عبد القادر بن مسعود
باستعراض عسكري ضخم، واحتفال رسميٍّ يحضره رؤساء دولٍ وحكوماتٍ صديقة؛ تحتفل الجزائر اليوم بالذكرى الستين لاسترجاع سيادتها؛ وذلك بعد أكثر من 132 سنة تحت حكم الاحتلال الفرنسي؛ هذا الاستقلال الذي جاء بعد تضحيات جسام للجزائريين، بلغت نحو مليون ونصف مليون شهيد جزائري؛ وثورة مسلحة دامت سبع سنوات ارتكبت فيها فرنسا أبشع المجازر.
مر استقلال الجزائر عن فرنسا في 5 يوليو (تموز) 1962 بمحطات مؤلمة وعقباتٍ كثيرة، كادت تجعل حلم الجزائريين في نيل الحرية والاستقلال سرابًا؛ أحد تلك المحطات كان ما يعرف بـ«منظمة الجيش السري الفرنسي» الإرهابية؛ وهي المنظمة التي عملت بأقصى ما لديها من أجل منع استقلال الجزائريين. فما قصتها؟
حق تقرير المصير.. من هنا بدأت قصة منظمة الجيش السري الفرنسي
بعد أن ضاق الجزائريين ذرعًا بممارسات السلطات الاستعمارية الفرنسية؛ وفشل السياسة في إيجاد بادرة أمل لحلّ معضلة الجزائر، لجأ ثلةٌ من الثوار الجزائريين إلى الإعلان عن اندلاع الثورة التحريرية الكبرى من أجل طرد فرنسا عسكريًا، ولم يكن في ذهن الثوار الجزائريين حينها أنّهم سينجحون في مقارعة أحد أعظم الجيوش في العالم آنذاك.
وبالفعل في الفاتح من نوفمبر (تشرين الثاني) 1954 اندلعت ثورة الجزائر؛ فبدأت على استحياءٍ قبل أن تجد لها صدىً في واقع الجزائريين الذين احتضنوها، فصارت بعد سنة واحدة واقعًا يؤرق الفرنسيين؛ ليعتلي صوت مطلب حق تقرير المصير عاليًا.
نجحت الثورة الجزائرية في إجبار الحكومة الفرنسية على قبول حق تقرير المصير؛ وفي 16 سبتمبر (أيلول) 1959، اعترف الرئيس الفرنسي شارل ديغول بحق الجزائريين في تقرير المصير، بالقول: «إن الوقت قد حان لإعطاء الفرصة للجزائريين كي يعبروا بأنفسهم عن مستقبلهم، ويقرروا مصيرهم بأنفسهم».
كان اعتراف ديجول بحق تقرير مصير الجزائريين بأنفسهم ضربة موجعة لأنصاره ومؤيديه الذين التجأوا إليه في حربهم على الجزائر، باعتباره أبرز شخصية سياسية وعسكرية فرنسية أرقت عدة دول في الحرب العالمية الثانية، وخلصت فرنسا من السطوة النازية؛ لتبدأ أصواتٌ فرنسية متطرفة بالدعوة إلى إجهاض مخطط ديجول في إعطاء الجزائريين حقهم في تقرير المصير.
لكن شارل ديجول مضى قدمًا في مسعاه؛ وذلك بعدما رآه من نجاح الثورة الجزائرية عسكريًا ودبلوماسيًا؛ فعرض في نوفمبر من العام نفسه على قادة الثورة الدخول في مفاوضات لبحث شروط إيقاف القتال وإنهاء المعارك.
وفي الثامن من يناير (كانون الثاني) 1961 دُعي الشعب الفرنسي وأهالي المستعمرات للاستفتاء بشأن تقرير المصير في الجزائر، ونص هذا الاستفتاء على أنه عندما تسمح الشروط الأمنية، فإن المصير السياسي للجزائر مع الجمهورية الفرنسية سيُقرر من طرف الشعب الجزائري، فصوت 75% من المنتخبين بـ«نعم».
