شهد عام 2021، تصعيداً في حجم الاعتداءات الجوّية الإسرائيلية على سوريا ونوعيّتها، وهو ما تتداخل في خلفيّته عوامل مؤثّرة عديدة، لا تتوقّف عند مسار المفاوضات النووية، بل تمتدّ إلى نوع من «التناغم» بين الرياض وتل أبيب، حول النشاط الإيراني في هذا البلد، و«انطلاقاً من سواحله»، وعلاقة ذلك بالدور الذي تلعبه إيران في الإقليم. وإذ تتفاقم حالة الاستياء السوري العام من الأداء الروسي حيال تزايد تلك الاعتداءات التي لم تستثنِ ميناء اللاذقية، فاللافت فيها اليوم هو أنها بدأت تتسلّل إلى داخل صفّ الضباط الكبار في الجيش السوري، حيث يسود اعتقاد بأن ثمّة «تغاضياً روسياً فاضحاً - إن لم يكن تفويضاً -»، عن السلوك الإسرائيلي
للعام التاسع على التوالي، تابع العدو الإسرائيلي اعتداءاته على الساحة السورية، والتي كان بدأها بشكل علني في عام 2013. وبلغت حصيلة تلك الاعتداءات، في عام 2021، 29 عملية جوّية علنية، توزّعت على مناطق عديدة، من البوكمال إلى شرقي تدمر وجنوبي حلب واللاذقية وغربي حمص ومحيط دمشق الجنوبي والغربي والقنيطرة والسويداء. كما شهدت المنطقة الشرقية القريبة من الحدود مع العراق، حوالى 17 عملية قصف، من دون التمكّن من تحديد الجهة المسؤولة عنها، إلّا أن المسؤولية تكاد تنحصر عملياً بالأميركيين والإسرائيليين. وتنوّعت أهداف العمليات الإسرائيلية، ما بين عسكرية معروفة يجري استهدافها بشكل دوري، وأخرى سرّية ونوعية. كذلك، واصل العدو نشاطه في جبهة الجولان السوري المحتلّ، حيث حافظ على وتيرة عالية من الحساسية تجاه أيّ نشاط على الحدود هناك، وقام عشرات المرات باستهداف نقاط عسكرية متنوّعة، وتنفيذ اغتيالات، وإلقاء مناشير تحذيرية.
تصاعد في العمليات
شهد عام 2021 تصعيداً لناحية حجم الاستهداف خلال الحملة الجوّية الواحدة، حيث كان يتمّ حصد أهداف عديدة في دقائق معدودة. كما بدا واضحاً حرص العدو على عدم قتل أيّ من مقاومي «حزب الله» تحديداً، وذلك استجابةً لمعادلة الردع التي ثبّتها الحزب، من خلال تأكيد حتمية الردّ على أيّ استهداف لعناصره. ولم تتوقّف العمليات الجوّية الإسرائيلية في سوريا، تحت أيّ ظرف، حتى خلال معركة «سيف القدس» في شهر أيار الفائت. ومع أنها شهدت انخفاضاً ملحوظاً في الفترة التي سبقت تشكيل حكومة إسرائيلية جديدة بقيادة نفتالي بينت في شهر حزيران الفائت، إلّا أنها سرعان ما عادت إلى الارتفاع بشكل لافت، عقب زيارة بينت إلى موسكو، ولقائه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، حيث اتفق معه على «الحفاظ على حرّية عمل سلاح الجوّ الإسرائيلي في الأجواء السورية». كذلك، يُلاحَظ أن العدو توقّف، منذ منتصف العام تقريباً، عن استهداف مطار دمشق الدولي، وتحوّلت معظم عملياته إلى مطار «T4» العسكري في ريف حمص الشرقي، في ظلّ الحديث المتزايد عن انسحاب المستشارين العسكريين الإيرانيين، والقوّات العاملة معهم، من محيط مطار دمشق، وتحويل الرحلات الجوّية الخاصة بهم إلى مطار «T4». أيضاً، تراجعت الاعتداءات الإسرائيلية على دمشق ومحيطها بشكل عام، خلال النصف الثاني من العام، مقابل تركّزها في المنطقة الواقعة بين حمص وتدمر شرقاً.
الأهداف الإسرائيلية
لخّصت صحيفة «جيروزاليم بوست» العبرية، استراتيجية الكيان الإسرائيلي في سوريا، باعتبارها أنها تتمحور حول أربعة أهداف رئيسة. الأول، هو «استمرار إحباط محاولات نقل الأسلحة الإيرانية عبر سوريا إلى حزب الله، ولا سيما الأسلحة النوعية التي قد تُغيّر قوانين اللعبة». والثاني، هو «تأمين المنطقة الجنوبية القريبة من حدود الجولان، عبر منع حزب الله من بناء القدرات هناك». وثالثاً: «منْع نظام الأسد من تطوير قدرات عسكرية غير تقليدية، كالأسلحة الكيميائية أو النووية». أمّا الهدف الرابع، فهو «مواجهة مشروع تحويل سوريا إلى منطقة نفوذ عسكرية تابعة لإيران، وهو ما تتمّ مواجهته بضربات دقيقة، واستنزاف مستمر». كما أن دخول عامل المفاوضات حول الملفّ النووي الإيراني، أخيراً، على الخطّ، زاد من حدّة القصف الإسرائيلي، بهدف ممارسة المزيد من الضغوط على إيران.
