2024-11-24 09:31 م

السلام الاقتصادي يشرعن الاحتلال

بقلم: د. هاني المصري
لا نبالغ في القول إن احتمال استئناف المفاوضات والتسوية السياسية معدومة حتى إشعار آخر، ومثل أمل إبليس بدخول الجنة؛ ذلك أن الحكومة الإسرائيلية، أعلنت، ومارست فعلًا، معارضتها لقيام دولة فلسطينية، ولاستئناف المفاوضات، حتى لو كانت عبثية ومن أجل المفاوضات، مثلما شهدنا منذ انقلاب الحكومات الإسرائيلية على اتفاق أوسلو رغم بؤسه، وتحديدًا منذ اغتيال إسحاق رابين، عقابًا له على تقديم تنازلات عن أرض "إسرائيل الكاملة"، واستعداده لتوقيع تسوية تقسيم أرض إسرائيل، حتى لو لم يكن نصيب الفلسطينيين كل أراضي 67.
كما أن سقوط الحكومة الإسرائيلية يعني أن الحكومة الجديدة ستكون متطرفة، وربما أكثر تطرفًا، في وقت اختارت الإدارة الأميركية التزامها بالسقف الذي حددته حكومة إسرائيل، لأنها مشغولة بقضايا أخرى، وجراء ضعف العامل الفلسطيني، وانقسامه على نفسه، ومعاناته من التوهان في ظل حقائق عنيدة لا يراها وتحديات جسيمة، بينما العرب في وضع سيئ للغاية، والعالم منشغل بقضايا أخرى، ما يضاعف المسؤولية على الفلسطينيين للقيام بما من شأنه تغيير اهتمام العالم بقضيتهم.

وإذا عدنا بالذاكرة إلى الوراء نجد أن ما سمي بعملية السلام ولدت مختلة منذ البداية، ولم تستند إلى مرجعية ملزمة تتضمن حتى الحد الأدنى من الحقوق الفلسطينية، ولا إلى ميزان قوى قادر على فرض تسوية مقبولة أو متوازنة، فإسرائيل لا تريد تسوية، وإنما فرض حلها على الأرض، واستسلام الفلسطينيين، ولا يمكن تغيير هذه الحقيقة إلا بتغيير جوهري على ميزان القوى من خلال المقاومة التي تزرع، وكل أشكال العمل السياسي، بما فيها المفاوضات التي تحصد، ومع ذلك يجب التفريق بين ثلاثة مراحل مرت بها السلطة:

المرحلة الأولى، عندما كانت هناك عملية سياسية والتزامات متبادلة رغم الخروقات الواسعة التي قامت بها الحكومات الإسرائيلية، واستمرت حتى استشهاد ياسر عرفات.

أما المرحلة الثانية فاستمرت حتى العام 2010، وبحد أقصى العام 2014، وفيها نفذت السلطة التزاماتها من جانب واحد بلا عملية سياسية.

وأما المرحلة الثالثة فتبلورت هذا العام بشكل جلي، وتتميز بالتعامل مع السلام الاقتصادي مع استمرار المطالبة بالمسار السياسي، ذلك لتجديد شرعية السلطة التي تآكلت بسبب فشل مشروعها السياسي، وعدم الاحتكام إلى الشعب، وبؤس النموذج الذي قدمته في الحكم.

في هذا السياق، قدم الفلسطينيون جراء الأوهام بإمكانية التسوية تنازلات كبرى منذ البداية من دون الحصول على مكاسب توازيها، في ظل وهم آخر أن العملية مستمرة، وأن إسرائيل والولايات المتحدة بعد انهيار الاتحاد السوفييتي بحاجة إلى قيام دولة فلسطينية تكون جسرًا للتطبيع الإسرائيلي مع العرب لإقامة الشرق الأوسط الجديد الذي دعا إليه شمعون بيريز.

وقدمت القيادة الفلسطينية المتنفذة التنازلات وراء التنازلات بوهم أنها ستقود إلى تحقيق ما لم يتحقق في البداية من اعتراف بالحقوق الفلسطينية، وهذا منطق مقلوب، لأنك إذا لم تحصل على ما تريد في نفس الوقت الذي تعطي عدوك ما يريد ستفتح شهيته للتنكر لوعوده والتزاماته، وللمطالبة بالمزيد من التنازلات، وهذا ما حصل فعلًا.

