حين ابتكر المخرج والكاتب والممثّل الفلسطيني إسماعيل الدبّاغ شخصية "حسن بظاظو" عام 2013، في مسلسله "باب العامود"، كان شغله الشاغل تحطيم تلك الصورة النمطية عن المقدسيّ كما لا تفتأ تقدّمها أجهزة الإعلام العربية، عن إنسان يسكن خارج الواقع حيث أسطورة صموده تحجب تفاصيل حياتية تستنزف طاقته ولا بد من تجاوزها أولاً حتى يتمكّن من مقاومة الاحتلال.
تنميطٌ لم يتغيّر في زمن الهرولة إلى التطبيع، حيث تُغيَّب هذه التفاصيل مرّة أخرى لدى أنظمة عربية تروّج لتعايش موهوم يجب أن تمثّله القدس، من دون الالتفات إلى المخطّطات الصهيونية التي تسعى إلى جعل المدينة العربية مجرّد حيّ محاط بأغلبية يهودية استيطانية "تمتلك" الأرض والسيادة.
في حديثه إلى "العربي الجديد"، يشير الدبّاغ إلى أن "باب العامود" الذي تتواصل الاستعدادات لتقديم موسمه الرابع، شكّل مفاجأة كبيرة للجمهور الفلسطيني والعربي منذ عرضه أول مرّة لأسباب باتت اليوم واضحة، حيث تناول القدس على نحو غير متوقّع؛ لا يوجد فيها أبطال كما في الأفلام الكرتونية، أو المشاهد الثابتة منها التي تعرضها نشرات الأخبار.
تحضر القدس من داخل بيوتها وأزقّتها وتُعرض القضايا اليومية من خلال شخصيات حيّة تعيش "على بركة الله" وتمثّل حقاً أهل المدينة وناسها، وليست تلك الشخصيات التي يتمّ تصويرها بما يتناسب مع اشتراطات المموّل الغربي أو على قياس العربي الثريّ الذي يرى أن تقديم وجبات رمضانية مجانية يرفع عنه المسؤولية تجاه القدس، بحسب صاحب مسرحية "شارع فساد الدين".
ويرى الدبّاغ أن المسلسل قدّم "ما هو مطلوبٌ منه"، في تسليط الضوء على أشخاص لا يحملون مؤهلات تعليمية عالية يحيون ظروفاً اجتماعية واقتصادية صعبة لكنهم يحتفظون بكرامتهم، ويقول حسن بظاظو بلسان حالهم، مخاطباً نفاق بعض الحكومات العربية: "لا نريد منكم سوى أن تتركونا في حالنا، وسنكون بألف خير".
يضيف: "هؤلاء الأشخاص يحبّون قدسهم وتراثهم وبيوتهم غير الصالحة للسكن؛ يحبونها لأنها بيوت آبائهم وأجدادهم التي تربّوا فيها، وهم من يعبّر عن القدس الحقيقية من دون أقنعة للجمهور العربي، ويتجاهل كلّ من ادعّى أنه يحميها أو يرفع عن أهلها الظلم".
في الموسم الرابع، يواصل الدبّاغ النبش في قصص المقدسيّين اليومية أو الانزياح إلى فانتازيا تتجاوز الواقع في قدرتها على إيصال رسائلهم. فعلى سبيل المثال، يتوجّه حسن بظاظو وزوجته حسنية إلى أحد المراكز الصحيّة للعلاج بعد أن اتخذا قراراً بالإنجاب، فيتفاجأ حسن أن لا اسم له في السجل الصحيّ، وبالتالي لا وجود له في الحياة، لأنه قضى عمره متجنباً سلطات الاحتلال ولم يدخل في نظامها الضريبي الذي يحمّل المقدسيين فوق طاقتهم.
مشهد كاريكاتوري يبرع في رسمه صاحب مسرحية "الأحداث الأليمة في حياة أبو حليمة"، حين علم حسن أنه لن يتمكّن أحدٌ من استصدار شهادة حين يُتوفى، فيردّ ساخراً "خليهم يحنطوني، علّ وعسى أن تباع جثّتي بمليون دولار بعد ألف عام. أنا لا أريد ولداً يحمل اسمي فأتحسّر عليه فلن يسلم من الاعتقال أو التنكيل، أو حتى أن يستقوى عليه أحد من أبناء جلدتنا..".
