حين يقع العدوان على قطاع غزة المحاصر، سرعان ما تصوَّب صواريخ المقاومة الفلسطينية تجاه "غلاف غزة"، هذه المنطقة التي يردَّد اسمها طيلة مدة المواجهة عبر وسائل الاعلام، فهي هدف عسكري يحدِّد قوة تلك الصواريخ والمدى الذي تصله وتأثيرها في النطاق. فماذا يقصد بهذه التسمية؟
عقب الانسحاب الإسرائيلي من قطاع غزة في 12 سبتمبر/ أيلول 2005، أنشأ الاحتلال "منطقة عازلة" على طول الحدود البرّية، وبقيت عشرات المستوطنات القريبة من القطاع التي يطلق عليها الآن غلاف غزة، ويبلغ عددها نحو 50 مستوطنة، وتقع في مسافة تبلغ نحو 40 كيلومترًا في محيط القطاع.
وأقام الاحتلال هذه المستوطنات في منطقة "غلاف غزة" بشكل متعمَّد لعدة أسباب، منها أن تكون عقبة في إقامة الدولة الفلسطينية، بحيث إذا أصبحت غزة والضفة الغربية تحت حكم واحد، ستقوم دولة فلسطينية ستخلق الكثير من المشكلات الأمنية لـ"إسرائيل"، لذا تستخدم الأخيرة تلك المستوطنات كأدوات لتحقيق سياستها الأمنية.
كما يعدّ "غلاف غزة" بمثابة جدار فصل صهيوني بأدوات ديموغرافية واستيطانية، مدعّمة بجدران أسمنتية من عدة طبقات أسفل الأرض على طول الحدود البرّية، لمنع وصول أنفاق المقاومة إلى البلدات والمعسكرات الإسرائيلية المحاذية.
ورغم أن "إسرائيل" تقدِّم بعض الامتيازات لتشجيع المستوطنين العيش في مستوطنات "غلاف غزة"، إلا أن هناك عزوفًا كبيرًا لديهم خشية صواريخ المقاومة وإهمال الحكومات الإسرائيلية لهم، ما عدا فترة الانتخابات والعدوان على قطاع غزة تتسابق الحكومات في تقديم المغريات لهم من أجل البقاء.
يرصد "نون بوست" في هذا التقرير طبيعة العيش في منطقة "غلاف غزة"، وانتقال الإسرائيليين من المدن إلى تلك المستوطنات، إلى جانب تسليط الضوء على أبرز الامتيازات التي تقدمها الحكومة الإسرائيلية مقابل السكن فيه، بالإضافة إلى تركيبتهم الاجتماعية والوظائف التي يعملون بها.
"غلاف غزة" والغيتوهات الاستيطانية
بداية، جاءت التسمية نظرًا إلى القدرة الصاروخية المحدودة للمقاومة في ذلك الوقت، إذ كان مداها لا يتعدّى هذا الغلاف البالغ 40 كيلومترًا على حدود غزة.
ويتكوّن هذا الغلاف من 3 مجالس إقليمية تابعة للحكومة الإسرائيلية، وهي "مجلس أشكول" يمتدّ على مساحة 380 كيلومترًا مربعًا، ويسكنه أكثر من 13 ألف مستوطن، يعيشون في 32 مستوطنة.
والثاني "مجلس أشكلون" يقع على مساحة 175 كيلومترًا مربعًا، ويعيش فيه حوالي 17 ألف إسرائيلي في 4 مستوطنات؛ والثالث "مجلس شاعر هنيغف" يمتدّ على مساحة 180 كيلومترًا مربعًا، وفيه 11 مستوطنة يعيش فيها أكثر من 7 آلاف مستوطن.
وارتفع عدد المستوطنين في "غلاف غزة" من نحو 42 ألفًا عام 2009 إلى حوالي 55 ألفًا عام 2019، بزيادة قدرها 30.6%، بحسب تقرير لموقع "غلوبس" الاقتصادي العبري في مايو/ أيار الماضي.
والباحث في الطبيعة التركيبية لسكان مستوطنات "غلاف غزة"، يجد أنهم عبارة عن كتلة سكانية معظمهم يتبع اليمين المتطرف، وهم من اليهود الشرقيين الذين يُنظر إليهم داخل المجتمع الإسرائيلي بعنصرية، إذ تعمل حكومة الاحتلال على نقلهم لتجنُّب المشاكل المجتمعية.
وبسبب صعوبة اندماجهم داخل عدة مدن وتجمعات السكانية يغلب عليها الأشكناز، باتت مستوطنات "غلاف غزة" بمثابة غيتو يستوعبهم، وهي تسمية كانت تُطلق على الأحياء اليهودية المنعزلة في المدن الأوروبية في القرن الـ 19.
وبقدر ما تشكّل الغيتوهات الاستيطانية في "غلاف غزة" طريقة لزرع يهود السفارديم والفلاشا المنبوذين من محيطهم على حدود الأراضي المحتلة، فإنها باتت بمثابة الخاصرة الرخوة لكيان الاحتلال، بعد أن أضحت هدفًا سهلًا لصواريخ المقاومة بحكم قرب مداها الجغرافي، ما جعل سكان تلك المناطق يعيشون على وقع حالة من التأهُّب المستمر والخوف المتواصل من دوي صفارات الإنذار، التي تفرض عليهم ملازمة الملاجئ فرارًا من رشقات فصائل المقاومة.
