معهد السياسة والاستراتيجية - بقلم: فريق المعهد برئاسة اللواء احتياط عاموس جلعاد "تشهد إسرائيل واقعاً أمنياً مريحاً، ولكن تحديات الأمن القومي تتعاظم. يركز خصوم إسرائيل على بناء القوة، وبقدر أقل على استخدامها، ويمتنعون عن التصعيد في ضوء الأثمان الباهظة والمشاكل الداخلية القاسية التي تستوجب الرد. ومع ذلك، فإن التهديد الاستراتيجي على أمن إسرائيل يتعاظم.
إن إحباط بنية حماس التحتية في يهودا والسامرة أبرز خطورة تهديد الإرهاب ونجاح قوات الأمن في الحفاظ على الاستقرار الأمني. ومثل حدث فرار نشطاء الجهاد الإسلامي من سجن جلبوع، فإن قدرة قوات الأمن على إغلاق الدائرة بسرعة ومنع تحول الحدث التكتيكي إلى حدث ذي معان استراتيجية، تشكل نجاحاً عملياتياً مبهراً، ولكن بالتوازي تبرز هشاشة الهدوء الأمني واحتمال التدهور إلى تصعيد شامل سريع.
في الضفة، تعمل إسرائيل على تحسين الواقع المدني كأساس للهدوء الأمني، بشكل يمنع تجنداً جماهيرياً واسعاً للصراع ضد إسرائيل. وتحاول حماس بالمقابل، تحدي هذه المعادلة وتثبيت مكانتها في المجتمع الفلسطيني في موقع انطلاق سيطرة على الساحة السياسية في اليوم التالي لأبو مازن. شبكة حماس التي انكشفت في النشاط الأخير الذي قام به الجيش الإسرائيلي، هي الأكبر والأهم التي انكشفت منذ 2014، وتعكس جهداً متواصلاً من حماس لترميم قوتها في الضفة.
أما في قطاع غزة فتتقدم مساعي التسوية بوساطة مصرية، ومصلحة الطرفين في هذه المرحلة هي الاحتواء وليس السير نحو جولة قتالية أخرى. ومع ذلك، فإن جهود حماس المتواصلة للإبقاء على الاحتكاكات في مستوى دون المعركة بهدف انتزاع إنجازات مدنية أكبر، قد تؤدي إلى معركة أخرى في وقت قريب.
في الساحة السياسية، جسد خطاب رئيس وزراء إسرائيل في الأمم المتحدة وخطاب رئيس السلطة الفلسطينية بالمقابل، الفجوة العميقة التي تفصل بين الطرفين، وعدم استعداد أي لاعب في الساحة الدولية لممارسة ضغط ما لتحريك مسيرة سياسية.
في الساحة الإسرائيلية الداخلية، يتطور ما يجري في المجتمع العربي إلى تحد استراتيجي أول في مستواه. فالجريمة الواسعة، وانتشار الوسائل القتالية، وفقدان الردع من جانب محافل إنفاذ القانون، وفقدان قدرة الحكم في قسم واسع من المجتمع العربي (ولا سيما في الجنوب) كل ذلك يستوجب جواباً متعدد الأبعاد – مدنياً وأمنياً. انتقال إمكانية الجريمة الجنائية إلى جريمة أمنية – وطنية، تجسدت في حملة “حارس الأسوار” وتعاظم الإلحاح لتطوير رد على المستوى الوطني.
في إيران، لم تتحرك بعد المفاوضات حول استئناف الاتفاق النووي، وتوسع طهران مشروعها النووي وتسعى لتثبيت مكانة “دولة حافة”، وعندما تستأنف الاتصالات، تبقى في أيديها التكنولوجيات والعلوم التي تتيح لها مواصلة المشروع بمجرد إصدار القرار لعمل ذلك. في ظل هذا الوضع، ستتمكن إيران حتى في اتفاق يلزم بنزع احتياطات اليورانيوم المخصب، من استكمال ما ينقص من خلال منظومات التخصيب المتطورة التي طورتها في غضون وقت قصير نسبياً.