أمام هذا الواقع زادت حدة غضب المناوئين لقرار ديجول تجاه الجزائر؛ فنظمّ في أبريل (نيسان) 1961 كلٌ من موريس شال، وادمون جوهو، وأندريه زيلر، بالاشتراك مع الجنرال راؤول سالان، وهم من الجنرالات الرافضة لحق تقرير المصير، انقلابًا ضد ديجول انطلاقًا من الجزائر، لكن الانقلاب فشل بعد أسبوع واحد وفرّ المنقلبون إلى إسبانيا.
منظمة الجيش السري الفرنسي: من أجل بقاء الجزائر فرنسية إلى الأبد!
لا يُعرف تاريخ محدد لتأسيس «منظمة الجيش السري الفرنسي (L’OAS)»، لكن ما جمعته مذكرات الجنرالات المؤسسين لها يؤكد أنّ الاجتماع الأوّل لأعضائها كان في 11 فبراير (شباط) 1961 بمدريد الإسبانية التي كانت ملتقى المنفيين العسكريين من الجزائر الفرنسية حينها.
يومها التقى كل من الجنرالات جون جاك سوزيني وپيير لاكايار وجان كلود بيريز في اجتماع سري بعد لقاءات سابقة، جرى خلاله تأسيس تنظيم جديد بديل لكل التنظيمات السياسية العاملة على غرس فكرة «الجزائر فرنسية».
حمل هذا التنظيم الذي تأسس في مدريد وانتقل إلى الجزائر، اسم منظمة الجيش السري واتخذ الصليب شعارًا له، فيما ترأسه الجنرال المتقاعد صالان بمساعدة الجنرالات: جوهو وغاردي؛ سوزيني والعقيد غودار، وضم العديد من المستوطنين الفرنسيين و«الحركى» المدافعين عن أطروحة الجزائر الفرنسية.
عملت المنظمة على تعبئة الرأي العام الفرنسي بشأن فكرة الحفاظ على الجزائر فرنسية، إلى جانب التصدي لسياسة الرئيس شارل ديجول ومحاولة الإطاحة بنظامه، فضلًا عن عرقلة المفاوضات بين الحكومة الفرنسية وجبهة التحرير الوطني الجزائرية، وذلك من خلال بث الرعب، والإرهاب، وممارسة التهديدات، والضغوط على حكومة ديجول.
اقترح جودار تقسيم هيكلة منظمة الجيش السري الفرنسي إلى ثلاثة شعب، وهي: الشعبة الأولى المكلفة بالتنظيم والتعبئة بقيادة العقيد جارد، الشعبة الثانية مكلفة بالاستعلامات والعمليات؛ بقيادة جان كلود بيريز، وتنقسم بدورها إلى قسمين: المكتب المركزي للاستعلامات، وتكون مهمته جمع المعلومات، وتحليلها، وتركيبها. ومكتب العمليات التنفيذية، ومهمته تنفيذ العمليات المقررة من طرف القيادة، أمّا الشعبة الثالثة فكانت مكلفة بالعمل السياسي والنفسي بقيادة جون جاك سوزيني.
اختير الجنرال «راؤول سالان» قائدًا عامًا للمنظمة؛ وذلك نظرًا للثقل والسمعة التي يحظى بها لدى المستوطنين، أما النيابة فأسندت للجنرال «إدموند جوهو»، فيما أُسندت قيادة الأركان للجنرال غاردي والعقيد غودار.
حاكى مؤسسو التنظيم السري، جبهة التحرير الوطني في الهيكلة وطريقة العمل؛ فكان تنظيم الجيش السري هرميًا للغاية ومجزأً، كما أنّ أعضاء التنظيم لا يعرفون بعضهم بعضًا، فباستثناء القادة لا يعرف شيء عن باقي الأعضاء، حتى إن أماكن الاجتماعات لم تكن معروفة؛ ففي بعض الأحيان يجتمعون في المقاهي، وحتى في الشارع.
