الراهن" (الستاتيكو).
"الوضع الراهن" (الستاتيكو) هو الوضع الذي ساد بالأماكن المقدسة الإسلامية والمسيحية أثناء الفترة العثمانية، واستمرَّ خلال فترة الانتداب البريطاني لفلسطين والحكم الأردني، وحتى ما بعد الاحتلال الإسرائيلي للقدس عام 1967، ويقوم هذا القانون على تثبيت حقوق كل طائفة وجماعة دينية كانت موجودة في المدينة دون السماح بإحداث تغيير لما كان عليه الوضع منذ أغسطس/ آب 1852.
قراءة في السلوك الإسرائيلي بالأقصى
يرى الباحث المختص في شؤون القدس، زياد إبحيص، أن الاحتلال لديه مشروع إحلال ديني في المسجد الأقصى يستهدف إزالته من الوجود ووضع "الهيكل" مكانه، وهو الأمر الذي تظهره جميع تصورات ورسومات الهيكل التي تمتلكها جماعات الهيكل وخطابها الديني.
ويضيف إبحيص لـ"نون بوست" أن الاحتلال من أجل ذلك يعمل على 3 خطط مرحلية، وُضعت بهدف تقريبه إلى الهدف النهائي المتمثل في الإحلال الديني، وهو ما يعبّر عنه في التقسيم الزماني والمكاني وفرض الطقوس التوراتية في الأقصى.
وعن السلوك الصهيوني داخل الأقصى، يذكر الباحث في شؤون القدس أن فكرة بناء الهيكل آخذة بالتصاعد، ففي السابق كان يتبنى هذه الفكرة حزبين في دولة الاحتلال هما الليكود والبيت اليهودي، لكن الفترة الأخيرة باتت جماعات الهيكل عابرة للكتل السياسية جميعها، وبالتالي فإن فكرة تهويد الأقصى ستظل قائمة سواء حكم معسكر اليمين في الاحتلال أو حكمت الأحزاب التي توصف بـ "اليسار".
وعن الناحية التطبيقية، فقد كان هناك تدرُّج في خطط تهويد المسجد، بداية من التقسيم الزماني والمكاني للمسجد كون هذه الترتيبات تفرض حالة التساوي في استخدام المسجد، وهو ما وصل إلى مرحلة معينة دون نتائج، وفقًا لإبحيص.
ويردف قائلًا: "هذا الأمر كان سائدًا حتى عام 2015، لكن كان المطلوب بالنسبة إلى اليهود وجماعات الهيكل حينما يدخلون للمسجد ألا يكون المسلمون معهم، وهو الأمر الذي فشل ولم يتمكّنوا من فرضه، وإن كانوا فرضوا أوقات دخول صباحية ومسائية وتضييق على الحضور الإسلامي خلال الاقتحامات".
ونتيجة للفشل، انتقل المستوطنون نحو التقسيم المكاني عبر استهداف الساحة الشرقية للمسجد ومصلّى باب الرحمة، إلى أن جاءت هبّة "باب الرحمة" عام 2019، ونتيجة لها توقفت هذه الخطة وبالتالي فإن التقسيم المكاني تعثّر هو الآخر.
وفي أعقاب هذا الفشل، يوضّح الباحث في شؤون القدس إبحيص أن جماعات الهيكل بلورت هدفًا مرحليًّا جديدًا بالتعاون مع الأحزاب اليمينية الحاكمة، يتمثل في فرض الطقوس التوراتية داخل المسجد الأقصى والتعامل معه على أنه هيكل قائم.
ويشير إلى أن الأجندة الحالية تشهد قفزًا للأمام من قبل الاحتلال بعد الفشل في فرض التقسيم الزماني والمكاني، من خلال نفي فكرة المسجد والتعامل معه على أنه هيكل بحيث تفرَض فيه الطقوس المفروضة في التوراة والمتعلقة بالهيكل.
ويستكمل إبحيص: "بعض الطقوس مثل السجود الملحمي مندثرة من التوراة، وغير مسموح بأدائها إلا على القماش في حالة عدم وجود الهيكل، لكنهم حاليًّا يسجدون على الحجارة من أجل القول إن الأقصى هو الهيكل".
ومن بين الأشياء التي عمل الاحتلال على إحيائها هي طبقة الكهنة، التي في الأساس التوراتي لليهود لا وجود لها إلا في وجود الهيكل، إلى جانب إحياء الملابس البيضاء الخاصة بالكهنة، وبالتالي يريد أن يساوي بين الكهنة وأئمة المسجد الأقصى، بحسب الباحث في شؤون القدس.
ويستكمل قائلًا: "يحيي الاحتلال فكرة القربان النباتي والحيواني، من خلال محاولة إدخال القرابين إلى المسجد ومحاكاة وجود الهيكل، ويريد أن ينفخ البوق في الأقصى، وهذا التغيير المهم في السلوك من التقاسم على الأطراف إلى مرحلة التأسيس المعنوي للهيكل".
