2024-11-23 10:02 م

جُزر متفرقة.. كيف مزّق الاحتلال الضفة الغربية جغرافيًّا؟

2022-02-17

لن تجد وصفًا يصف الواقع الجغرافي للضفة الغربية أدقّ من وصف فرانك لوينشتاين، المبعوث الخاص لإدارة الرئيس الأمريكي السابق باراك أوباما، حول المفاوضات الإسرائيلية-الفلسطينية، حين قال إنه رأى "غابة"، إذ لم تكن المراكز السكانية الفلسطينية معزولة عن بعضها فحسب، وإنما لم تكن هناك طريقة فعلية لإيجاد دولة فلسطينية قابلة للحياة في المناطق التي بقيت.

بموجب موقعه الذي يمكّنه من الاطّلاع على خرائط الضفة الغربية والمشاريع الاستيطانية التي تُقام عليه، أجرى فريق لوينشتاين عملية حساب رياضي، وعندما تمَّ توحيد مناطق الاستيطان، والبؤر الاستيطانية غير القانونية، والمناطق الأخرى خارج حدود التنمية الفلسطينية، ووجدها تغطي حوالي 60% من الضفة الغربية.

يشهد الواقع الجغرافي للضفة الغربية اليوم تشرذمًا واسعًا، وانعزالًا في المناطق التي تعدّ بموجب اتفاقية أوسلو جزءًا من الأراضي التي تحكمها السلطة الفلسطينية، حيث تفصل المستوطنات الإسرائيلية بينها، وما يرافق ذلك من طرق التفافية وجسور خاصة بالمستوطنين وربط المستوطنات ببعضها، التي يحرّم على الفلسطيني استخدامها، عدا عن الحواجز الإسرائيلية التي تقرر حركة الفلسطيني داخل أراضي الضفة الغربية.

الاستيطان على حساب أراضي الضفة
الاستيطان الحالي الذي يأكل الضفة الغربية، ويلتهم أراضيها شيئًا فشيئًا، لم يكن على أراضٍ اعتباطية، بل وفق مخطط صهيوني قديم حديث، يقضي بأن تقطع المستوطنات الاتصال الفلسطيني في الضفة الغربية، وأن تكون تحت قبضة الاحتلال الكاملة التي تتحكم في حياة الفلسطيني وحركته، وتغيير معالم الضفة الغربية الديموغرافية والجغرافية، بطريقة تخدم تحقيق الأهداف الإسرائيلية القاضية بالتضييق على الفلسطينيين وتهجيرهم، وإحلال اليهود مكانهم.

تبدأ القصة بالسيطرة على بقعة صغيرة المساحة من الأرض لأمور عسكرية - كما يصفها الاحتلال -، يختارها الاحتلال بدقة، كحال أي استعمار في التاريخ، على قمم الجبال لا الوديان، والتربة المناسبة للإنتاج الزراعي، بجانب مصادر المياه المتوافرة، فالفكر الاستعماري عادة، يرى أن الاستيلاء على القمة يعني بالتأكيد الاستيلاء على المنطقة المحيطة، لما توفره القمم من كشف المناطق المجاورة ومحاصرة الشعب الواقع تحت الاحتلال، وإخضاعه للسيطرة الأمنية والمراقبة الكاملة عبر أبراجه. 

ويتعاون الاحتلال ومستوطنوه على ذلك، إذ يصعد المستوطنون إلى قمة الجبل الذي ينوون السيطرة عليه، تحت مسمى "زيارات عشوائية"، تنتظم تدريجيًا، وتتطور إلى وضع منازل متنقلة (كرافانات)، ويحيطونها بالسياج لتحديدها، ثم تبدأ الجرافات عملها، كما هو المخطط الذي يطمحون لإقامته على جبل صبيح في قرية بيتا بنابلس، إلا أن مقاومة أهله الشعبية حالت دونه.

بعد حرب عام 1967 زادت شهية الاحتلال للاستيطان، وبدأت مشاريع ومخططات لتوطين اليهود في الضفة الغربية وقطاع غزة وبقية الأراضي التي اُحتلت بعد الحرب تُطرح على الطاولة، واتفقت جميع هذه المشاريع على تطويق التجمعات الفلسطينية بمستوطنات وتجمعات يهودية مدنية كبيرة وصغيرة، وتفريغ المناطق التي لا يمكن تطويقها بالمستوطنات مثل غور الأردن من الفلسطينيين.

