2024-11-21 08:12 م

«زلزال لشبونة»: قصة هزة أرضية وضعت أساس عِلم الزلازل الحديث

2022-07-28

نهاد زكي
في يوم الأول من نوفمبر (تشرين الثاني) عام 1755، وقعت سلسلة من الزلازل الشديدة في مدينة لشبونة، عاصمة إمبراطورية البرتغال في القرن الثامن عشر، وتسببت تلك الزلازل في أضرارٍ جسيمة، ودمرت المباني العامة والمنازل، واندلعت على إثرها الحرائق وراح ضحيتها نحو 60 ألف شخص.

لكن في الوقت الذي دمرت فيه الزلازل أشهر مدن القرن الثامن عشر؛ أُنشئت مدرسة للعلوم داخل البرتغال كانت السبب في وضع حجر الأساس الأول لـ«علم الزلازل» الذي نستند إليه اليوم في التنبؤ بحركة الهزات الأرضية العنيفة، ليكون هذا الزلزال المدمر بدايةً لقفزات علمية بددت جزءًا معتبرًا من ظلمة هذا العالم، فكيف حدث ذلك؟

«زلزال لشبونة»: غضبٌ من الرب أم بداية لعصرِ التنوير؟
كان الأول من نوفمبر يوافق «عيد جميع القديسين» أو ما نعرفه اليوم باسم «عيد الهالوين»، وفي اللحظة التي ضرب فيها هذا الزلزال العنيف مدينة لشبونة، كان أغلب سكان المدينة داخل الكنائس يحضرون القداس الخاص بالعيد؛ فإذا بهم يشاهدون تصدع جدران الكنائس وسقوطها فوق رؤوس آلاف المصلين، أما الشموع التي أشعلوها للصلاة فقد تسببت في اندلاع حرائق استمرت لستة أيام متواصلة دمرت المدينة بأكملها، الأمر الذي جعلهم يعتقدون أن تلك الكارثة كانت نتيجة غضب الرب.

ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد؛ فقد تسببت الزلازل في حدوث موجة «تسونامي» ارتفع على إثرها منسوب مياه البحار، وأغرقت الأمواج المدينة؛ وقد بلغ العدد الإجمالي للقتلى، سواء الذين لقوا حتفهم في الزلازل والحرائق أو بالغرق، نحو 60 ألف شخص، ونتيجة لذلك أصبح «زلزال لشبونة العظيم»، حدثًا فاصلًا في التاريخ الأوروبي، كما أصبح مادة خصبة جرى استخدامها في الأدب والفن التشكيلي لعدة قرون.

وقد حدث الدمار في الغالب بالمناطق الواقعة على طول نهر تاجوس وحول وسط المدينة، كانت الكاتدرائية والمكتبة الكبرى والقصر الملكي من بين الأماكن الأكثر تضررًا من الزلزال الذي يعتقد أنه كان بقوة من 8.5 إلى تسع درجات ريختر.

وفي شهادته يقول القس تشارلز ديفي الذي نجا من الكارثة إن الصدمة كانت عميقة جدًّا لدرجة أن ركبتيه كانا بالكاد تحملانه؛ وأنه استمع إلى صرخات العامة الخائفين يصيحون مع قدوم أمواج تسونامي: «البحرُ قادمٌ وسيغرقنا جميعًا».

وتشير الأبحاث الحديثة إلى أن المصدر الرئيسي للزلازل كان صدعًا في قاع البحر على طول حدود الصفائح التكتونية في وسط المحيط الأطلسي، وتسبب الزلزال في حدوث تسونامي أنتج موجات يبلغ ارتفاعها نحو 20 قدمًا (ستة أمتار) في لشبونة و65 قدمًا (20 مترًا) في قادس إسبانيا، ومن ثمَّ انتقلت الأمواج غربًا إلى جزر المارتينيك في البحر الكاريبي، وفي غضون عشر ساعات وصل ارتفاعها إلى 13 قدمًا (أربعة أمتار) فوق مستوى سطح البحر. 

كان الأمر أشبه بالفخ، فالسكان الذين هربوا من المباني والكنائس المهدمة، لجأوا للمراسي والشواطئ والمناطق المفتوحة لتجنب الدمار، بينما كانت أمواج تسونامي تستعد لتُغرق السواحل، حينها فوجئ الهاربون إلى مرسى نهر تاجوس بأمواجٍ ارتفاعها يصل إلى نحو تسعة أمتار تضرب مصب النهر، لتغرق الآلاف من سكان المدينة الذين نجوا من الزلزال المميت، ومن نجوا من الحادثتين كان عليهم مواجهة الحرائق التي اندلعت في الأماكن المرتفعة من المدينة التي لم تصلها أمواج التسونامي.

ودمر «زلزال لشبونة العظيم» وما تبعه من كوارث أكثر من 80% من البنية التحتية للمدينة الشهيرة، وفي ذلك الوقت أعاد ماركيز بومبال سيباستيان جوزيه، الذي شغل منصب رئيس وزراء المملكة، إعمار المدينة التي كانت مثلها مثل أغلب مدن العصور الوسطى تتميز بالعشوائية والأزقة الضيقة والفوضى في التخطيط.

