يوسف فارس
أقدم العدو الإسرائيلي، خلال معركة «سيف القدس»، على تدمير سبعة أبراج سكنية، في إطار سياسة «إعادة غزة إلى العصر الحجري»، والتي اعتقد أنها ستفعل فعلها في إنهاء الحرب بشروطه. لكن تفعيل المقاومة معادلة قصْف تل أبيب، كان كفيلاً بإيقاف هذا المسلسل، الذي خلّف، مع ذلك، تداعيات كبرى على شريحة من سكّان القطاع، الذين باتوا ينتظرون دورهم في عملية إعادةِ إعمارٍ «سلحفاتية»، ليست ممتلكاتهم موضوعة إلّا في آخر قائمتها، لاعتبارات عدّة لا يُستبعد من بينها إبقاء الأثر النفسي لسياسة إطاحة الأبراج قائماً
انتهت معركة «سيف القدس» بإضافة سبعة أبراج جديدة إلى قائمة إعادة إعمار الأبراج المتعثّرة منذ عام 2014. وقد كان «برج الجوهرة» المُكوَّن من عشر طبقات، ثاني الأبراج التي قصفتها الطائرات الحربية الإسرائيلية في تلك المعركة. وعلى رغم أن الصاروخَين اللذين استهدفاه أتيا على ثلث أساساته، إلّا أنه ظلّ قائماً بعد قصفه، ليُتّخذ القرار بإزالته تماماً إثر مداولات استمرّت لأسابيع. أمّا لماذا؟ فيجيب الخبير الاقتصادي، محمد أبو جياب، «الأخبار»، بأن «تدمير أيّ برج سكني يمثّل عبئاً كبيراً يُضاف إلى أعباء إعادة الإعمار، لأن الأبراج لا تحظى باهتمام المانحين، والأولوية تُعطى للشقق السكنية التي لا يجد سكّانها مأوى. لذا، فإن وزارة الأشغال التي نجحت عقب حرب العام 2014 في إعادة ترميم عدد من الأبراج التي أصابها دمار جزئي، وأهمّها برج الأندلس في شمال قطاع غزة، تجد أن إعادة الترميم، هي أخفّ الضرر». غير أن قرار الإزالة الكلية التي تستغرق 92 يوماً من العمل، قوبل بحفاوة كبيرة من المالكين، وهو ما يشرحه مالك إحدى الشقق السكنية في «الجوهرة» بأن «إعادة إصلاح البرج كابوس حقيقي كُنّا نخشاه، نحن نفضّل أن ننتظر دورنا في التعويض أو إعادة الأعمار لعشر سنين، لا أن يُرمَّم البرج الذي تعرّض للقصف». ويُضيف محمد عمر أن «تجربة الأبراج التي أُعيد ترميمها كئيبة جدّاً، حيث يفقد العقار الذي اشتريناه بثمن باهظ جدّاً بالنظر إلى موقعه الاستراتيجي، وبنائه الحديث، ثلثَي قيمته؛ كون البناية تعرّضت للقصف الصاروخي، وفي حالة الجوهرة الذي ضُربت أساساته بصاروخين، ستكون الخسارة مضاعفة، فالشقة التي كان يصل سعرها لـ65 ألف دولار، لن تجد مشترياً لها بـ18 ألفاً».
تدفيع الثمن
يزعم الاحتلال في العادة أن المقاومة تتّخذ من الأبراج السكنية والتجارية، مقرّات عسكرية لها، غير أن الشواهد الميدانية تُثبت أن مُلكية كافة العقارات في الأبراج تعود إلى أربعة أصناف من النشاطات، فإمّا أن تكون شققاً سكنية، أو مكاتب صحافية، أو محالّ تجارية، أو مكاتب إدارية للشركات والمؤسّسات الدولية. ووفقاً للصحافة الإسرائيلية، فقد استخدم جيش الاحتلال الأبراج السكنية لتنفيس غضب الشارع الإسرائيلي، الذي لم يقبل أن يرى عاصمته الإدارية والسياسية، تل أبيب، تُستهدف في تحدٍّ واضح من المقاومة. وفي الاتجاه نفسه، يعتقد الرافاتي أن «تحديد المقاومة لساعة قصف تل أبيب، وساعة وقف النار، ساهم في زيادة الغضب الإسرائيلي تجاه المؤسسة الأمنية في كيان الاحتلال، لذا شكّل قصف الأبراج وما يرافقه من عاصفة نفسية في الشارع الغزي، متّسعاً للتفريغ، ولزيادة كلفة الحرب وتعقيد ملفّ إعادة الإعمار أيضاً، طمعاً في تحصيل أثمان سياسية مُقابِله». من جهتها، تؤكّد مصادر مطّلعة في المقاومة أنه لا يوجد أيّ دليل على أن الأخيرة استخدمت أيّاً من الأبراج لأغراض عسكرية، خصوصاً أنها تمتلك مواقع خاصة بها، تُغنيها عن تعريض حياة السكّان للخطر. وتُضيف المصادر متهكّمةً أنه «إذا كانت إسرائيل تَعتبر المحطّات الفضائية التي تنقل خطاب المقاومة مقرّات عسكرية، فالأمر مختلف».
