عبير بسام
مثلت مرحلة الربيع العربي أملاً عبرياً في كل ما جلبته على المنطقة العربية من ضعف وخراب، وتسلط الأنظمة “الديمقراطية” المطبعة مع العدو الصهيوني. ربيع، أوائل غيثه وقف عضوية سوريا في جامعة الدول العربية، ومحاولة تهشيم صور القادة في نفوس العرب، عبر سحب جثثهم في الشوارع أو إظهارهم للملأ بمظهر مذل. حيث ابتدأً “الربيع” بتحطيم صور القادة وتكسير تماثيلهم والآثار التاريخية للبلاد، وانتهى بتفكيك النظام وإبقائه دون رأس للقيادة، بينما رؤوس قادة أمريكا ما تزال محفورة في صخورها.
ليس الأمر دفاعاً عن نظام فاسد هنا أو هناك، أو عن ظاهرة انتشار التماثيل والصور وهي عالمية، وليست في بلاد العرب فقط، ولكن الأمر كان يراد منه تحطيم الشخصية القائدة في الذهن العربي، وهذا ما حدث في الاتحاد السوفيتي السابق وفي المنظومة الشيوعية حيث انهارت الانتماءات والرموز وتم قسيم الدول إلى ما يشبه الدويلات. وسَهُل بعدها انهيار نظام الدولة بدفع الشباب والشيب نحو اللجوء إلى مجموعات قوية من أجل الحماية أو من أجل الأمان من شرها. فلجوء المواطن العربي إلى مجموعات إرهابية في كثير من الدول العربية التي مسها جنون الربيع العربي كان الهدف منه واحدًا ألا وهو تحطيم صورة الدولة تحضيراً لتقسيمها كما حدث في أوروبا الشرقية سابقاً.
وفي سوريا أول ما فعلته الجماعات المخربة، عفواً “الثوار”، في درعا كان تحطيم وحرق دوائر الدولة وخاصة القصر العدلي، والذي يعتبر رمزاً في كينونته، اذ يزخر أرشيفه ومكاتبه بملفات المجرمين من مهربين وقتلة وسارقين ومغتصبين تحولوا إلى قادة الثورة. وحتى ملفات قضايا الإرث والخلافات على الأراضي وتسجيل الممتلكات، تم حرقها أملاً بضياع القضايا والحقوق. وما فاقم الوضع أكثر، أنه في كل مكان حلت فيه المجموعات الإرهابية اعتبرت أن أملاك الهاربين، أو من ينتمون لطوائف أو ديانات معينة هي مغانم حرب، فاحتلوها أو باعوها بأثمان بخسة، وترك أصحابها مشردين. حتى النساء والأطفال باتت مشاعات للتجارة والملكية والاغتصاب و… انتهاكات منظمة هدفها بث الرعب في نفوس المواطنين، الذين كانوا يعيشون في حالة أمان وأمن، فهرب معظمهم، وكان هذا أيضاً مطلباً دولياً للعب على أزمة اللاجئين واستغلالها.
لا يمكننا التقليل من شأن تأثير ظهور بيئة مريضة تدفع الناس للقبول بأي نظام حكم قادم مهما تكون عيوبه ومساوئه في دفع الدولة نحو التمزق والخراب. ولننظر إلى التجربة التونسية وما جاء بعدها من تجارب في السودان وتقسيمها ومحاولة تطبيقها في ليبيا، وتجربة الجزائر وتغيير النظام السياسي الرئاسي فيها إلى برلماني بعد خروج المظاهرات. بقراءة بسيطة يمكننا أن نفهم كم كان سيكون تأثير هذه التجارب هداماً لو أن سوريا خسرت الحرب وخضعت للشروط الغربية بحسب ما كان يرتجى من عمل اللجنة الدستورية، التي من المفترض أن تتشكل من ثلاث مجموعات تعمل على تعديل الدستور.
تجربة المجموعات، تعيدنا إلى أوروبا العصور الوسطى، حيث كان يقسم مجلس العموم أو الشعب إلى ثلاثة أقسام: قسم يمثل النبلاء الأرستقراطيين، وقسم يمثل رجال الدين، وقسم يمثل عامة الشعب. ولم يكن تعداد الممثلين في داخل كل قسم بذي معنى. إذ كان التصويت على أي قرار حكومي يحتاج إلى ثلثي التمثيل، وما أراد الملك تمريره يمر بسهولة عبر موافقة كتلتي رجال الدين والأرستقراطيين، ويبقى قسم عامة الشعب بلا قرار، أو قراره غير مؤثر. وهذا بالضبط ما كان متوقعاً من تشكيل الكتل الثلاث المنوطة بوضع تعديلات الدستور السوري. بذلك تكون الدولة السورية خارج بنود القرارات التي سيجمع عليها ثوار الفنادق في تركيا وأوروبا إلى جانب ممثلي الأمم المتحدة المشاركين بتنصيب القرار الأميركي في سوريا، ويتم تعديل نظام الحكم ليتوافق مع ما تمت تجربته في تونس والعراق ولبنان، من نظام قوي إلى نظام عاجز يحاصر القرارات والاقتراحات ويدفعها للدوران في دوائر لا متناهية.