وهو الأمر الذي تغير تمامًا بعد الكارثة؛ بعدما لجأ ماركيز بومبال للتخطيطات المعمارية التي جعلت البنية التحتية للمدينة أكثر ملائمة للاهتزازات الأرضية، ولاختبار مقاومتها أمر الماركيز قوات الجيش بالسير حول المباني بمعداتهم الثقيلة لتقليد الهزات الأرضية التي قد تسببها الزلازل.

مدرسة علوم البرتغال.. البداية الأولى لدراسة الزلازل بشكلٍ علمي
كان الكاتب الفرنسي الشهير فولتير، والذي يعد من أشهر مفكري عصر التنوير، ممن شهدوا هذا الزلزال العظيم، وقد أشار إليه في كتابه «كَنديد أو التفاؤل»؛ إذ سخر من التفكير السائد حينذاك الذي أرجع الزلزال المدمر في ذلك الوقت إلى غضب الله، كما سخر في الوقت ذاته من التيار المتفائل بلا داعٍ، والذي يرى أن كل شيء يحدث هو للأفضل.

كان من نتائج هذا الزلزال العظيم ظهور تصميمات المباني الأولى المقاومة للزلازل، كما يعد البعض يوم الأول من نوفمبر 1755، هو اليوم الذي نشأ فيه «علم الزلازل» الحديث الذي نستند إليه اليوم، فكيف حدث ذلك؟

شهد منتصف القرن الثامن عشر ذروة عصر التنوير؛ ففي الوقت الذي اتجه في العامة نحو التفكير بأن دمار مدينة لشبونة – عاصمة مملكة البرتغال- يعد انتقامًا إلهيًّا من البرتغال التي غزت العديد من الأراضي الآمنة لأمريكا الجنوبية من أجل تكوين إمبراطوريتها، أخذ مفكرو هذا العصر على عاتقهم ضرورة دحض تلك الفكرة من خلال العلم.

وعندما اتجه ماركيز بومبال للعملِ على إعادة إعمار المدينة؛ أراد الاستعانة بالعلم لتجنب حدوث كارثة مستقبلية مماثلة، لكن من أجل تحقيق ذلك كان عليه أولًا فهمِ السبب العلمي وراء تلك الهزات الأرضية العنيفة، ولهذا أنشأ «مدرسة العلوم».

أراد ماركيز بومبال أن يقاوم أفكار «اليسوعيين»، الذين نشروا الرعب في البلاد وأخذوا في إقناع العامة بضرورة التكفير عن ذنوبهم لتجنب غضب الرب، وقد كان الماركيز رجلًا عقلانيًّا يؤمن أن هناك سببًا أكثر منطقية لما حدث، ليكون هذا الحدث الكارثي بداية للتخلص من سيطرة التفكير الكنسي، وبداية عصر يدعم التفكير الحر ويعتمد بشكلٍ أكبر على العلوم. 

كانت أوروبا في ذلك الوقت على مشارف عصر فكري جديد، هو «عصر التنوير» الذي عُدَّ حركة فكرية وفلسفية ثورية حينذاك؛ في وقتٍ كانت فيه القارة تخضع بأكلمها لسلطة الملوك والكنيسة المطلقة؛ لذا شكك عصر التنوير في دور الدين والدولة والطبقة الأرستقراطية في التحكم بحياة المواطنين؛ وبدأت الدعوات إلى فصل سلطة الكنيسة عن الدولة، وهو ما ساعد فيه ماركيز بومبال بإنشاء مدرسة العلوم.

«نحن ندفن الموتى ونشفي الأحياء، ومن ثم نذهب إلى العمل»*من أقوال ماركيز بومبال إبان الكارثة

عهد الماركيز بومبال إلى المهندس مانويل دا مايا لإعادة إعمار المدينة، والذي سعى لتوحيد تصميمات المباني والتخطيط للشوارع والأزقة للتخفيف من وفيات الزلازل في المستقبل، وأراد الماركيز حينذاك عمل مسح شامل للبلاد، فأرسل إلى كل أبرشية للاستعلام عن المباني التي تعرضت للدمار، وكم استمرت الهزة الأرضية، ومستويات المياه في الآبار إبان الكارثة، وكيف اختلف سلوك الحيوانات وقتها، وغير ذلك من المعلومات عن العلامات التي سبقت الزلزال، والتي جمعت وأصبحت متاحة لعلماء البرتغال المعاصرين؛ يدرسونها بدقة لهدفِ إعادة الإعمار، لكنها في النهاية كانت البذرة الأولى لـ«علم الزلازل» الحديث.  

«علم الزلازل الحديث».. بدأ في لشبونة وتطور في اليابان
بعد الزلزال شهدت لشبونة لأول مرة في التاريخ نوعًا من التنظيم لإدارة الأزمات، وذلك عندما كلف ملك البرتغال جوزيف الأول السكرتير الدائم سيباستيان جوزيه ماركيز بومبال للإشراف على إنقاذ الجرحى والتخلص من الجثث وإعادة إعمار المدينة.

