2024-11-27 09:45 ص

من التطبيع إلى الترسيم-أوهام الإمارات الجيواستراتيجية

2022-01-27

لم تشكّل "اتفاقات أبراهام" (Abraham Accords) التي رسّمت العلاقات بين الإمارات وإسرائيل عام 2020، وفتحت المجال لدخول دول عربية أخرى على خطى ترسيم العلاقات مع إسرائيل، مفاجأة استراتيجية كبرى، لأن توصيف ما تم على أنه تطبيع هو خطأ كبير. فالتطبيع (Normalization) أي التواصل بين الطرفين قديم جدا، ومر بعدة مراحل وفي مستويات عديدة؛ اقتصادية ورياضية وغيرها. ما جرى هو ترسيم التطبيع (Formalization)، وهي مرحلة إعلان العلاقات الرسمية، وتبادل التمثيل الدبلوماسي، بعد المرور بعدة مراحل سابقة من بناء الثقة بين الأطراف، والتواصل على المستويات الاستخباراتية والمجتمعية، والثقافية، والرياضية، وغيرها.

التطبيع بين الطرفين تم منذ أمد بعيد إذاً، أما ترسيمه، أي توقيت إضفاء الشرعية على هذا التطبيع، فهو يستند إلى جملة من المتغيرات السياسية والعوامل الاستراتيجية في سياق الصراعات الدولية والإقليمية على الهيمنة، ووعي صانعي القرار بهذه المتغيرات. وقد وفّرت المظلة الأميركية الراعية للطرفين الأطر التطبيعية، ورعت الأطر الجديدة لترسيم هذا التطبيع، فالاتفاق الإسرائيلي الإماراتي يأتي في سياق التغيرات الحاصلة خلال العقد الأخير في طبيعة النظام الدولي، الذي يشهد انتقالا من الأحادية القطبية، بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، إلى عصر، ما يسميه باحثون، بالـ"لاقطبية الدولية"، المتّسمة بتعدد الفواعل الدولية وتنوعها، مع غياب قطب واحد يتولى أعباء الأمن والدفاع والإنفاق الاستراتيجي بالنيابة عن حلفائه التابعين.

لتوضيح هذا الأمر، لا بد من العودة قليلاً للوراء، خاصة إلى عام 2017، حين ظهر ما يسمى باتفاق ميسا (MESA تحالف الشرق الأوسط الاستراتيجي)، الذي رعته الولايات المتحدة الأميركية، وكشف النقاب عنه، للمرة الأولى، خلال زيارة الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب إلى السعودية، في مايو/أيار 2017. يشكّل هذا الاتفاق شكلاً من أشكال تكيّف السياسة الخارجية الأميركية، في منطقة الشرق الأوسط مع معطيات مرحلة اللاقطبية الدولية، إذ إن "ميسا" يقوم على مرتكزات عدة، أبرزها: توسيع آليات التشاور الإقليمي بين ما يمكن تسميتهم بالحلفاء، وتعزيز إمكانية العمل بينهم من دون العودة مباشرة إلى الإدارة الأميركية. يترافق هذا مع تقليص مساهمة الأميركيين في الإنفاق على الأمن، مقابل أن يقوم هؤلاء الحلفاء التابعون بتولي مسؤوليات أكبر في الإنفاق الأمني والتشغيل البيني لأنظمتها الدفاعية بمختلف المجالات، البحرية والسبرانية والجوية...إلخ، وتقديم بدائل مالية للخدمات الأمنية الأميركية، كما عبّر عن ذلك ترامب مراراً وتكراراً، مع دعم السياسات الأميركية في مواجهة نفوذ كل من الصين وروسيا في منطقة الشرق الأوسط.

بناء على اتفاق ميسا، يكتسب الاتفاق الترسيمي الإسرائيلي الإماراتي معناه الاستراتيجي، فتكثيف التعاون بين حلفاء الولايات المتحدة الأميركية في المنطقة يبدو ضرورة حيوية لهؤلاء، لحماية مصالحهم وتعزيز أمنهم الذاتي، تحت المظلة الأميركية. نلاحظ مثلا، بأن أولى التبعات لترسيم تطبيع العلاقات بين إسرائيل والإمارات تَمَثَّل في فتح مجال الخطوط الجوية بين المنطقتين. في حين اعتبر بعضٌ أن هذه الخطوة تحمل أهدافًا اقتصادية بحتة، وهي موجّهة لمنافسة الخطوط الجوية القطرية والتركية من الناحية الاقتصادية، فإنه يمكننا أن نضيف لجانب هذا البعد، بعدا آخرَ استراتيجي، يرتبط بما ذكرناه سلفا حول اتفاق ميسا، وضرورة أن يقوم حلفاء الولايات المتحدة، في منطقة الشرق الأوسط، بتعزيز التعاون البيني في مجالات الدفاع والأمن، وفي المستويات كافة ومنها الجوي واللوجستي.