لنقتل الجميع!
بعد فشل الانقلاب العسكري ضد ديجول في أبريل 1961 خرجت منظمة الجيش السري الفرنسي من سريتها، وترجمت سخطها بتحركات علنية وعمليات إجرامية، واتبعت سياسة الأرض المحروقة من أجل تحقيق أهدافها، وفي إجمالي عدد ضحايا هذه المنظمة الإرهابية، تسببت منظمة الجيش السري في مقتل 2700 شخص، من بينهم 2400 جزائري، في الفترة من مايو (أيار) 1961 إلى سبتمبر 1962، كما قام هذا التنظيم السري بأكثر من 2500 تفجير بالعبوات الناسفة
وفي تفاصيل هذه الجرائم قامت المنظمة يوم الأربعاء 28 فبراير 1962 بواحدة من أبشع المجازر حين استهدفت ساحة «الطحطاحة» بمدينة وهران المكتظة بالسكان بواسطة سيارتين مفخختين، قرب محل لبيع الحلويات تسبب في مقتل أكثر من 100 جزائري. وفي الثاني من مايو 1962 استهدفت المنظمة ميناء الجزائر بسيارة مفخخة، وخلف الهجوم الدموي سقوط 62 ضحية من العمال، والمواطنين الجزائريين، وإصابة أكثر من 250 آخرين.
ولأنّ الهدف الأبرز للمنظمة كان إفشال إتفاقيات إيفيان ووقف إطلاق النار بين جبهة التحرير الوطني والجيش الفرنسي، شنت المنظمة سلسلة من الهجمات المتزامنة لهذا الحدث، ففي 15 مارس 1962 وقبل أربعة أيام فقط من التوقيع على اتفاقيات إيفيان والإعلان عن وقف إطلاق النار، اقتحمت مجموعة من المسلحين تابعين لمنظمة الجيش السري الإرهابية قاعة الاجتماعات بالمركز البيداغوجي بابن عكنون بأعالي العاصمة، ليغتالوا الأديب الجزائري والمفكر مولود فرعون رفقة أصدقائه علي حموتان، وصالح عودية، وايتيان باسي، وروبرت ايماري، وماكس مارشون، وجميعهم رؤساء مراكز اجتماعية تربوية.
وبعد وقف إطلاق النار وتوقيع اتفاقيات إفيان بأسبوعٍ فقط دبرت المنظمة هجمات نهج إيزلي بالجزائر العاصمة، التي أدت إلى مقتل 46 قتيلًا و200 جريح؛ ولم تقتصر جرائم منظمة الجيش السري الفرنسية على البشر، بل تعدته إلى الكتب، حين أحرقت المنظمة مكتبة جامعة الجزائر، حيث أتلف 600 ألف عنوان، وفُجرت المختبرات والقاعات، وفي 10 مايو 1962 اغتالت المنظمة النساء الجزائريات العاملات في البيوت الأوروبية أثناء توجههن للعمل صباحًا في عملية سميّت بـ«عملية فاطمة».
ولم تسلم فرنسا من العمليات الإجرامية التي ينفذها مجموعات الكوماندوز التابعة لبيار سرجون، قصد زرع الخوف لدى الفرنسيين الموالين لسياسة ديغول، وأيضًا الجزائريين المقيمين بفرنسا، ففي 14 يوليو 1961 قامت المنظمة بتدبير ستة تفجيرات، ثلاثة منها كانت موجهة ضد نواب في البرلمان الفرنسي.
في 20 أبريل 1962 ألقي القبض على الجنرال سالان أما سكزيني، الذي تفاوض مع جبهة التحرير الوطني الجزائرية لوقف القتال، وحل منظمة الجيش السري الفرنسي نهائيًا خلال سنة 1963 مقابل ضمانات من الجبهة، ليغلق فصل من إجرام الاستعمار الفرنسي بحق الشعب الجزائري، لكنه لا يزال حاضرًا في أذهان كل الجزائريين.
المصدر/ ساسة بوست