تأسيسًا على ما سبق، يمكن تفسير ما حدث بخصوص مسار التسوية السياسية بعدما جاء بنيامين نتنياهو بعد إسحاق رابين، إذ كان هدفه الرئيسي - الذي اتفق عليه مع المحافظين الجدد - القضاء على أوسلو الذي عارضه منذ البداية، والحصول على تنازلات جديدة من الفلسطينيين، واستكمال خلق واقع يجعل الحل الإسرائيلي هو الحل الوحيد المطروح والممكن.

وعندما تولى أيهود باراك رئاسة الحكومة الإسرائيلية رفض - رغم أنه ينتمي إلى حزب العمل - تنفيذ التزامات إسرائيل في أوسلو، خصوصًا النبضة الثالثة، بحجة أن على الفلسطينيين أن يعطوا مقابل ما يأخذونه، وكأنهم لم يعطوا الكثير الكثير، لذلك أصر على الربط ما بين استحقاقات المرحلة الانتقالية والنهائية، وأقنع الرئيس بيل كلينتون بالدعوة لقمة كامب ديفيد في العام 2000، مع ترويجه بأن هدفه منها التوصل إلى اتفاق نهائي يحقق سلامًا تاريخيًا، في حين تبين أنه كان يريد إزالة القناع عن الرئيس ياسر عرفات ويظهره على حقيقته بوصفه "إرهابيًا" و"عدوًا للسلام".

وحمّل كلينتون عرفات المسؤولية عن فشل القمة التي لم يكن متحمسًا لها، رغم وعده بعدم فعل ذلك بقوله: "باراك أعطى أكثر، عرفات أعطى أقل"، لذلك فشلت القمة، ما فتح الطريق للعدوان العسكري الإسرائيلي لإجبار ياسر عرفات لقبول ما رفضه أو الرحيل، وأدى كل ذلك إلى اندلاع الانتفاضة الثانية التي انتهت بطرح خارطة الطريق، واستحداث منصب رئيس الحكومة في السلطة لتحقيق مطلب الرئيس الأميركي بوش الابن الذي أعلنه في خطابه في حزيران 2002، لتغيير القيادة الفلسطينية بقيادة جديدة تحارب "الإرهاب "وتصنع السلام.

وعندما فشلت خطة تغيير القيادة الفلسطينية سلمًا، حُوصر عرفات واغتيل. وتصوّر الرئيس محمود عباس بأن فرصته في تحقيق السلام أكبر بكثير من سلفه، لأنه مؤمن بالسلام ويعارض المقاومة، وبأن ما لا تحققه المفاوضات يحققه المزيد من المفاوضات، وأن تطبيق الالتزامات، ولو من جانب واحد، والالتزام بالتنسيق الأمني وكل الالتزامات، وإثبات الجدارة وبناء المؤسسات تحت الاحتلال كفيل بتحقيق الدولة الفلسطينية التي فشل عرفات في تحقيقها.

ورغم الإنذارات المبكرة المتمثلة في طرح حكومة أيهود أولمرت ضرورة الاعتراف بإسرائيل كدولة يهودية، والتخلي عن المطالبة بحل عادل لقضية اللاجئين، لدرجة أعلنت تسيبي ليفني، وزيرة الخارجية في حكومة أولمرت، عن رفضها لعودة لاجئ واحد، ومعارضتها لما طرحه رئيس حكومتها من أفكار على الرئيس عباس، مع أنها أقل بكثير من تلبية الحد الأدنى من الحقوق الفلسطينية؛ لم تتخل القيادة عن الأوهام والرهانات الخاسرة، وسقط أولمرت، وجاء نتنياهو المعروف بمواقفه المتشددة بعد أن أصبح أكثر تطرفًا، مرة أخرى، إلى رئاسة الحكومة، وأقنعته إدارة الرئيس باراك أوباما بالدخول في مفاوضات في العام 2010، وهي تعرف أنه ليس جادًا، ولكن لكي تضمن بقاء القيادة الفلسطينية متعلقة بأذيال المفاوضات واحتمالات استئناف المسيرة السلمية، لضمان استمرار سير السلطة في ذات الطريق ومنع دعمها للانتفاضة وعدم إقدامها على حل السلطة أو تغيير وظائفها، خصوصًا بعد شروع الرئيس عباس في هذا العام بالحديث عن الخيارات السبعة التي تتضمن تسليم مفاتيحها للاحتلال.

وتبنت الإدارة الأميركية في عهد الرئيس دونالد ترامب الرؤية التي يتبناها اليمين الإسرائيلي، كما تجسدت بـ"صفقة القرن" التي تهدف بشكل جلي إلى تصفية القضية الفلسطينية من مختلف جوانبها، من خلال خطة السلام الاقتصادي بوصفها بديلًا من المسار السياسي، وما حديثها عن الدولة الفلسطينية سوى ذر للرماد في العيون، فهي كما صرح نتنياهو ليست دولة، وهناك شروط تعجيزية يجب تلبيتها حتى تقوم، كما أن الأميركيين يسموها دولة وما هي بدولة.