حسابات الإعمار
بعد سبعة أشهر على انتهاء الحرب، لم يُنجَز من عملية إعادة الإعمار الخاصة بالأبراج سوى خطوة إزالة الركام، بحسب مالك «برج الجلاء»، الذي يقول «(إننا) بدأنا بإنجاز الخرائط والمخطّطات الهندسية، وأتممْنا تجهيزها على أكمل وجه، لكن لم نبدأ بأيّ خطوة عملية لإعادة البناء». ويلفت مهدي إلى أن «أكبر الهواجس التي نعيشها هو أن يتكرّر سيناريو حرب العام 2014، فعلى بُعد مئات الأمتار منّا، نرى أثناء تنقّلنا أرض برج الباشا فارغة، تنتظر منذ سبع سنوات إعادة الإعمار». من جهته، يُشير ناجي سرحان، وهو وكيل وزارة الأشغال في قطاع غزة، في حديث إلى «الأخبار»، إلى أن «المانحين يضعون المنازل السكنية في أولوية إعادة الإعمار، وتُصنَّف الأبراج على أنها منشآت اقتصادية وليست سكنية، على رغم أنها تُؤوي المئات من الأسر، لذا، فهي تقبع في ذيل قائمة الأولويات». ويلفت سرحان إلى أن «عدد الوحدات السكنية التي دُمّرت إثر قصف الأبراج، يتجاوز الـ450 وحدة، وكانت تؤوي قرابة ثلاثة آلاف مواطن». ويؤكد أنه «حتى اللحظة، خطوة إعادة الإعمار تتمّ ببطء، فقد تلقّى مالكو 78 وحدة سكنية مدمّرة بشكل كلّي الدفعة الأولى لإعادة إعمار منازلهم، من المنحة القطرية». ويبيّن أن «قيمة خسائر الأضرار الجزئية بلغت نحو 42 مليون دولار، وحتى الآن يوجد تعهّدات بـ20 مليوناً، ما يعني أن 50 في المئة من الأضرار الجزئية تحت العمل، إمّا تمّ تعويضها أو جاري التعويض». والجدير ذكره، أخيراً، أن العدوان تسبّب بتدمير 1335 منشأة سكنية بشكل كامل أو بليغ، فيما لحق الضرر المتوسّط والجزئي بحوالى 12 ألفاً و886 منزلاً، بحسب المكتب الإعلامي الحكومي في غزة.
شكّلت الأبراج هاجساً نفسياً حقيقياً لدى السكّان في القطاع، وربّما كان التباطؤ في عملية إعمارها متعمّداً لتذكير المواطنين والمقاومة، على الدوام، بالكلفة العالية التي يستجلبها قرار خوض المواجهة مع الاحتلال، وهو ما يصفه المحلّل السياسي، أيمن الرفاتي، بأنه «سياسة كيّ الوعي الجمعي للسكّان، وإفهامهم بأن ما دُمّر سيبقى على حاله، وبأن خسائر أيّ حرب على الصعيدَين الاقتصادي والعمراني لن تُعوَّض». وفي معركة «سيف القدس»، وُضعت جميع الأبراج الشاهقة في القطاع في المهداف، إمّا بالتدمير الفعلي الذي بدأ بـ«برج هنادي» المكوّن من 12 طابقاً، وأَجبر المئات من الصحافيّين على افتراش أرض «مستشفى الشفاء» التي نَقلوا إليها مكاتبهم ومعدّاتهم، واتّخذوها مقرّاً طارئاً للتغطية، أو بإشاعة نيّة التدمير من دون تنفيذها فعلياً، الأمر الذي يعود، وفق الرفاتي، إلى تدشين المقاومة معادلة: «قصف أيّ برج، يقابله قصف تل أبيب بمئات الصواريخ». إذ إنه في أعقاب هذا التهديد الصادر عن «أبو عبيدة»، الناطق العسكري باسم «كتائب القسام»، «لم تقصف إسرائيل أيّ برج سكني، على رغم أنها أنذرت بعضها بالإخلاء، إلّا أنها كانت تكتفي بضرب شقة سكنية واحدة فيه، وتُبقي عليه قائماً».
المصدر: الاخبار اللبنانية