طبيعة عمل سكان غلاف غزة ودعم الحكومة
ولأن منطقة الغلاف في حالة طوارئ شبه مستمرة، ويعاني سكانه من عدم الاستقرار، يقوم الصندوق القومي اليهودي بحملات جمع تبرعات باستمرار لدعمهم.
أما عن طبيعة عمل السكان هناك، يقول سعيد بشارات، المختص في الشأن الإسرائيلي، إنها تتمثل بالزراعة نظرًا إلى المساحات الواسعة وبعض الأعمال البسيطة، لافتًا إلى أنه حين إلحاقهم بالجيش يتمّ استيعابهم في المدرّعات بعيدًا عن الأقسام التكنولوجية والهامة.
ويذكر بشارات لـ"نون بوست" أن طبيعة الخدمات الحياتية لسكان "غلاف غزة" ليست بأهمية المدن الإسرائيلية، حيث لا يوجد حراسات على مستوطنات غلاف غزة.
وتطرّق إلى أن من أبرز الامتيازات التي تقدّمها الحكومة الإسرائيلية لمن يودّ السكن في مستوطنات "غلاف غزة"، تخفيض سعر استئجار الأراضي التي ستقام عليها مشاريع زراعية أو استثمارية خاصة في مستوطنة العين الثالثة، بسب رغبتهم في إعمار المنطقة لذا يبحثون عن متطوعين قوميين للسكن فيها.
وكعادة الاحتلال، بعد كل مواجهة مع قطاع غزة، يكون هناك وعود لمستوطني "غلاف غزة" بتحسين أوضاعهم ضمن خطة حكومية تشمل استثمارات واسعة في النمو السكاني، وتطوير التكنولوجيا الفائقة والزراعة الذكية والبنية التحتية والتوظيف.
كما تكشف أبحاث ودراسات اجتماعية وسياسية صادرة عن الاحتلال، أن تشجيع الحكومة الإسرائيلية على الاستيطان في "غلاف غزة" الجغرافي يحقق لها عدة أهداف بالجملة، حيث فضلًا عن تعزيز الجدار الديموغرافي الذي يعزل القطاع، فإن تلك المستوطنات تمثل مجالًا لإعادة توطين السفارديم اليهود المنحدرين من أصول شرقية، والفلاشا وهم يهود أثيوبيا، والذين يواجهون عنصرية شديدة ومتصاعدة من الأشكناز المنحدرين من أصول أوروبية وغربية.
الوضع الأمني للغلاف بعد تطور صواريخ المقاومة
وعلى ما يبدو، فإن الوضع الأمني في مستوطنات "غلاف غزة" في أسوأ أوقاته، ويرجع ذلك لعدة أسباب، منها:
- تطور منظومة الصواريخ لدى فصائل المقاومة في قطاع غزة المحاصر، الأمر الذي يمطر تلك المستوطنات عند أي مواجهة بعشرات الصواريخ التي تحدث ضررًا في منازلهم، وتصيب العشرات منهم بجروح وحالات من الهلع.
- التهديدات التي تطلقها فصائل المقاومة من حين إلى آخر، تعلن فيها استعدادها ضرب المستوطنات بآلاف الصواريخ البعيدة المدى وذات المفعول القوي، وهو ما شكّل حالة من الخوف ودفع للهجرة.
كما أن معاناة المستوطنين في الغلاف وقت مسيرات العودة عام 2018، بفعل الأدوات الشعبية الخشنة التي استخدمها بعض المشاركين في تلك الفعاليات، من بالونات حارقة وأطباق ورقية أدّت إلى إحراق مئات الدونمات الزراعية وحدائق بعض المستوطنين، ما دفع عددًا من سكان "غلاف غزة" إلى تغيير أماكن سكناهم، رغم محاولات الحكومة آنذاك من تقديم تعويضات وإغراءات مادية للبقاء.
وتجدر الإشارة إلى أنه مطلع العام الجاري، وتحديدًا في فبراير/ شباط 2022، خصّص بيني غانتس، وزير الحرب الإسرائيلي، مبلغًا قدره 57 مليون شيكل لحماية منازل المستوطنين في "غلاف غزة"، وخاصة مستوطنة سديروت، وذلك على خلفية نجاح شظية صاروخ للمقاومة باختراق سمك نافذة شقة سكنية خلال العدوان الأخير على غزة، ما أدّى إلى مقتل مستوطن.
ورغم مساعي حكومة الاحتلال الإسرائيلي لتقديم مزيد من الامتيازات والإغراءات لمستوطني "غلاف غزة" من أجل البقاء، إلا أن معظمهم يحاولون الفرار إلى المدن المركزية كتل أبيب، أو محاولة الانخراط في ميليشيات تتبع مستوطني الضفة والقدس، بعيدًا عن منطقة "غلاف غزة" المهددة دومًا بصواريخ المقاومة.
المصدر/ نون بوست