2024-11-25 01:24 م

من أفقر بلد بالعالم إلى الازدهار.. كيف تجنَّبت بوتسوانا «السيناريو الأفريقي»؟

2022-01-22

عندما حصلت بوتسوانا على استقلالها عن بريطانيا في سنة 1966، كانت سابع أفقر دولة في العالم؛ فكان الشعب يعاني الفقر والجهل وغياب الرعاية الصحيَّة، مع مساحات شاسعة من الصحراء غير قابلة للزراعة.

لقد ترك الاستعمار البريطاني بوتسوانا بلا أي بنية تحتية أو أدوات يمكن الاعتماد عليها لتحقيق الإقلاع الاقتصادي؛ فلم يكن في البلاد أكثر من 12 كم من الطرق المعبَّدة، أما عن عدد المتعلِّمين؛ فلم يزد عددهم على 22 شخصًا يملكون شهادة جامعية ونحو 100 متخرِّج في المدرسة المتوسِّطة.

وبالإضافة إلى ذلك فإن بوتسوانا تنتمي إلى الدول الحبيسة، أي تلك التي لا تملك أيَّة إطلالة على البحر، بل هي محصورة وسط جغرافيا بريَّة تحدُّها دول من جميع الاتجاهات؛ وكل ذلك يجعلها بيئةً مثاليةً للتناحر الداخلي والانضمام إلى قافلة الدول الأفريقية الفاشلة.

ومع ذلك تشهد بوتسوانا اليوم تحقيق نسب نمو عاليةً وصلت إلى 7.5%، كما بلغ متوسِّط الدخل الفردي 15 ألفًا و452 دولارًا سنويًّا، وهو رقم كبير جدًّا، خاصةً إذا عرفنا أن دولة أفريقية أكبر بكثير مثل مصر، بلغ دخل الفرد فيها 3.83 ألف دولار في العام المالي 2021، وتُعرف بوتسوانا بامتلاكها نظامًا سياسيًّا شفَّافًا وفعَّالًا، ناهيك عن تجنُّبها منذ استقلالها في 1966 أية انقلابات عسكرية أو حروب أهلية؛ فكيف استطاعت بوتسوانا تحقيق هذا؟

كيف انتشلت بوتسوانا نفسها من مستنقع الفقر؟ 
تقع بوتسوانا جنوب القارة الأفريقية، تحدُّها من الجنوب دولة جنوب أفريقيا، ومن الشرق زيمبابوي، ومن الغرب والشمال ناميبيا، ومساحتها نحو 570 ألف كيلومتر مربع، أي نصف مساحة مصر تقريبًا، ويعيش أغلب السكَّان بجانب خط السكَّة الحديدية التي تربط بين زيمبابوي شرقًا وجنوب أفريقيا، وهو المشروع الذي أقامته الشركة البريطانية الجنوب أفريقية أثناء الاحتلال البريطاني الذي عاشته البلاد منذ 1885 حتى استقلالها في سنة 1966.

ولم تكن الجغرافيا السياسية هي الأخرى في صالح الدولة المستقلَّة الشابَّة؛ إذ كانت محاطة بأنظمة تعادي الدول الأفريقية المستقلَّة التي يتزعَّمها السود، ففي الجنوب كان نظام الفصل العنصري «الأبارتايد» بجنوب أفريقيا يتخوَّف من أن يكون النموذج البوتسواني مشجِّعًا للسود الجنوب أفريقيين للمطالبة بحقوقهم، والأمر نفسه متعلِّق بنظام «روديزيا» العنصري قبل إسقاطه وتأسيس جمهورية زيمبابوي بقيادة موجابي في سنة 1980.

ويرجع الفضل في بناء نظام سياسي واقتصادي ديمقراطي وشفَّاف، وعدم الغرق في أتون الصراع على السلطة والثروة، مثلما شهدته العديد من البلدان الأفريقية، إلى عدَّة عوامل، منها التاريخية والاجتماعية بالإضافة إلى عوامل سياسية مرتبطة برؤية النخبة الحاكمة التي أدارت البلاد بعد الاستقلال.

أما العوامل التاريخية والاجتماعية فتتمثَّل في نموذج الحكم الاستعماري الذي عاشته البلاد خلال الفترة البريطانية؛ إذ تجادل ورقة بحثيَّة لدارون أسيموغلو وآخرون، وهو اقتصادي من «معهد ماساشوستس للتكنولوجيا» وصاحب الكتاب الشهير «لماذا تفشل الأمم»، بأنَّ الماضي الاستعماري لبوتسوانا قد لعب دورًا في صعود المؤسسات الحكومية التي تبنَّت سياسات مفيدة للبلاد.

وتنطلق هذه النظرية من أنَّ المؤسسات الاستغلالية في أفريقيا بعد استقلالها ترجع جذورها إلى الاستعمار، فهو الذي أسس علاقات الاستغلال في البلدان المستعمرة من أجل ضمان السيطرة على ثرواتها كاليد العاملة والضرائب والموارد الطبيعية، وهو الأمر الذي لم تشهده بوتسوانا.