طرح موشيه ديان، وزير الدفاع في حكومة ليفي أشكول، خطة "القبضات الخمسة" للسيطرة العسكرية على جبال الضفة الغربية ونشر معسكرات الجيش فيها، متوقعًا أن إنشاء المعسكرات سيجرُّ وراءه إقامة مستوطنات مدنية وزراعية، وبعد تطبيق الخطة أنشأ الاحتلال 5 معسكرات إسرائيلية على طول الضفة الغربية، هي أدوريم جنوب الخليل، وغوش عتصيون في منطقة بيت لحم، وبعل حتسور في كفر مالك قرب رام الله، وحوارة قرب نابلس، وبيزق قرب جنين؛ ونتيجة لهذه الخطة تمّت مصادرة 20 ألف دونم حول كل معسكر إسرائيلي.

وفي عام 1968 قدّم ديان خطة "السلام الاقتصادي"، التي اُعتبرت امتدادًا لخطة "القبضات الخمس"، بهدف تعزيز الاستيطان في الضفة الغربية وقطع روابط الاقتصاد الفلسطيني المستقل وربطه بالاقتصاد الإسرائيلي.

وتوالت الخطط الاستيطانية والمشاريع، حتى جاء توقيع اتفاقية أوسلو بين منظمة التحرير الفلسطينية والاحتلال عام 1993، حيث طرح موشيه فيغلين، رئيس القيادة اليهودية في الليكود، ورئيس حركة "هذه أرضنا" فيما بعد، مخططًا بالتعاون مع مجلس المستوطنات في الضفة الغربية وقطاع غزة أسماه "العملية المضاعفة"، هدفت إلى إقامة 130 مستوطنة جديدة في أنحاء المناطق التي تمَّ احتلالها عام 1967، ونصت الخطة على قيام كل مستوطنة مبنية أصلًا في هذه المناطق بالسيطرة على الأراضي القريبة منها وتسويتها بهدف توسيع المستوطنات القائمة.

اليوم بحسب مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية في الأراضي الفلسطينية المحتلة "أوتشا"، يُحظر على الفلسطيني الوصول إلى 20% من أراضي الضفة الغربية بموجب أمر عسكري، بحجّة أنها مصنَّفة كمنطقة إطلاق نار مخصَّصة لأغراض التدريب العسكري أو كحدود منطقة عازلة.

كما يُمنع الفلسطيني من الوصول إلى ما يزيد عن 10% من أراضي الضفة الغربية الواقعة داخل الحدود البلدية للمستوطنات بموجب أمر عسكري، ويستطيع المزارعون الوصول إلى أراضيهم الخاصة التي تقع داخل المستوطنات أو حولها مرتَين في السنة كحدٍّ أقصى، شريطة تأمين "التنسيق المسبق".

طريق التفافي: إحكام تمزيق الضفة
لم يكتفِ الاحتلال بتطويق التجمعات الفلسطينية بالمستوطنات، بل عمل على تقطيع الضفة الغربية بشوارع عرضية مرتبطة مباشرة بـ"إسرائيل"، ومؤخرًا ينفّذ جيش الاحتلال في الضفة الغربية مخططات لشبكة طرق وجسور وأنفاق وبنى تحتية، من شأنها ترسيخ وجود قواته وتعزيز المستوطنين على حساب الفلسطينيين وأراضيهم في الضفة الغربية، وتتوزّع مشاريع الطرق الاستيطانية حاليًّا على عدة محافظات فلسطينية، منها الخليل وبيت لحم جنوبي الضفة الغربية، ونابلس وقلقيلية شمالًا.

هذه المشاريع الممتدة والآخذة بالتوسع، تأتي كجزء من مخطط أُعلن عنه عام 1983، بموجب أمر عسكري إسرائيلي خاص بالطرق ويحمل الرقم 50، والذي يهدف إلى شقّ طرق طولية من شمال الضفة إلى جنوبها، ومن الغرب إلى الشرق، والوصول نهاية إلى تفتيت الضفة الغربية وحشر التجمعات الفلسطينية.

ورصدت هيئة مقاومة الجدار والاستيطان 10 قرارات استملاك صدرت عام 2019، وتقضي بمصادرة حوالي 877 دونمًا (الدونم = ألف متر مربع)، معظمها مخصصة الآن لإقامة شوارع ومفترقات وجسور، ووفق الهيئة "تتمّ مصادرة قطع أراضٍ بهدف إنشاء شوارع التفافية لخدمة المستوطنين بالمقام الأول"، وتشير إلى تخصيص 220 مليون دولار لخارطة الطرق الجاري تنفيذها في الضفة الغربية، ولإقامة وتركيب أبراج اتصالات وإنارة للشوارع الالتفافية المخصصة لقوات الاحتلال ومستوطنيه.