إن خطوات تعزيز التعاون في مجال النقل البحري يشكّل ضمن التصور الأميركي شكلا من أشكال مواجهة النفوذ الصيني الآخذ بالتوسع في المنطقة. فمحاولة الإمارات الهيمنة على موانئ اليمن، ومناطق شمال الصومال، وميناء دوراليه في جيبوتي، وميناء عصب الإرتيري (تشغّله دبي العالمية) الذي استخدمته الأمارات لعملياتها العسكرية في اليمن، وربطها جميعا عبر اتفاقات بميناء حيفا، يشكّل، إضافة للمنافع الاقتصادية، وللتحكم بحركة التجارة البحرية الممتدة من البحر المتوسط إلى الخليج العربي عبر البحر الأحمر، رداً استراتيجياً كبيراً على محاولات الصين تعزيز اعتمادها على الخط التجاري البحري من المحيط الهندي إلى الصين، مباشرة عبر مناطق الروهينغا في ميانمار. هذا الخط البحري يختصر ثلث المسافة التي تحتاجها الناقلات البحرية إلى الصين، مقارنة بالطريق الذي يجب أن تسلكه عبر مضيق ملقا والمحيط الهادي، ويشكّل محاولة صينية لتجاوز ما يسمى بمعضلة مضيق ملقا الذي تمر منه معظم التجارة الصينية البحرية عبر المحيط الهادي، والخاضع لسيطرة القوات الأميركية. التعاون الإسرائيلي الإماراتي البحري عبر ربط دبي بحيفا، يشكل ضمن المنظور الاستراتيجي الأميركي سداً في وجه الطموحات الصينية للوصول لأسواق الخليج والمنطقة العربية عبر الممرات البحرية، كما أن الموانئ التي تخضع لسيطرة استثمارات الجانبين الإسرائيلي والإماراتي، يمكن أن تتحول لتقديم الدعم العسكري اللوجستي للقوات الأميركية عند الحاجة.

صانع القرار الإماراتي يواجه أزمة هوية عميقة جداً نظرا للظروف التاريخية لنشأة دولة الإمارات
 

إضافة لهذا السياق الموضوعي المرتبط بظروف الصراعات الاستراتيجية الدولية، يمكن أن نشير إلى عامل آخر ساهم في إعلان ترسيم تطبيع العلاقات الإماراتية الإسرائيلية، من منظور تصوّر صانع القرار الإماراتي لإمكانيات دوره الجيواستراتيجي. يرتكز التصور الاستراتيجي لدولة ما على محاولاتها الإجابة عن جملة من الأسئلة الجوهرية التي ترسم خطوط سياستها الخارجية، وهي: ما هي هوية الدولة؟ من هم أعدائها القائمون والمحتملون؟ من هم الحلفاء القائمون والمحتملون؟ كيف يمكن التعامل مع هؤلاء الأعداء والحلفاء؟ ما هو الخطاب الذي يمكن أن يتم عبره تبرير التصورات عن الأعداء والحلفاء القائمين والمحتملين للرأي العام المحلي والإقليمي والدولي.