 الألماس في بوتسوانا

ويُقصد بـ«المؤسسات الاستغلالية» في هذا السياق، الأطر السياسية والاجتماعية والاقتصادية التي يستخدمها الاستعمار في إحكام قبضته على المجتمع المُستعمر، مثل الأسر الثريَّة التي تمتلك الأراضي والثروات المرتبطة بالاستعمار أو طبقة ملَّاك الأراضي أو النبلاء أو الملوك؛ وهي الطبقات النخبوية التي ورثت الثروة والسلطة بعد خروج الاستعمار في العديد من البلدان الأفريقية، وكانت السبب في الفساد السياسي والاقتصادي الذي أدى لاحقًا إلى الحروب الأهلية والانقلابات، وسوء توزيع الثروة وغيرها من المشكلات التي عانت منها القارة منذ الستينيات.

أما بالنسبة لبوتسوانا، فتقول الورقة إن الاستعمار البريطاني لم يضطر إلى إنشاء مؤسسات استغلالية للسيطرة على المجتمع المحلِّي، وذلك ليس راجعًا إلى دوافع أخلاقيَّة من طرف الاستعمار البريطاني، بل لسبب بسيط هو الكثافة السكَّانية المتدنية في بوتسوانا، وعدم وجود مقاومة شرسة للاستعمار خلال فترة الوجود البريطاني؛ مما جعل إنشاء «مؤسَّسات الاستغلال» غير مجدٍ اقتصاديًّا.

إذ لم تنظر بريطانيا إلى بوتسوانا سوى بوصفها ممرًّا للسكة الحديدية بين جنوب أفريقيا و«روديزيا» أو زيمبابوي حاليًا التي كانت تحت حكم رجل الأعمال البريطاني الثري رودز، الذي استعمر المنطقة من خلال شركته «الشركة البريطانية الجنوب أفريقية» والحملات الاستعمارية، لدرجة تسميته منطقة زيمبابوي آنذاك باسمه الشخصي «روديزيا».

وقد جعل توسُّع رجل الأعمال وسياساته الاستغلالية الاستعمارية العنيفة القادة المحلِّيين في بوتسوانا يفضِّلون التبعية للعرش البريطاني مباشرةً على الوقوع تحت سلطة رود؛ وهو ما أدى إلى دخول بوتسوانا طواعيةً تحت سلطة الإمبراطورية البريطانية.

بالإضافة إلى هذا فإن النظام الاجتماعي الذي حكم بوتسوانا لقرونٍ كان قائمًا على التوافق بين شيوخ القبائل الذين أتاحوا مجالًا للحوار والتصالح والوصول إلى توافقات بينهم من خلال الأطر التقليدية للمجتمع القبلي؛ وبين الكثير من البلدان الأفريقية التي شهدت أنظمة اجتماعية تقليدية مماثلة يبقى نموذج بوتسوانا هو الأنجح.

ستيرسي خاما.. عرَّاب نهضة بوتسوانا
أما بالنسبة للعوامل السياسية، فيرجع الفضل الكبير في تأسيس نظام سياسي فعال إلى أوَّل رئيس لبوتسوانا، بعد الاستقلال سيريتسي خاما؛ إذ عمل خاما رويدًا على نزع الصلاحيات السياسية والاقتصادية من شيوخ القبائل وإدماجها في الدولة من أجل منع المشاحنات القبلية والتأسيس لهويَّة وطنية جامعة؛ ومثل اعتماد الإنجليزية لغة للتعليم من أجل تجنُّب التمييز بين اللغات والثقافات المتنوِّعة التي تعرفها البلاد.

وينحدر خاما من سلالة ملكية غنيَّة في بوتسوانا، وهو ما سمح له بتلقي تعليم أجنبي متقدِّم في جنوب أفريقيا ثم أكمل دراسته في بريطانيا، وانخرط في العمل السياسي وأسَّس الحزب الديمقراطي البوتسواني سنة 1962، الذي قاد الحركة الوطنية من أجل الاستقلال عن بريطانيا، وهو ما تحقَّق في سنة 1966.

وأطلق خاما عدَّة برامج اقتصادية من أجل تحويل اقتصاد البلاد الهش المبني على تربية المواشي، ليحوِّلها إلى بلدٍ يركِّز على تصدير اللحوم والنحاس؛ وقد ساهمت اكتشافات الاحتياطيات الضخمة للألماس في إنعاش الاقتصاد البوتسواني؛ إذ تملك بوتسوانا أكبر منجم للألماس في العالم، الموجود في أورابا شرق بوتسوانا.

ورغم امتلاك بوتسوانا ثروة هائلة من معدن الألماس غالي الثمن، فإن ذلك وحده لا يفسِّر النجاح الاقتصادي الذي حقَّقته؛ إذ إن الكثير من الدول الأفريقية تمتلك احتياطيَّات ضخمة من الألماس (الكونغو، أنجولا، نيجيريا) إلى جانب ثروات معدنية وكميَّات هائلة من النفط والغاز، إلا أن هذه الثروات كانت بالنسبة للكثيرين «لعنة» اقتصادية وسياسية أكثر منها وسيلة للإقلاع الاقتصادي؛ إذ جعلتها رهينة للاقتصاد الريعي والحكم الاستبدادي الذي يستغلُّ المداخيل الريعية من أجل تثبيت أركان حكمه السلطوي، أو للقلاقل السياسية والاحتراب الداخلي من أجل الحصول على أكبر قطعة من كعكة الريع.