وفي سبيل تحقيق هذه الأهداف، وصل الأمر بالعدو إلى استهداف ميناء اللاذقية مرّتَين خلال الشهر الجاري، بزعْم «وجود قطع لتطوير أسلحة نوعية في حاوية من حاويات المرفأ». وفي حين استهدف القصف الأول حاوية واحدة أو اثنتَين، فإن القصف الثاني طاول عدداً كبيراً منها، في ما يبدو أنه رمى إلى إيقاع خسائر جسيمة داخل المرفأ وفي محيطه. وهنا، يُسجَّل الاقتراب الشديد للغارات الإسرائيلية من القواعد الروسية الأساسية المحاطة بالدفاعات الجوّية المختلفة وأجهزة الإنذار المبكر (أقلّ من 15 كم عن قاعدة حميميم)، الأمر الذي يُعدّ تطوراً لافتاً في الجرأة الإسرائيلية، وكذلك في التنسيق مع الجانب الروسي، الذي أعلن أن «الدفاع الجوي السوري لم يدخل قتالاً جوياً، بسبب تواجد طائرة تابعة لقوات النقل العسكري للقوات الجوية الفضائية الروسية، خلال عملية الهبوط في مطار حميميم، وقت الضربة، في نطاق نيران منظومات الدفاع الجوي».
وفي المقابل، سُجّلت حالة استياء عارم من الاعتداءات الإسرائيلية المتزايدة، ليس لدى المواطنين والنُّخب الاجتماعية والاقتصادية والسياسية في سوريا فقط، بل بدأ الاستياء يتسلّل بشكل واضح إلى داخل صفّ الضباط الكبار في الجيش السوري، وخصوصاً ممّا يعتقدون أنه «تغاضٍ روسي فاضح - إن لم يكن تفويضاً -»، بحسب تعبير مصادر عسكرية سورية رفيعة، عن الأداء الإسرائيلي الذي تجرّأ على الضرْب في قلب «المحمية» الروسية، من دون أن يأتي الجانب الروسي بأي ردّ فعل، حتى إنه لم يحاول التصدّي للصواريخ. كما تستغرب المصادر العسكرية «الصمت الروسي عن استغلال العدو الإسرائيلي ـــ مرّة أخرى ـــ وجود طائرة نقل روسية في الأجواء، لتنفيذ اعتداءاته، ما يعني الاحتماء بالروس، وتعريض جنودهم للخطر، في آن واحد».
تناغم سعودي ــ إسرائيلي
وفي خلفية المشهد الصاخب لقصف ميناء اللاذقية، تتوارى عدّة مسارات أنبأت بدخول الميناء ضمن دائرة الاستهداف، إذ بحسب مصادر سورية مطّلعة تحدّثت إلى «الأخبار»، فقد كانت السعودية أبلغت القيادة السورية، بأنها تعتقد أن «ثمّة عمليات نقل سلاح إلى أنصار الله في اليمن، تتمّ انطلاقاً من ميناء اللاذقية»، وشدّدت على ضرورة وقْف هذه العمليات، ولوّحت بأن هذا المسار «يهدّد احتمالية عودة دمشق إلى الحضن العربي». وفي المقابل، نفى السوريون تلك الادّعاءات نفياً قاطعاً، في حين لم يقدّم السعوديون أيّ أدلّة تدعمها. وقبل ذلك، كانت السعودية أيضاً، قد أبلغت القيادة السورية، بأنها «توقّفت منذ 3 سنوات عن تقديم أيّ شكل من أشكال الدعم للمعارضة السياسية أو المسلحة، وتحديداً منذ صيف 2018، وفي المقابل لم يَحُدّ السوريون من علاقاتهم مع إيران أو حزب الله، وهذا ما يخالف السياق (العربي الرسمي) في التعاطي مع السوريين، عبر آلية الخطوات المتقابلة، والتي تنتهجها الرياض وعمّان بشكل خاص». ويبدو أن المواقف السورية الرافضة لتحجيم أو قطع العلاقات مع قوى «محور المقاومة»، وخصوصاً إيران و«حزب الله»، أثارت حفيظة السعوديين الذين سارع مندوبهم الدائم في الأمم المتحدة، قبل نحو أسبوعين، إلى مهاجمة القيادة السورية، وتحديداً الرئيس بشار الأسد، واصفاً إيّاه بأنه «يقف فوق هرَم من جماجم الأبرياء، مُدَّعِياً النصر العظيم». ويُظهر السياق السابق، تناغماً سعودياً - إسرائيلياً في استهداف مرفأ اللاذقية الحيوي، الذي أرجعت تل أبيب الغارات عليه إلى «وجود قدرات تسليحية نوعية، يجري نقلها عبره من إيران إلى الأراضي السورية».
حسين الامين/الاخبار اللبنانية