من الواضح بأن صانع القرار الإماراتي يواجه أزمة هوية عميقة جداً نظرا للظروف التاريخية لنشأة دولة الإمارات، والخلل الديمغرافي الكبير الذي يتمثل في وجود 90% من السكان من الأجانب كنتيجة حتمية للنظام الاقتصادي الريعي، المعتمد على استقدام العمالة الأجنبية. يمكن أن نشير في هذا السياق إلى كتاب "انهيار الممالك" للكاتب، كريستوفر ديفيدسون، حيث تنبّأ ومنذ عام 2012، بأزمة وجودية عميقة ستواجه الإمارات، والدول القائمة على الاقتصاد الريعي، في ظل غياب المشاركة السياسية المجتمعية، وافتقاد نظمها للشرعية السياسية. هذا القلق الوجودي الذي تعمق في ظل الأزمات المتفجرة التي تواجهها دول عربية عديدة، يدفع صانعي القرار الإماراتيين للبحث عن مصدر للحماية، لضمان استمرار الوجود. من هذا المنظور فالتحالف مع أميركا، والارتباط العلني والرسمي بإسرائيل، هو ركيزة أساسية للمستقبل لمواجهة هذا التحدي الوجودي، فحسب التصور الرسمي الإماراتي يوطّد ترسيم العلاقات مع الكيان الإسرائيلي العلاقة أكثر بالولايات المتحدة الأميركية، وبمنظومتها الجديدة، لضمان أمنها القومي في الشرق الأوسط كما أسلفنا سابقا، ومن الممكن أن يسهم في دعم اقتصاد الإمارات في المستقبل (مرحلة ما بعد النفط)، إذ إن التفوق التكنولوجي والعلمي الإسرائيلي، يبدو أمرا مفيداً للاقتصاد الإماراتي المستقبلي، ناهيك عن القدرات العسكرية الإسرائيلية التي قد توفر الحماية تجاه الأعداء القائمين والمحتملين، ومن ضمنهم إيران، التي تحتل جزراً إماراتية، وتنشط بقوة في المحيط الجيوسياسي لدولة الإمارات، وكذلك تركيا التي تبرز منافسا للاستثمارات الإماراتية في القرن الأفريقي، وكقوة إقليمية تستمد شرعيتها من الإسلام السياسي السني.

على صعيد تبرير اتفاق ترسيم التطبيع مع إسرائيل سوّق صانعو القرار، في الإمارات، عبر وسائلهم الإعلامية والثقافية فكرة مفادها أن الهدف من الاتفاق مع إسرائيل هو تعزيز السلام، وحل القضية الفلسطينية، ومساعدة الشعب الفلسطيني على استعادة حقوقه بالطرق الدبلوماسية والسياسية، مع وجود ضمانات من قبل إسرائيل بوقف الاستيطان والتوسع.

أوهام السلام الشامل الذي يحاول تغطية الأبعاد الحقيقية للاتفاق الإسرائيلي الإماراتي لا يمكن أن تصمد أمام النقد، ولا تنطلي على الرأي العام العربي الشعبي، الذي ما زال يرفض كل أشكال التطبيع الرسمي وغير الرسمي مع الكيان الإسرائيلي، المستمر في سياساته التوسعية والاستيطانية، وفي رفضه المطلق لحق العودة، والدخول في تسوية سلمية شاملة وعادلة للقضية الفلسطينية. في هذا السياق، لا بد من التأكيد على مسألة أساسية، وهي أنه على عكس إسرائيل التي تشكل تصفية القضية الفلسطينية محددا أساسيا لسياستها الخارجية، ولبناء علاقاتها الدولية والإقليمية، والمرتبطة بشكل وثيق بأمن الكيان وقدرته على الاستمرار في الوجود، فإن القضية الفلسطينية لم تكن على سلم أولويات صانع القرار الإماراتي في ترسيمه العلاقات مع الكيان. عوامل مثل الدور المحدد للإمارات، ضمن المظلة الاستراتيجية الأميركية، والتصورات المصلحية المتعلقة بدور إقليمي ضمن هذه المظلة، وأوهام اعتبار إسرائيل الحليف الموضوعي للحفاظ على وجود دولة الإمارات لمواجهة الأخطار المحلية والإقليمية القائمة والمحتملة، هي المحددات الأساسية لاتفاق ترسيم التطبيع من وجهة نظر صانع القرار الإماراتي، وعلى حساب حقوق الشعوب الفلسطيني.

عليه يمكن القول، إن القضية الفلسطينية وقعت ضحية النظم السياسية العربية مرتين، مرّةً عند ادعاء النظم الديكتاتورية العربية أن لا صوت يعلو على صوت المعركة، وأن بناء جيوشها موجه لمواجهة إسرائيل، وهو ما أثبتت الأحداث السياسية في المنطقة زيفه وبطلانه، وأن دور هذه الجيوش العربية وخطاب تحرير فلسطين كان موجها لقمع الشعوب وتصفية الأصوات المعارضة داخليا. المرّة الثانية، أتت عبر خطابات الاستسلام تحت شعار السلام، والترويج بأن الانفتاح الاقتصادي وترسيم العلاقات مع الكيان على جميع المستويات إنما هي إجراءات تعزز من حقوق الشعب الفلسطيني، الذي تكمن مصلحته وطرق استعادة حقوقه التاريخية دون أدنى شك، خارج أوهام وأكاذيب النظم السياسية العربية.

المصدر: العربي الجديد