بتول قصير
لعل أبرز ما يميز جيوسياسية الولايات المتحدة الأمريكية في منطقة الشرق الأوسط، هي أهميته الإستراتيجية، المرتكزة على عدة عوامل أبرزها الاحتياطي الضخم من النفط، والتحكم في خطوط الملاحة الدولية، إلى جانب الهدف الأبرز وهو تأمين حماية لـ "اسرائيل" والعمل على إحياء دورها الوظيفي، إضافةً إلى سعيها لإعادة بناء الشرق الأوسط، وهذا ما حاولت الإدارة الأمريكية العمل من أجله عبر شعارات نشر الحرية والديمقراطية المزيفة التي لطالما ادّعتها عبر تصريحات مسؤوليها في الادارات المتعاقبة.
فالولايات المتحدة الأمريكية انفردت بقيادة العالم خاصة في عهد الرئيس جورج بوش الابن الذي عزز هيمنتها في النظام السياسي الدولي دون الحاجة لحلفاء، وأدى ذلك الى انتاج سمة جديدة أساسية للنظام العالمي - الأحادي القطبية، المتمثل بتعاظم القوة السياسية والعسكرية التصاعدية. وتسعى أميركا بشكل دؤوب للبقاء كمحور استراتيجي متحكم في المنطقة ما يشير إلى أن الدولة لكي تكون مؤثرة في النظام السياسي الدولي عليها أن تمتلك القوة، وليس القوة العسكرية فحسب، بل أيضاً قدرات مادية ومعنوية.
فقد أجمع مفكرو السياسة على أن الدول تتوزع توزيعاً متوازناً بين الأركان الثلاثة للقوة، القوة العسكرية - العنف، والقوة الاقتصادية - الثروة، فضلاً عن العلوم التقنية والثقافية - المعرفة.
التحولات التي طرأت، أحدثت تغيراً في الموازين الدولية تبعه تحولات في الفكر الذي صنع مفاهيم النظام العالمي الجديد. وساهمت المرجعيات الفكرية التي تدعو صانع القرار في الولايات المتحدة إلى الدخول إلى عالم جديد - أحادي القطبية- بنشوة المنتصر. فهؤلاء المفكرون أثروا بشكل كبير لاستمرار هيمنة أمريكا على العالم، فضلاً عن وجود تيار المحافظين الجدد، الذي كان له الدور الأكبر في دفع الولايات المتحدة إلى الهيمنة من خلال ما تمتلكه أمريكا من مقومات قوة أهلتها لكي تكون الدولة الأولى في العالم.
ولأن عملية نظام السياسة الخارجية للولايات المتحدة الأمريكية تقوم في جوهرها على مبدأ "الرقابة والتوازن"، فإن عملية صنع السياسة الخارجية تتسم بالتعقيد والتشابك نظراً لتداخل الصلاحيات وتأثير المؤسسات الرسمية وغير الرسمية كجماعات الضغط ومراكز الأبحاث على سبيل المثال لا الحصر.
وتزامناً مع ما شهدته العلاقة بين كل من المؤسستين التشريعية والتنفيذية من خلل لمصلحة الأخيرة، وهيمنة رئيس البلاد على عملية صنع القرار والتفرد به ما أدى إلى إحداث إخفاقاتٍ عدة بالاضافة الى خوض حروبٍ وحملات عسكرية لا نهائية في دول عدة وخاصة في الشرق الاوسط (افغانستان - العراق - سوريا - اليمن...)، انعكست هذه الاخفاقات سلباً على السياسة الداخلية للولايات المتحدة الأمريكية، مما استدعى من المؤسسات التشريعية السعي الجدي لاستعادة دورها في عملية صنع القرار الأمريكي، واستدعى فرض الضغط على الرئيس الامريكي، في ظل الانقسام الحزبي والسياسي ليس بين الحزبين الجمهوري والديمقراطي فحسب، بل داخل كل حزب على السواء.
وقد شكلت أحداث 11 سبتمبر حدثاً مفصلياً ونقطة تحول للولايات المتحدة الأمريكية ولأمنها القومي، مما جعلها تقوم بمراجعة منظومة الأمن القومي الأمريكي، بهدف سد الثغرات التي كشفت عنها تلك الهجمات، والعمل على منع حدوثها في المستقبل. وقد أدت هذه الأحداث إلى ازدياد عدد التدخلات الأمريكية في شؤون الدول الأخرى؛ حيث بدأ صانعو السياسات الأمريكية يتساءلون عما إذا كانت الأنظمة السلطوية في الشرق الأوسط تستطيع الاستمرار في المحافظة على المصالح الأمريكية. ومن الواضح أن إدارة بوش الابن كانت تعتقد أن الطريقة المثلى لذلك هي تعزيز الديمقراطية والإصلاحات على نطاق واسع في الشرق الأوسط من خلال استخدام القوة الخشنة التي مارستها في المنطقة العربية، والتي نتج عنها اسقاط أنظمة سياسية وممارسة ضغوط سياسية واقتصادية على أنظمة أخرى.
