مع كل استحقاق إنتخابي، يلجأ الإسرائيليون لا سيما من هم في السلطة للبحث عن مقومات لتعزيز حظوظهم الإنتخابية. كرّس بنيامين نتنياهو هذه القاعدة منذ سنوات، فعلى مدى أكثر من استحقاق انتخابي ولدى اقترابه، كان يلجأ الإسرائيليون إلى افتعال مشكلة مع غزة تقود إلى اشتباكات لبضعة أيام، في محاولة لرفع المنسوب العسكري على حساب الصراعات السياسية الداخلية بين أحزاب وأركان الكيان. لا يكف الإسرائيليون عن البحث عن أسباب للتهرب من مواجهة استحقاقات أساسية. يعملون دوماً على محاولة تكريس فصل بين الفصائل الفلسطينية في قطاع غزّة. فمثلاً خلال معركة سيف القدس تركزت المواجهة مع "حركة حماس"، فيما تم تحييد "حركة الجهاد الإسلامي". في المعركة الحالية يعمل الإسرائيليون على الفصل بين "حركة الجهاد" و"حركة حماس".
أثر معنوي فقط
ما يتضح من خلال هذا التكتيك، هو محاولة إسرائيلية لتكريس الفصل بين الحلفاء، كنوع من الردّ على معادلة رفعها "حزب الله" ومن خلفه إيران قبل فترة، وهي توحيد الجبهات واتصالها ببعضها بعضاَ. فخلال معركة سيف القدس كان من المعروف وجود غرفة عمليات عسكرية وإستخبارية موحدة تجمع كل الحلفاء في محور المقاومة مع بعضهم البعض، إلا أن التأثير العملياتي قد غاب عن هذه الغرفة، باستثناء ما اعلنه امين عام "حزب الله" السيد حسن نصرالله قبل أيام عن تقديم معلومات استخبارية لـ"حماس" حول تحضير الإسرائيليين لاستهداف موقع محدد وشخصيات معينة فأمكن تجنّب هذه الضربة وإفشالها. وبالتالي، فإن التنسيق الامني والإستخباري قائم بالإضافة إلى التنسيق العسكري غير العملياتي، والمقصود هنا هو عدم انخراط أي طرف من أطراف محور المقاومة في المعركة عسكرياً. أقصى ما كان يمكن أن يجري هو إطلاق بضعة صواريخ من مناطق مفتوحة في الجنوب اللبناني باتجاه مناطق مفتوحة في الداخل المحتل لا يكون لها أثر غير الأثر المعنوي والسياسي.
جبهات غير موحدة
يسعى الإسرائيليون إلى تفكيك هذه المعادلة دوماً، بالقول إن الجبهات غير موحدة. وبالتالي عندما ينخرط جيش الإحتلال في معركة على جبهة، لا يكون هناك انخراط من قبل الجبهات الأخرى، فهذا ما يحصل في توجيه ضربات لمواقع "حزب الله" والإيرانيين في سوريا، وهو ما يحصل خلال اندلاع معارك مع غزة. جزء من هذه المعارك أيضاً تندرج في سياق جس النبض واكتشاف مدى قدرة الأطراف في الإنخراط بأي معركة بشكل متزامن علماً أن الإسرائيليين يستغلون ظروفاً مختلفة لا تتيح للآخرين المسارعة والإنخراط في العمل العسكري.
الحاجة للإنجاز
يحتاج الإسرائيليون أيضاً إلى أي عملية امنية أو عسكرية ينسبون لأنفسهم فيها الإنجاز لاستثماره في الإنتخابات. هذه مستمدة من تجارب ثلاثة رؤساء في الولايات المتحدة الأميركية، بدءاً من باراك أوباما الذي عزز ولايته الرئاسية باغتيال أسامة بن لادن، واستكملها دونالد ترامب قبل أشهر من الإنتخابات باستهداف أمير تنظيم داعش البغدادي، وأرفدها باغتياله لقائد فيلق القدس قاسم سليماني. جو بايدن سار على نفس النهج أيضاً، من خلال اغتيال أمير تنظيم القاعدة أيمن الظواهري. بالإستناد إلى هذه التجربة عمل الإسرائيليون على اغتيال المسؤول العسكري في سرايا القدس تيسير الجعبري.
هروب من استحقاقات
يحاول الإسرائيليون من خلال هذه المعركة الهروب من استحقاقات متعددة، أولاً تجنب أي تصعيد مع أطراف أخرى، ثانياً جعل التوتر عنصراً مقرراً في الداخل الإسرائيلي انتخابياً، وثالثاً يشكل نقطة تأجيل لإنهاء ملف ترسيم الحدود والبت به إلى ما بعد البحث في التهدئة بغزة وإلى ما بعد إنجاز انتخابات الكنيست. تدفع المعركة أركان محور المقاومة إلى الإستنفار وإعلان مواقف التضامن مع غزة وفصائلها، وصولاً إلى مواقف "حزب الله" الواضحة بأنه في حال طال أمد المعركة فإنه قد يجد نفسه مضطراً للتدخل، ما يفترض التوصل إلى صيغة لإنهاء المعارك. كل هذه الوقائع تشير إليها غالبية المعارك التي اندلعت في الفترة الأخيرة بين الإسرائيليين وفصائل المقاومة في غزّة، هذا كله يأتي بخلاف ما حصل في العام 2006 إذ شن الإسرائيليون حرباً عنيفة في القطاع، وبعدها جاءت حرب تموز. هذه الوقائع تختلف عن الوضع الحالي، بخلاف ما يحاول البعض الإيحاء بأن معركة غزة قد تكون مقدمة لمعركة أخرى على الجبهة الشمالية.