بعد الربيع العربي، لنقرأ ما حدث في تونس على سبيل المثال، حيث أصبح النظام برلمانياً. وما يختلف في تونس، انتخاب الرئيس مباشرةً من قبل الشعب، ولكن صلاحياته محدودة، حيث يقوم البرلمان بتزكية اسم رئيس الوزراء وهو ذو صلاحيات واسعة، وما يضبط صلاحياته وقرار عزله أو التمديد له أو التصويت على تعيينه هو الاستشارات النيابية. ولكن بالمحصلة تتحكم بالبلد رئاسات ثلاث غير متوافقة. تسع سنوات من الثورة لم تستطع تحسين الواقع الاقتصادي في تونس وازدادت البطالة، وازداد الاستياء في تونس من المنظومة الحاكمة التي تشهد مواجهات مع الشعب. والأكثر من ذلك يصعب في هذا النظام المقسم تحديد المسؤولية أو اتحاذ قرارات جريئة ومناسبة من أجل تطوير البلاد، ولولا الانتفاضات الشعبية وموقف الرئيس قيس السعيد كاد النظام ليأخذ تونس نحو اتفاقية ابراهام أسوة بالمغرب.
النظام العراقي يشبه في تركيبته النظام السياسي في لبنان، والذي ينتخب فيه أعضاء المجلس النيابي بحسب الحصص الطائفية والمناطقية، وهذا يؤدي بالنتيجة إلى حصص طائفية في تركيبة الوزارة، وحتى في توزيع وظائف الدرجة الأولى. في المحصلة، جميع الدول التي انقلب فيها نظام الحكم ليصبح نظاماً برلمانياً يقطع فيه الرأس ويغدو قرار الدولة مشتتاً، حتى فيما يتعلق بقرارات البلد المصيرية والتي تتعلق بالعلاقات الخارجية وسيادة الدولة والتنمية وبناء أو تحسين البنى التحتية وتأمين فرص العمل. كما تسمح هذه الأنظمة بحماية الفاسدين في الدولة بسبب الحساسيات الطائفية، والتكتلات السياسية وتمترسها وكأنّها في حرب ضروس، ويغيب رأس الدولة المسؤول. وهذا بالضبط ما كان يراد لسوريا عبر عملية تغيير الدستور وتوزيع الصلاحيات ما بين رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء ورئيس مجلس الشعب وتحويل النظام العلماني العروبي فيها إلى نظام طائفي، أي عرقنة سوريا لتفتيت قوتها.
تقسيم الصلاحيات بين القوى الثلاث في سوريا سيفتت القرار السياسي الخارجي والقرار السيادي ويقسمه بين مناوئ وموالٍ للقرارات الأميركية والصهيونية. وسيجعل سوريا ضعيفة وعرضة للضغط كما حدث في السودان، ويضعها تحت واقع فرض اتفاقية أبراهام مع “اسرائيل” بعكس الإرادة الشعبية، وهو ما كاد يحدث في الجزائر وتونس. أمر لم يكن من الممكن توقع حدوثه قبل سنوات الربيع “العربي”. وما رأيناه في مؤتمر أربيل في آخر الشهر الماضي ليس إلّا مثالا عما ستؤول إليه الأمور في حال تم تغيير النظام السياسي للحكم في سوريا، وأعطي الأكراد إدارة ذاتية، مرة أخرى وفي منطقة ليس لهم فيها أي حق تاريخي. وفي حال تم هذا الأمر، لا يمكننا أن نقدر مدى تأثيره على ثقة المواطن السوري بدولته. وبالتالي يمكننا أن نفهم كيف تنهار الدول من الداخل إذا انعدمت ثقة المواطن بالدولة وبقدرتها على حمايته وحماية حقوقه وأهم ما في ذلك حماية كل شبر من أرضها.
وتماسك الثقة في الداخل، هو ما أبقى سوريا والسوريين صامدين حتى اليوم. رمزية وجود رأس للدولة يعني أن توجه الدولة واضح، وقرارها محدد بحسب أولوياتها، قد تكون معادية لنفسها كما في رأس دول بعض الممالك العربية، ولكنها واضحة. ونعرف ماذا نتوقع منها وكيفية التعامل معها. ولكن أن تضيع سوريا بين عروبتها وبين قرارها المفتت معناه أن أمر العرب قد ضاع إلى ما لا عودة. لنتبين المشهد بوضوح: ما زال حتى اليوم يرفع العرب في بلادهم وخاصة في تونس وفلسطين علم الجمهورية العربية السورية خلال مظاهراتهم، ولذلك رمزيته وسببه صمود سوريا ورفضها لأيّة قوة احتلال أو تغيير قسري يفرض عليها. لذا لا يمكن لسوريا اليوم أن تقبل بأية إدارة ذاتية، ومؤتمر أربيل يمثل الصورة الواضحة للموقف الكردي في منطقتنا، ويجب قول ذلك، اليوم، بوضوح ودون مواربة.
صمود رأس الدولة في سوريا وثبات موقفها هو ما يمكنه أن يحفظ قوة العرب. بعد معاهدة كامب ديفيد، صمود سوريا، التي حوصرت منذ حرب تشرين وحتى حرب صدام حسين على الكويت، هو ما أبقى للعرب كياناً. قبل ثمانية وأربعين عاماً، كانت مصر وسوريا رمزا العروبة، تقودان حرب السادس من تشرين ضد “اسرائيل”، وفي مثل هذه المناسبة في العام الماضي نشرنا على موقع “العهد”، البطولات العربية والمشاركة العربية في الحرب من المحيط إلى الخليج. كان العرب قوة يحسب لها وزنها استنفرت الأميركي والغرب. والعرب دون صمود سوريا هم شرذمة تتناتفها القرارات الصهيونية. ولكي ينهض القرار العربي من جديد يجب أن تنهض سوريا في كل شبر من أرضها.
المصدر/ العهد الاخباري