وعندما درس علماء البرتغال المعلومات التي وصلت إليهم من أنحاء البلاد المختلفة، لاحظوا نمطًا تكرر في كل مدينة تقريبًا، سواء قبل الهزة الأرضية أو بعدها؛ بعض هذه السجلات نجا من التلف حتى وقتنا هذا، وقد كان هذا النمط الذي كشفت عنه المسوح هو الأساس الذي بني عليه «علم الزلازل» اليوم؛ إذ كان هذا الزلزال العظيم أول هزة أرضية تجري دراستها بطريقةٍ علمية، في محاولة للوصول إلى مصدرها.

ويُرجع البعض هذا التوجه إلى فداحة الكارثة التي أدت في النهاية إلى اعتبار زلزال لشبونة حدثًا رئيسيًّا ساهم في إعادة التفكير في السياسة والفلسفة والعلوم والعمارة، ولهذا كان علامة بارزة على الطريق نحو أوروبا أكثر ليبرالية وديمقراطية واستنارة، وفق المؤرخين. 

جهاز قياس الزلازل

وبعد وضع النواة الأساسية لعلم الزلازل عقب زلزال لشبونة بدأ تطوير هذا العلم في منتصف القرن التاسع عشر؛ بعدما ضربت إحدى موجات الزلازل مدينة نابولي الإيطالية عام 1857، إذ قام المهندس الأيرلندي آر ماليت حينها بالسفر إلى إيطاليا من أجل دراسة آثار الزلزال والدمار الناجم عنه، وقد اكتشف خلال دراسته أن الموجات الزلزالية تشع من بؤرة مركزية، يمكن من خلالها تحديد موقع الزلازل بتتبع الموجات إلى المصدر.

وكانت تلك هي الفترة التي طُورت فيها الأدوات الخاصة بالنماذج الأولى لأنظمة قياس الزلازل، وقد كانت دول مثل إيطاليا وألمانيا واليابان وروسيا من الرواد في هذا المجال؛ وأدى فك تشفير سرعات الموجات الزلزالية داخل الأرض حينها إلى اكتشاف الهيكل الأساسي لكوكبنا المكون من قشرة وغطاء ونواة مقسمة إلى جزأين، ومن ثم ساهم علم الزلازل في دراسة جيولوجيا الأرض بشكلٍ أفضل. 

وبعد زلزالي لشبونة ونابولي، كان الحدث الأساسي الآخر الذي ساهم في فهم الهزات الأرضية بشكلٍ أعمق، هو زلزال كاليفورنيا، الذي وقع في الولايات المتحدة عام 1906، إذ جرى تقديم «نظرية الارتداد المرن» للعالم الأمريكي هاري ريد، لتفسير الزلازل حينها لأول مرة، والتي تنص على أن الصخور في باطن الأرض حين تتعرض لإجهاد جيولوجي، تختزن نوعًا من الطاقة داخلها؛ وحين تزيد تلك الطاقة عن الحد تتكسر تلك الصخور وتتحرر الطاقة في شكلِ موجات زلزالية.

لكن لم تبدأ الاكتشافات والاختراعات المهمة لعلمِ الزلازل قبل قدوم القرن العشرين، وتحديدًا بين عامي (1920-1960)، وقد كان أهم هذه الاختراعات «مقياس ريختر» الشهير الذي نستخدمه في يومنا هذا لقياس قوة الزلازل وعمقها وتوزيعها، وقبل هذا التاريخ ظن العلماء أن صدوع القشرة الأرضية ترتبط ارتباطًا وثيقًا بالزلازل؛ لكنهم أدركوا بعد تلك الاكتشافات الجديدة أن الصدوع مجرد نتائج للزلازل وليست سببًا لها.

وبدايةً من ستينيات القرن الماضي، أصبح هناك شبكة مراصد عالمية لقياس الزلازل تنتشر في كل أنحاء العالم تقريبًا، وتعمل من خلال أجهزة استشعار قياسية لرصدِ الزلازل وقوتها بدقة عالية، كما أصبح علماء الزلازل اليوم يبحثون إمكانية التنبؤ بالزلازل الكبرى.

وتعد اليابان من الرواد في هذا المجال نظرًا إلى ما يعانيه الأرخبيل الياباني من زلازل متكررة؛ إذ تطورت شبكة رصد الزلازل في اليابان بدايةً من السبعينيات في إطار برنامجها الوطني للتنبؤ بالزلازل، في محاولة منها لتجنب الآثار الكارثية للهزات الأرضية، والذي ساعد في كشف تسلسل الزلازل والفترات الزمنية الفاصلة بينها؛ رغم ذلك ما زال العلماء يواجهون صعوبة في التنبؤ بالزلازل بصورةٍ أكيدة؛ لكن يمكنهم اليوم رصد احتمالاتها، وهو تقدم كبير عن العقود الفائتة.

المصدر: ساسة بوست