ومنظومة الشوارع الرئيسية في الضفة الغربية شُقّت لخدمة المستوطنين على أراضٍ صودرت من الفلسطينيين، ويكاد يُمنع الفلسطينيون من استخدام هذه الشوارع منعًا تامًّا.

إضافة إلى ذلك، أنشأت "إسرائيل" منظومة شوارع بديلة مخصّصة للمستوطنين فقط تسمّى "شوارع نسيج حياة"، شُقّت هي أيضًا في أراضٍ صودرت من الفلسطينيين، تشمل هذه المنظومة أنفاقًا وشوارع التفافية، وبحسب "أوتشا" شقّت "إسرائيل" شوارع يبلغ طولها 49 كيلومترًا تشمل 43 نفقًا وممرًّا تحت الأرضي.

وصحيح أن "إسرائيل" تتيح بهذه الطريقة المواصلات بين "الجزر" الفلسطينية التي أنشأتها، ولكنها تمنع التواصل الجغرافي بين البلدات، ما يمكّنها من قطع المواصلات بسهولة بين المناطق المختلفة داخل أراضي الضفة الغربية.

ولم يتوقف الاحتلال عند شقّ الشوارع، بل منحها حُرمةً يبلغ متوسط عرضها 150 مترًا على كل جانب من جانبَي هذه الطرق، يمنع فيها إقامة مبانٍ سكنية أو تمديد أية خطوط للمياه أو حفر قنوات أو مدّ أسلاك من أي نوع، إلا بموافقة لجنة التنظيم الهيكلي الأعلى المكوّنة من الموظفين اليهود فقط.

تمزيق الضفة: وداعًا لحلم الدولتَين!
منذ 30 عامًا والسلطة الفلسطينية تصدح بمشروعها السياسي "حل الدولتَين"، القائم على إقامة الدولة الفلسطينية على أراضي عام 1967، و"إسرائيل"، التي اعترفت بها السلطة كدولة، على أراضي عام 1948، ومن منطلق هذا المشروع ضيّع الفلسطيني عمره في مفاوضات عبثية مع الاحتلال، لم تفضِ إلا إلى زيادة التعاون الأمني والاقتصادي بين الطرفَين.

وقد بدأ التطبيق الفعلي لمخططات الشوارع الالتفافية مع توقيع اتفاق أوسلو عام 1993، وإعادة انتشار الجيش الإسرائيلي في بعض المدن الفلسطينية، وبينما كان قادة الاحتلال يبتسمون بتهكُّم لقيادات السلطة الفلسطينية في المفاوضات، كانت جرّافات الاحتلال تشرع في بناء المستوطنات وشقّ الطرق في الضفة الغربية، ضمن مساعٍ إسرائيلية لتطبيق "حلّ الدولتَين في دولة واحدة؛ دولة المستعمرات المتواصلة جغرافيًّا، والدولة الفلسطينية المتّصلة بالجسور والأنفاق".

بحسب مركز المعلومات الإسرائيلية لحقوق الإنسان في الأراضي المحتلة "بتسيلم"، فإن العملية السياسية بين الاحتلال والفلسطينيين لم تؤثِّر على عملية الاستيطان، بل استمرت عملية توسيعها حتى في عهد حكومة رابين وبيريز (1992-1996) والحكومات التي أتت بعدها، حيث قامت هذه الحكومات ببناء الآف الوحدات السكنية معلِّلة ذلك بضرورات للتكاثر السكاني للمستوطنين، ونتيجة لهذا ازداد عدد المستوطنين الضعف تقريبًا في الفترة ما بين عامَي 1993 و2000.

وعلاوةً على افتقارها إلى الصفة القانونية، تشكّل المستوطنات الإسرائيلية المقامة في الأراضي الفلسطينية المحتلة، أعظم تهديد يكتنف رؤية السلطة في حلّ الدولتَين، فهذه المستوطنات وبنيتها التحتية والمناطق التابعة لها، تتسبّب في تقليص مساحة ونوعية الأراضي المتبقية لنا لإقامة الدولة الفلسطينية العتيدة عليها، كما تعمل على قطع التواصل الجغرافي الطبيعي بين أطرافها؛ ومن ناحية أخرى، يسعى الاحتلال جاهدًا إلى عزل الضفة الغربية عن بعضها، وأن يكون صاحب القرار الأول في منع حركة الفلسطينيين عند أول نقطة مواجهة.

المصدر: نون بوست/نداء بسومي