وعارض الكل الفلسطيني، بما في ذلك القيادة والسلطة، صفقة القرن. وتفاءلت السلطة بسقوط ترامب ونجاح جون بايدن في الانتخابات الرئاسية الأميركية، واعتبرته سقوطًا للصفقة، مع أنها تطبق من دون بند الضم الذي أصلًا أُجّل لعواقبه، وسارعت إلى التراجع عن قرارها وقف العمل بالاتفاقيات من دون مقابل، وحتى قبل أن يتسلم بايدن مقاليد الحكم. وجعلت سقف مطالبها العودة إلى ما قبل الانتفاضة الثانية، وكأنه كان النعيم وليس الذي أوصلنا إلى ما نحن فيه.

لقد تصورت السلطة أن المفاوضات من أجل حل الدولتين ستستأنف، من دون الوهم القديم بإمكانية تحقيقها، وأن القنصلية الأميركية في القدس ستفتح، وكذلك مكتب منظمة التحرير في واشنطن، لتفاجأ بأن شيئًا من هذا لم يحدث، رغم إعادة تشكيل الحكومة الإسرائيلية بمشاركة حزب "أزرق أبيض"، ورغم سقوط حكومة نتنياهو فيما بعد، لتجد السلطة أمامها جدار سميك وعالٍ جدًا يتمثل في رفض حكومة نفتالي بينيت أي مفاوضات سياسية على أساس رفض قيام الدولة الفلسطينية، مع تقبل أميركي، لأن إدارة بايدن مشغولة بملفات أخرى داخلية وخارجية، ولأنها ليست بوارد الضغط على الحكومة الإسرائيلية خشية من سقوطها وعودة نتنياهو، ولعدم وجود ضغط فلسطيني وعربي ودولي يجبرها على خلاف ذلك.

لقد اتفقت إدارة بايدن مع حكومة بينيت على أن أقصى ما يمكن عمله خطوات بناء ثقة مقابل التعاون والتنسيق الأمني، وتوهمت السلطة في البداية بقبولها بهذه الخطة بأنها المرحلة الأولى التي تمهد لاستئناف المفاوضات بعد تولي يائير لابيد رئاسة الحكومة الإسرائيلية، الذي أعلن مؤخرًا أنه لن يستأنف المفاوضات عند توليه سدة الحكم، ما جعل السلطة عارية وليس أمامها سوى إما التراجع وتبني خيار آخر عن الذي سارت به وتتوغل به باستمرار، أو القبول بالسلام الاقتصادي مع استمرار مطالبتها باستئناف المسار السياسي إلى أن يقضي الله أمرًا كان مفعولًا، فقبول شيء أحسن من لا شيء.

أثبتت التجارب الماضية خلال العقود الماضية والحالية خلال العام المنصرم أن التنازلات المجانية تقود إلى المزيد من التنازلات المجانية، وأن التعاطي مع السلام الاقتصادي سيجعله بديلًا من المسار السياسي، وسيعطي شرعية للاحتلال، ولن يجعل الإدارة الأميركية وأوروبا والمجتمع الدولي والدول العربية بوارد الضغط من أجله، فلن يكونوا ملكيين أكثر من الملك الفلسطيني، مع أنهم إذا أردنا الحقيقة إما زينوا له سلوك هذا الطريق بحجة ليس بالإمكان أبدع مما كان، أو التزموا صمت القبور.

عندما يقرأ أي إنسان خطة لابيد إزاء قطاع غزة التي يستغرق تطبيقها سنوات عدة، وعنوانها اقتصاد مقابل تهدئة، ويرى أن في إسرائيل اليوم أكثر من 90 عضو كنيست يدعمون خطة السلام الاقتصادي، وأن من سيخلف الحكومة الحالية حكومة متطرفة مثلها، إن لم تكن أكثر تطرفًا؛ يدرك أن التعاطي مع السلام الاقتصادي يفتح طريق تنفيذ الحل الإسرائيلي ولا يفتح طريق السلام.

إذا توفر الوعي والإرادة هناك دائمًا بديل مهما كان الوضع صعبًا، وبالفعل هناك أفكار يمكن أن تشكل أساسًا لبديل واقعي سنعرضه في نهاية هذه السلسلة من المقالات.