التعرّي في الأقصى.. أهداف وأبعاد
مع قيام الاحتلال مؤخرًا بالسماح بالتعرّي داخل الأقصى لبعض عارضات الأزياء اليهوديات من حملة الجنسيات الأوروبية، أو حتى بعض المستوطِنات، برزت عدة تساؤلات عن دوافع وأهداف الاحتلال من وراء ذلك.
ويرى زياد إبحيص في هذا أنه يستهدف نزع قدسية الأقصى، إذ إنه يريد القول إن المكان الإسلامي يتمثل في المسجد القبلي وقبّة الصخرة كمبانٍ فقط، أما بقية الأماكن مثل ساحات المسجد وصحن المسجد يهدف الاحتلال إلى جعلها ذات قدسية يهودية.
ويعتبر إبحيص أن ما جرى خطير يستهدف التأسيس لفكرة عالمية، بحيث يجعل الاحتلال الساحات وبقية مناطق المسجد البعيدة عن المباني مستباحة للجميع، وجعل هذه الفكرة مقبولة من قبل الزوّار، وبالتالي يريد نزع قدسية المسجد عن بقية المناطق.
وتبلغ مساحة المسجد الأقصى المبارك 144 دونمًا، فيما تشكّل مساحة المباني فيه ما لا يتجاوز الـ 10 دونمات، وبالتالي إن الاحتلال بهذه السياسات التي تستهدف الساحات، يريد أن يأخذ مساحة تقترب من 95% من المساحة الإجمالية.
ويعتبر إبحيص أن دخول السياح بهذه الطريقة وبهذا العري، يستهدف إضفاء ثقافة أن الساحات هي مناطق عامة وليست جزءًا من المسجد الأقصى، وهو أمر دعمته اتفاقيات التطبيع "أبراهام" التي قالت بالنصّ إن المقدس الإسلامي هو الأقصى وليس الحرم الشريف، وهو شكل لإضفاء شرعية عربية على هذا الأمر.
تسارُع الخطى منذ سيف القدس
منذ نهاية معركة سيف القدس في مايو/ أيار 2021، يعمل الاحتلال على تمرير خطه في الأقصى من خلال فرض إجراءات أمر الواقع، والعمل الصامت على الأرض دون جلبة بهدف إنجاح مخططاته التي سبق أن فشل بها.
ورغم أن المقاومة اكتفت خلال الفترة الأخيرة بالرسائل عبر الوساطات المختلفة، إلا أن السلوك الإسرائيلي المتسارع قد يدفع نحو مواجهة جديدة بين المقاومة والاحتلال، للتصدّي لما يجري في القدس والمسجد الأقصى.
في سياق متصل، يؤكد مسؤول مكتب القدس وعضو المكتب السياسي لحركة حماس، هارون ناصر الدين، أن الاحتلال يقوم بمحاولات لفرض وقائع جديدة في الفترة الأخيرة على المسجد، مثل نفخ البوق وزيادة الاقتحامات وعدد المقتحمين.
ويقول ناصر الدين في حديثه لـ"نون بوست"، إن محاولات هدم الأقصى ليست تهديدًا إنما هناك خطوات عملية يقوم بها الاحتلال ومستوطنيه، من خلال الأنفاق التي يتمّ حفرها تحت الأقصى والتي تهدّد أساسات المسجد بشكل جدّي.
ووفقًا للقيادي في حركة حماس، فإن الاقتحامات المنوي تنفيذها في فترة شهرَي سبتمبر/ أيلول الجاري وأكتوبر/ تشرين الأول المقبل 2022، ستكون الأخطر، لأن منظمة "أمناء جبل الهيكل" والمستوطنين يحشدان لها منذ شهور، وسيقومان بتسيير حافلات مجانية من كل فلسطين المحتلة لزيادة حجم الاقتحامات.
وعن دور المقاومة في غزة، يشدّد ناصر الدين قائلًا: "المقاومة تتابع كل ما يجري في الأقصى والقدس وفلسطين، وكما رفعَت سيف القدس ضد الاحتلال، فهي قادرة على رفعه في كل مرة لحماية الفلسطينيين والأقصى".
إذًا، يعكس ما يحصل حاليًّا في الأقصى تسارُع الخطوات الإسرائيلية التي تستهدف إضفاء الطابع اليهودي بإجراءات بديلة عن الخطط القديمة، مع استغلال الظرف السياسي القائم وحالة التطبيع مع الدول العربية والإسلامية.
ومن غير المستبعَد أن تساهم هذه الإجراءات والخطوات في إشعال هبّة جماهيرية جديدة لا تتوقف عند انتفاضة أو غضب فلسطيني، بل تمتدّ إلى مواجهة جديدة مع المقاومة في غزة، وتنفيذ عمليات عبر المقاومين في الضفة داخل عمق الاحتلال.
المصدر: نون بوست