وبعد سنوات من الحروب الاستباقية والانفراد الأمريكي بالقرار، والتي أدت إلى تدهور صورة الولايات المتحدة في الشرق الاوسط عامة والعالم العربي خاصة، وما أعقبها من سلسلة انسحابات أمريكية من مناطق عدة كالانسحاب الكلي من أفغانستان مرورا بقرار الانسحاب من العراق واقتصار تواجد قوات امريكية (ما يقارب 2500 جندي) للقيام بمهام استشارية وتدريبية للقوات العراقية، فإننا نلحظ تبدلاً في السياسة الخارجية الأمريكية تجاه الشرق الأوسط مع تبدل رؤساء البيت الأبيض بشكل عام، والفترة التي امتدت بين ولايتي أوباما وترامب تحديداً، وصولاً إلى عهد جو بايدن. إلا أن مشهد الانسحاب إنما يعبر عن تخطيط أمريكي فاشل استمر لعقود بين قصف واحتلال أمريكي للدول ثم خروج سريع، وهو سلوك متكرر على مدى عقود بدأ من الصومال مروراً بالعراق وأفغانستان وسوريا وليبيا.
وتجدر الإشارة إلى أن نهاية التواجد العسكري الأمريكي في الشرق الأوسط لا يعني وقف التدخل نهائياً، أو حتى توقف كامل للمشاركة العسكرية الأمريكية في الخارج في كافة المناطق، ولم يعلن البنتاغون عن وجهة تلك القوات فيما بعد، التي قد تكون في المحيطين الهندي والهادي لمواجهة الصين.
إن الانكفاء العسكري الأمريكي التدريجي من الشرق الأوسط يفترض إنتاج سيناريو استمرار نوع من الصراع التعاوني المتبادل الادوار الذي يحتم على الأطراف الاقليمية التفاوض، وتبادل وجهات النظر بشأن الكثير من أزمات ومشاكل المنطقة، وبالتالي إمكانية تقاسم النفوذ الاقليمي في المنطقة لا سيما في (سوريا، العراق، اليمن).
خلاصة القول، إذا كان التدخل الأمريكي في الشرق الأوسط قد بلغ ذروته في أواخر العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، مع الزيادة المفاجئة لعدد العناصر العسكرية في العراق وعشرات الآلاف من القوات في أفغانستان، فإن الوجود الأمريكي الحالي يعكس بالتأكيد شيئاً من الانسحاب. من غير المتوقع أن يكون أي رئيس للولايات المتحدة، في المستقبل القريب، على استعداد للعودة إلى هذا المستوى من التورط العسكري. ومع ذلك، من الواضح أيضاً أن الأفكار الأكثر تطرفاً بشأن الانسحاب الإقليمي للولايات المتحدة مستبعدة إلى حد كبير.
وبحسب كتاب "القوى الإقليمية في الشرق الأوسط، إعادة التشكيل بعد الثورات العربية"، ترجع سيناريوهات صعود أو هبوط قوة إقليمية في منطقتها إلى مجموعة من العناصر (مقومات ومعوقات) تحدد فرص كل دولة، تتمثل في قدرة الدولة على تحمل القيادة انطلاقاً من مقومات القوة التي تحوزها (قد تكون جغرافية، أو سياسية، أو عسكرية، أو اقتصادية)، ودرجة استقرارها السياسي والأمني، ورصيدها القيادي التاريخي ونفوذها الرمزي (الثقافي والديني)، وموقفها من القضايا المحورية في المنطقة (القضية الفلسطينية، حركات المقاومة الفاعلة إقليمياً، الملف النووي الإيراني، الربيع العربي)، ومدى القبول الإقليمي بالدور القيادي لكل دولة، وأخيراً علاقاتها مع بعض القوى الدولية الصاعدة كروسيا والصين. كما أن الجدال حول سياسة الولايات المتحدة في الشرق الأوسط يحتاج للابتعاد عن الأفكار المجردة مثل الالتزام مقابل الانسحاب والانخراط في المسائل الحقيقية حول المصالح التي تبرر وجود القوة العسكرية الأمريكية في الشرق الأوسط والتهديدات التي تبرر استخدام هذه القوة.
المصدر: العهد الاخباري