وبالتوازي، تواصل إيران العمل بهدف تعميق نفوذها الإقليمي، وتثبيت قدرات متطورة تشكل تهديداً شاملاً على إسرائيل. بالملموس، العراق واليمن تصبحان ساحتين تتحديان إسرائيل بسيناريوهات التصعيد. وفي هذا السياق، توسع إيران مساعدتها لبناء قوة الفرع الذي يعمل في خدمتها. ومؤخراً كشف وزير الدفاع الإسرائيلي بأن إيران تؤهل نشطاء إرهاب لتفعيل طائرات مسيرة متطورة في قاعدة كاشان، التي تشكل قاعدة مركزية لتأهيل نشطاء الإرهاب على تفعيل آليات جوية.
أمواج الصدى التي ترافق انسحاباً فوضوياً للولايات المتحدة من أفغانستان تتواصل، وتؤثر على مصداقية أمريكية في أوساط حلفائها الإقليميين. علامات الاستفهام على استمرار الوجود العسكري الأمريكي في العراق وسوريا، وسعي واشنطن لتجديد الاتفاق النووي مع إيران، والشقوق في سور العقوبات على نظام الأسد، وغياب استراتيجية أمريكية واضحة… كل هذا يؤدي إلى نشاط إقليمي يتجاوز المعسكرات والتحالفات.
في سوريا، سمحت الولايات المتحدة لمصر والأردن بمد أنبوب الغاز إلى لبنان عبر سوريا، ولكنها غير مستعدة لتقليص العقوبات ضد نظام الأسد. الحوار الاستراتيجي بين روسيا والولايات المتحدة لا يتقدم، فواشنطن لا تزال لا تعرض استراتيجية متبلورة بالنسبة لسوريا. في هذه المرحلة، من غير المتوقع انسحاب القوات الأمريكية من شرقي سوريا والتي تصد مساعي التوسع الإيرانية والخطوات التركية في المجال. الانسحاب من أفغانستان، الذي وصفه رئيس هيئة الأركان الأمريكية “الفشل الاستراتيجي”، يشكل مانعاً لانسحاب آخر من سوريا أو من العراق. في هذه المرحلة على الأقل، الأردن ومصر ودول الخليج وإن كانت حذرة من تسويغ نظام الأسد، ولكنها تستخدم “الجزرات” الاقتصادية والسياسية كي تثبت نفوذها في الدولة. حديث الملك عبد الله مع بشار الأسد (3 تشرين الأول) الذي أعرب فيه الملك عن تأييده لسوريا موحدة وسيادية ومستقرة، يشكل خطوة مهمة في التقارب بين الدولتين وبالاعتراف بشرعية النظام. الولايات المتحدة لا تفرض العقوبات، وبعدم ردها تسمح باستمرار الاتصالات والخطوات بين الدولتين.
في لبنان، تتعاظم الجهود الدولية في الأسابيع الأخيرة بقيادة فرنسا والولايات المتحدة لاستقرار الساحة السياسية، ولكنها تتجاهل استمرار بناء إيران وحزب الله للقوة ودخول الحزب في الحكومة اللبنانية الجديدة. يواصل “حزب الله” ترسيخ قوته السياسية والعسكرية في لبنان دون عراقيل، ولا تملك حكومة نجيب ميقاتي، صديق بشار الأسد، لا الرغبة ولا القدرة للتضييق على خطوات المنظمة. مشكلة تعاظم “حزب الله” تتفاقم مع تواصل تزود المنظمة بصواريخ دقيقة وقدرات متطورة أخرى.
المعاني التي تستخلصها إسرائيل
حكومة إسرائيل مطالبة باستغلال فترة الهدوء الأمني في صالح التقديرات، وبناء القوة لغرض التصدي المستقبلي للتحديات المتشكلة
أولاً وقبل كل شيء، التحدي النووي الإيراني يستوجب تنسيقاً كاملاً مع واشنطن إلى جانب تطوير جواب عسكري مصداق لغرض تعزيز الردع والتأثير على صيغة الاتفاق المستقبلي، بحيث يعطي جواباً لمطالب إسرائيل الأمنية. على القدس أن تقود معركة دبلوماسية عنيفة في الساحة الدولية تبرز الآثار واسعة النطاق في إيران نووية على أمن المنطقة والعالم، وأن توضح إلى جانب ذلك بأن “كل الخيارات على الطاولة”.
