بقلم: مفتاح شعيب
أن يأمر المجلس العسكري الحاكم في مالي السفير الفرنسي بمغادرة باماكو في غضون 72 ساعة، فهذه حادثة تدشن تاريخاً جديداً بالنظر إلى العلاقة العمودية القائمة بين باريس وعدد من مستعمراتها السابقة في إفريقيا، خصوصاً تلك الواقعة في جنوب الصحراء، حيث ينتشر الجيش الفرنسي بكثافة منذ عقود، ويمتلك قاعدة بيانات واسعة مكنته من فرض تبعية تلك الدول، وأحياناً رسم طبيعة أنظمتها السياسية عبر الانقلابات العسكرية.
لم يكن مألوفاً أن يتم طرد السفير الفرنسي من بلد مثل مالي، ولكن هذه الخطوة تبدو بياناً واضحاً على تراجع النفوذ الفرنسي، وتتويجاً لأشهر من التأزم الذي بدأ بعد انقلاب مايو /أيار الماضي. وفي الأسابيع الأخيرة لم تعد باريس تخفي تعكر علاقتها بالمجلس العسكري الحاكم، وبدأت تطرح بجدية وضع قواتها، بعدما أخلت ثلاث قواعد عسكرية في شمال البلاد الصحراوي، حيث كانت هناك حرب على جماعات إرهابية، مازالت تشكل خطراً وتهديداً كبيرين. ولم يكن الانسحاب الفرنسي وتخفيض عدد القوات إلى النصف نتيجة لنجاح استراتيجية تحييد الخطر الإرهابي، وإنما لتغيرات متلاحقة فاجأت صانع القرار في باريس، منها ما هو متعلق بتغيرات سياسية داخلية، ومنها ما يتصل بحضور منافسين دوليين على غرار روسيا والصين، والسجال بين الدول الثلاث أصبح على الملأ، ولم يعد عملاً في الظل أو سرّاً خافياً. وبعد أن طلبت باماكو إعادة النظر في الاتفاقية الدفاعية مع باريس ومنع تحليق طائرات عسكرية أوروبية في مجالها الجوي، أقرت وزيرة الدفاع الفرنسية فلورنس بارلي بأن هناك وضعاً جديداً يتشكل في منطقة الساحل «يتعين التكيف معه»، وهذا التكيف قد يحرم باريس من بناء استراتيجيات بعيدة المدى في ذلك الفضاء الإفريقي.
أزمة فرنسا المتدحرجة في الصحراء الإفريقية اتسعت إلى تشاد التي تعرف علاقاتها مع باريس فتوراَ وتأزماً منذ مقتل الرئيس السابق إدريس ديبي العام الماضي. وخلف الكواليس تحاول الدبلوماسية الفرنسية أن ترمم الأضرار التي لحقت بما كان يوصف بأنه «تحالف وثيق»، ولكن المفاجآت تواصلت مع الانقلاب الأخير في بوركينا فاسو، حيث تبدو النخبة العسكرية الجديدة في واغادوغو ميالة إلى التحرر من الهيمنة الفرنسية، بل التمرد على نفوذها، بالتزامن مع تصاعد العديد من الأصوات الإفريقية الداعية صراحة إلى توحيد الصفوف في وجه فرنسا، وهو ما يجري عملياً بفعل عوامل عديدة.
لا توجد قاعدة دائمة في العلاقات الدولية، وهذا الأمر ينطبق على فرنسا ومستعمراتها الإفريقية. ومن علامات اختلال التوازنات العالمية أن يتراجع نفوذ باريس في تلك المنطقة بعد نحو قرنين من الاستعمار والهيمنة. والوصول إلى هذه النتيجة يكاد يكون من الحتميات التاريخية. وما تشهده دول جنوب الصحراء الإفريقية من تبرم ورفض للحضور الفرنسي يتم على مستويات سياسية وفكرية واقتصادية، فهذه الدول التي وقفت لعقود على عتبة الديمقراطية لم تستطع تحقيقها في ظل الجهل والفقر والإرهاب والنهب الخارجي للثروات. وبعد عقود من المعاناة، ربما انبلج هذا الوعي الجديد ليرسم مساراً جديداً، ولكن اللاعب الفرنسي سيكون مهماً لاعتبارات تاريخية، خصوصاً إذا غيّر موقعه من مهيمن إلى شريك.
المصدر: الخليج الاماراتية