يقول الدبّاغ: "هذا ليس استسلاما للواقع بل قراءة عميقة لما يتعرض له المجتمع المقدسيّ من تدمير ممنهج، ولا تحميه سوى منظومة القيم والأخلاق والتي لولاها لانهار واستسلم من هول ما يواجهه، والتي يسعى الموسم الرابع إلى إضاءتها من خلال مجموعة من الشخصيات الجديدة التي ستثري العمل، بالإضافة إلى تصوير قضايا المقدسيّين في سوق العطّارين والجزّارين حيث يُجبرون على إغلاق محالّهم بسبب إجراءات المحاكم الإسرائيلية.
من جهة أخرى، يلفت إلى اضطراره للتوقّف عن تصوير المسلسل عدّة مرات لشحّ الموارد المالية واللوجستية، متسائلاً: "كيف نستطيع أن ننجز مسلسلاً محترفاً دون ميزانية تُذكر. إنّه التحدي، ولا مفرّ من العمل والإبداع والابتكار والتجديد، فلا يوجد عندنا قوالب جاهزة للعمل وليس لدينا أهداف تجارية، ولا مجال أيضاً للسقوط والفشل، ففي كلّ مرة ينتابني الإحساس بأن التجربة انتهت بسبب الظروف الصعبة التي يمّر بها إنتاج ’باب العامود‘، أستعيد حماسي بسبب التفاف العديد من المقدسيّين حولي حين أرى الحب والابتسامة على وجوههم أثناء عملية التصوير، وكيف يتقاسمون معنا السهر والتعب، ولذلك هم المنتجون الحقيقيون".
مفارقة لا تغيب عن بال الدبّاغ الذي لم يتلقّ أية ردود إيجابية لعرض المسلسل على شاشة المحطّات العربية، في الوقت الذي تبثّ فيه أعمال درامية فقيرة فنياً وأدبياً، داعياً هذه الفضائيات إلى أن ترى القدس عبر عيون أهلها من دون شعارات وانفعالات عاطفية بلا معنى كرّستها الدراما العربية على مدار عقود سابقة.
بالعودة إلى المسرح الذي عمل فيه منذ أكثر من ثلاثة عقود وأسّس فرقة "مسرح الرواة"، وكذلك السينما التي أدى فيها أدواراً في عدد من الأفلام، ينبّه الدباع إلى أنه ليس من المنصف القول إن هناك حركة مسرحية أو سينمائية فلسطينية، بل هي "تجارب فردية، أحياناً تنجح وأحياناً أخرى تفشل". ويعتقد أن تمويلها يكون غالباً لأهداف "خبيثة"، كما حدث في الآونة الأخيرة، إذ أُنتجت أفلام غربية بمسمّى فلسطيني، منها فيلم يمثّل اجتراراً فاضحاً لمذكرات خيالية لعميل عاش في عقد السبعينيات في الضفة الغربية، فأتى أحد المخرجين عديمي الموهبة، والتقطها وباعها لمموّل غربي أراد أن نُهان وألّا نثق نحن الفلسطينيين ببعضنا بعضاً.
ويوضّح الدبّاغ أن المسرح لم يسلم أيضاً من هذه الأسطوانة المشروخة؛ من جلد الذات والتركيز الدائم والكاذب في الحقيقة على "قضايا المرأة" والمساواة وحقوق الإنسان والحيوان، وهي مفردات تطرب المموّل، بينما يتوارى أيّ حديث عن آثار الاستعمار أو التحرر أو تاريخ المنكوبين، وتشارك الأعمال المسرحية المجترّة في المهرجانات العربية التي اعتادت على استضافة الوجوه ذاتها وتكريمها، مع استحداث جوائز ترضية حتى يكسب جميع المشاركين فيها والذين يجتمعون في ورشات مخصّصة لـ"النميمة" وليس للمسرح.
يختم الدبّاغ حديثه لـ "العربي الجديد" بالإشارة إلى أن الظروف الحالية لا تؤمن بيئة عمل مسرحي مناسبة، لذلك يحاول تلفزة المسرح كما فعل في مسلسل "باب العامود"، الذي كُتب بروح المسرح وأدواته، ولن يجد المتلقّي صعوبة في تقبله والتفاعل معه فهو جزءٌ من حاضره وماضيه بشخصياته وقصصه المروية.
المصدر: العربي الجديد