في الضفة، على إسرائيل مواصلة سياستها الحالية في تحسين نسيج الحياة المدنية وتعزيز التنسيق الأمني – السياسي مع السلطة الفلسطينية. يمكن لهذه الاستراتيجية أن تمنع تصعيداً واسعاً في الضفة، ولكنها ليست بديلاً عن تسوية دائمة سياسية. غياب التسوية التي تقوم على أساس مفهوم الفصل، سيؤدي إلى واقع دولة واحدة.
إن قرار الفريق الوزاري لمكافحة العنف في المجتمع العربي بأن يدخل الشاباك والجيش لمساعدة الشرطة في معالجة الوسائل القتالية غير القانونية في البلدات العربية، يشكل خطوة مهمة في معالجة الجريمة في الوسط العربي، واعترافاً بأنه جهد وطني يستوجب التعاون بين كل هيئات الأمن. ومع ذلك، مطلوب استكمال الجهد الأمني لتطوير جواب شامل على الأزمات المدنية القاسية وتشجيع مشاريع غايتها تحسين وضع الجيل العربي الشاب، وصلة المواطن العربي بالمجتمع الإسرائيلي وبالدولة.
في قطاع غزة، تتواصل الاتصالات بوساطة مصرية بهدف التسوية، ويبدو أن المصلحة المشتركة لكل اللاعبين في هذه المرحلة هي الامتناع عن التصعيد. ومع ذلك، فإن الاستراتيجية الثابتة لحماس بقيادة السنوار للسير نحو احتكاك متواصل دون مستوى المعركة بهدف انتزاع إنجازات مدنية، تستوجب من إسرائيل الاستعداد لسيناريو تصعيد متجدد. العالم العربي يؤهل نظام الأسد ببطء دون معارضة واشنطن. وغياب استراتيجية أمريكية تؤدي إلى قضم نظام العقوبات وتغيير مكانة النظام السوري في المجال الإقليمي والدولي. إسرائيل مطالبة ببلورة استراتيجية حول سوريا، والمبادرة إلى حوار مع موسكو وواشنطن بهدف التأثير على تصميم الساحة بشكل يتعاطى ومصالح الأمن القومي الإسرائيلي طالما كانت نافذة الفرص للتأثير مفتوحة.
حيال لبنان، إن تعاظم “حزب الله” برعاية الحكومة اللبنانية وبدفع إيراني، يشكل تهديداً استراتيجياً أول في مستواه. بقدر ما تفشل الأدوات الدبلوماسية وخطوات منع نقل الوسائل القتالية من سوريا إلى لبنان، يتطلب من إسرائيل أن تتخذ قراراً استراتيجياً حول ما إذا كانت ستبادر إلى ضربة مانعة والمخاطرة بالتدهور إلى حرب، أم تسلم بقدرات نار دقيقة في لبنان تحوزها منظمة إرهابية توجهها طهران.
في السطر الأخير، الأعمال الإسرائيلية التي بين الحروب تركز على جوانب استخدام القوة، ولكنها تمتنع عن عملية ضد بناء القوة التي تتواصل دون عراقيل في كل الساحات، خوفاً من التدهور إلى حرب شاملة. هذا الوضع يشدد المعضلة التي تعيشها إسرائيل ويؤكد الحاجة لبناء قوة، ومفهوم استخدام مناسب، إلى جانب بلورة استراتيجية شاملة تحدد هدف المعركة والشكل الذي يمكن فيه تحقيقها بصورة توفر الأمن للمدى البعيد.
كما أن الوضع الأمني اليوم يسمح بالتركيز على تهديدات تعاظم وبناء القوة حتى في ضوء تكتل مصالح مشتركة في المحيط الإقليمي، والتي تشجع التعاون الاستراتيجي. في هذا الإطار، فإن تحدي الدولة الإسلامية وتوسع النفوذ الإيراني في المنطقة والأزمات الاقتصادية في ضوء الشرط الأساس لدول المنطقة ووباء كورونا، تعزز الذخائر الإسرائيلية وتشكل إمكانية كامنة لتثبيت “اتفاقات إبراهيم” بل وتوسيعها، وبلورة استراتيجية إقليمية لصد إيران.
المصدر/ القدس العربي