وبالإضافة إلى ثروة الألماس قاد الرئيس خاما حملة ضد الفساد الإداري واعتمد نسبًا منخفضة من الضرائب من أجل تجنُّب التهرُّب الضريبي، كما اعتمد نظام اقتصاد السوق وحرَّر المبادرات الاقتصادية، عكس ما كان شائعًا في القارة الأفريقية آنذاك من اعتماد نظام رأسمالية الدولة، كما تبنَّى الديمقراطية الليبرالية نظامًا سياسيًّا، وقام بمحاربة العنصرية سواءً من طرف الأقلية البيضاء أم ضدها.

ورغم المطالب بتوطين الإدارات والشركات الناشطة في بوتسوانا وطرد الخبراء الأجانب الذين كانوا يشغلون مناصب مهمة في الاقتصاد، قاوم الرئيس هذه المطالب بسبب عدم امتلاك بوتسوانا للكفاءات والكوادر التي تستطيع ملء هذه المناصب.

وركَّزت بوتسوانا جهودها على تحقيق الإقلاع الاقتصادي والإنفاق على البنية التحتية وتطوير قطاع اللحوم، في المقابل لم تنفق أيَّ نسبة تُذكر على قطاع الدفاع، الذي لم تكن في حاجة إليه؛ إذ لم يتأسس الجيش البوتسواني سوى في عام 1977 نتيجة تحرُّشات من طرف الجارين جنوب أفريقيا وروديزيا (زيمبابوي حاليًا)، اللَّتين كانتا تحت الحكم العنصري المناهض للسود.

ليست «يوتوبيا».. معاناة بوتسوانا مع «الإيدز» 
نجحت بوتسوانا في إرساء نظام سياسي خالٍ نسبيًّا من الفساد، وهذا ما تؤكده المؤشرات العالمية؛ إذ إن بوتسوانا تتسيَّد مؤشِّر الشفافية في القارة الأفريقية، محتلَّة المرتبة الـ35 عالميًّا ومتقدمة على بلدان أوروبية مثل إيطاليا واليونان.

وتعد حالة الاستقرار السياسي التي عرفتها البلاد منذ استقلالها أبرز العوامل التي سمحت لبوتسوانا بتحقيق التقدُّم الاقتصادي وتحقيق نسب نموٍّ عالية؛ إذ لم تشهد أي انقلاب عسكري أو حرب أهلية أو نزاعات داخلية، وقد جاءت في المرتبة الـ48 على المستوى العالمي في مؤشر الديمقراطية لجامعة «فوجتزبرج» الألمانية لسنة 2021، والمرتبة الثالثة في القارة الأفريقية بعد كلٍّ من جنوب أفريقيا وتونس، ما قبل انقلاب قيس سعيد الأخير.

لكن الحياة ليست ورديَّة في بوتسوانا، فهذه الدولة الأفريقية التي حقَّقت نجاحات اقتصاديَّة وسياسية معتبرة، ونجحت في النجاة من الآفات السياسية التي عانت منها القارة الأفريقية منذ استقلالها من الاستعمار الأوروبي في منتصف القرن الماضي من قبيل الانقلابات العسكرية والحروب الأهلية والانقسامات؛ ما زالت تعاني من العديد من المشكلات، لعلَّ أخطرها نسبة انتشار مرض «فقد المناعة المكتسب» (الإيدز).

إذ بلغ عدد المصابين بهذا المرض في سنة 2019 نحو 380 ألف مصاب، بنسبة 20% لدى البالغين ما بين سنِّ الـ15 إلى الـ49 سنة ممَّا يجعلها رابع دولة في العالم في نسبة الإصابة بالفيروس بعد جيرانها جنوب أفريقيا وليسوتو وإسواتيني.

كما أن الاقتصاد البوتسواني يبقى ريعيًّا إلى درجةٍ كبيرةٍ (أي يعتمد على الثروات المستخرجة من باطن الأرض)؛ إذ تصدِّر الدولة ما يُقدر بنحو 5 مليارات دولار سنويًّا من الألماس بوصفه المورد الرئيس للبلاد، ويمثِّل نحو 40% من مداخيل الدولة، إلا أن نجاح هذه الدولة في إدارة مواردها الريعية وضمان عدم تراكم الثروة الريعية لدى نخبة قليلة في أعلى هرم السلطة، مثلما حدث في الكونغو وأنجولا وغيرها من الدول الأفريقية، ونجاحها في بناء نظام عدالة اجتماعية جعل دخل الفرد فيها هو الرابع على المستوى الأفريقي، يبقى إنجازًا يستحق الإشادة.

المصدر: ساسة بوست