الحرب التي أعلنتها إسرائيل على "حركة الجهاد الإسلامي" في فلسطين، ليست منفصلة عن سياق إقليمي ودولي، سواء من نوع التوتر الذي يلف الحدود البحرية مع لبنان، أو إحتمالات حدوث إختراق في مفاوضات الملف النووي، أو الإندفاعة الإيرانية نحو روسيا التي لا تبدو علاقاتها مع إسرائيل على ما يرام في هذه الأيام بسبب الحرب الأوكرانية.
عندما إستثنت إسرائيل حركة “حماس” من عملياتها العسكرية وحصرتها تحديداً بـ”الجهاد”، فكأنها تريد الإيحاء بأنها لا تريد نزاعاً واسعاً وإنما خرجت من أجل هدف محدد، كي لا تخرج الأمور عن السيطرة وتتدحرج إلى حرب إقليمية واسعة، على رغم أن حركة التعبئة الإسرائيلية تفترض الإستعداد لمثل هذا الإحتمال. ويدلُ قرار وزير الدفاع الإسرائيلي بيني غانتس بإستدعاء 25 ألفاً من جنود الإحتياط، على أن العمليات العسكرية الإسرائيلية تتحسب لتداعيات أكبر. هذه الخطوات العسكرية الإسرائيلية ليست بعيدة عن خيبة الأمل الإسرائيلية من نتائج زيارة الرئيس الأميركي جو بايدن لإسرائيل والسعودية، خصوصاً لجهة ما تردد قبل الزيارة عن الإتجاه إلى إعلان هيكلية أمنية جديدة في الشرق الأوسط، ترتكز على ربط أنظمة الدفاع الجوي الإسرائيلية بأنظمة الدفاع الجوي لبعض دول الخليج العربي، في رسالة ردع لإيران، وهذا ما لم يتحقق خلال الزيارة، بينما فكرة “الناتو العربي” لم تطرح من الأساس. وفي الوقت نفسه، لم تحظ إسرائيل بمساندة علنية من قبل بايدن للخيارات العسكرية كأولوية في منع حصول إيران على السلاح النووي وبقي الرهان على المفاوضات.
وأتت القمة الثلاثية بين الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي والرئيس الروسي فلاديمير بوتين والرئيس التركي رجب طيب أردوغان في طهران غداة جولة بايدن، لتوطد العلاقة الروسية-الإيرانية، في وقت تمر العلاقات بين موسكو وتل أبيب في أسوأ مراحلها منذ عام 1989، وذلك بسبب إنحياز إسرائيل لأوكرانيا في النزاع مع روسيا. ولم يكن تفصيلاً طلب وزارة العدل الروسية سحب ترخيض الوكالة اليهودية في روسيا، وما تلاه من مواقف إسرائيلية متهجمة على المسؤولين الروس، وبينها ما كشفه بيني غانتس عن إطلاق صاروخ أرض-جو روسي من طراز “إس-300” في أيار/مايو الماضي، عقب غارات شنتها مقاتلات إسرائيلية على سوريا. وفي الأسابيع الأخيرة إرتفع منسوب التوتر بين لبنان وإسرائيل، مع إكتمال التحضيرات الإسرائيلية لإستخراج الغاز من حقل كاريش، قبل أن يكون قد جرى التوصل إلى إتفاق مع لبنان لترسيم الحدود البحرية. وأطلق “حزب الله” مسيرات فوق كاريش مرفقاً ذلك بتهديدات بمنع إسرائيل من إستخراج الغاز في حال لم تقر الدولة العبرية بالحقوق البحرية للبنان. فكانت عودة الوسيط الأميركي عاموس هوكشتاين على عجل إلى بيروت، في محاولة للتوصل إلى حل يرضي لبنان وإسرائيل في الوقت نفسه. ومع التطورات الجارية على الحدود مع لبنان، كانت إسرائيل تضع قواتها على الجبهة الشمالية في أقصى حالات الإستنفار. كل ذلك، دفع الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إلى التحذير من إنفجار الوضع على الحدود الجنوبية للبنان. في ظل التأزم على الحدود مع لبنان، كان إستدعاء المفاوضين النوويين إلى فيينا على نحو مفاجىء ليل الأربعاء ـ الخميس الماضي، بما أوحى أن ثمة إختراقاً قد تحقق على صعيد التوصل إلى تسوية تعيد إحياء خطة العمل المشتركة الشاملة لعام 2015، إستناداً إلى الإقتراح الذي تقدم به الممثل الأعلى للإتحاد الأوروبي للشؤون الخارجية والسياسة الأمنية جوزيب بوريل قبل أيام. وبدت الجولة الحالية من المفاوضات بأنها قد تكون هي الفرصة الأخيرة سواء للإعلان عن تسوية، أو حتى للإعلان عن وفاة الإتفاق وتوقف المفاوضات ودخول الأطراف في سيناريو اللاإتفاق مع التبعات المترتبة عليه. ومن المؤكد أن الضغط الأوروبي على الولايات المتحدة يتصاعد من أجل إحياء الإتفاق النووي، ربطاً بالحاجة الأوروبية إلى النفط والغاز الإيرانيين، وهذا أمر يستحيل تحقيقه مع بقاء العقوبات الأميركية مفروضة على طهران.
وفي توقيت حساس بالنسبة للمفاوضات النووية، إختارت تل أبيب الذهاب إلى غزة تحت عنوان توجيه ضربة “إستباقية” إلى “حركة الجهاد الإسلامي” بعد ساعات من اللقاء الذي جمع الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي بالأمين العام للحركة زياد النخالة في طهران. وبدا إغتيال قائد المنطقة الشمالية في “سرايا القدس” الجناح العسكري لـ”الجهاد” تيسير الجعبري، كأنه رسالة موجهة إلى إيران، الغاية منها دفعها إلى الإنسحاب من المفاوضات النووية، وتالياً إجهاض عملية فيينا، خصوصاً وانها ترافقت مع إشاعة أجواء تنطوي على بعض الإيجابية من قاعة الإجتماعات في فندق كوبورغ بين أطراف الإتفاق النووي. ولا يخلو التصعيد الإسرائيلي أيضاً من الحسابات الداخلية المرتبطة بالإنتخابات الإسرائيلية المبكرة في تشرين الثاني/نوفمبر المقبل، ومحاولة رئيس الوزراء الحالي يائير لابيد وبيني غانتس الإيحاء بأنهما مستعدان لكل الخيارات بما فيها العسكرية، لمنع “التهديدات التي تتعرض لها إسرائيل”.
وهذه لعبة مارسها رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق بنيامين نتنياهو عند كل إستحقاق إنتخابي في الأعوام الثلاثة الأخيرة عندما كان لا يزال رئيساً للوزراء، وكان آخرها في حرب أيار/مايو 2021 على غزة. وعلى رغم كل محاولات إسرائيل لإظهار أن عملياتها العسكرية تستهدف “الجهاد الإسلامي” بالتحديد دون الفصائل الفلسطينية الأخرى، فإن الشرق الأوسط الذي يغلي بالتوترات، لن يكون بعيداً عن الإنزلاق في أي لحظة إلى حرب إقليمية واسعة مؤجلة، وهذا لا يتنافى مع إحتمالات رسم معادلات جديدة في واقع الصراع الفلسطيني ـ الإسرائيلي، كتلك التي إرتسمت بين “حزب الله” وإسرائيل في مرحلة ما قبل التحرير في العام ألفين وما بعدها.
180Post