لعقود طويلة يعيش الأردنيون في أزمات اقتصادية متتالية، يليها انهيار حكومات وتشكيل أخرى، وبرامج إصلاح اقتصادية لا نهايةَ لها، تثُمر دومًا عن دينٍ يتزايد باطراد.
في السنوات الأربع الماضية، خلال رئاسة دونالد ترامب للولايات المتحدة، عُزل الأردن تدريجيًّا في المنطقة، بعد رفضه مقترح السلام الأمريكي، المعروف بـ«صفقة القرن»، وتراجع الدعم الاقتصادي له، وصار أكثر هامشية، خاصةً مع توقيع دول خليجية اتفاقيات سلام مع إسرائيل، مُقلصةً أهمية الوساطة الأردنية.
تعود العلاقات الأمريكية مع المملكة الأردنية إلى وقت بعيد، حين بدأت العلاقات الدبلوماسية بين الولايات المتحدة الأمريكية والأردن عام 1949، وتطورت العلاقة مع الزمن حتى أصبح الأردن من أهم حلفاء الولايات المتحدة في الشرق الأوسط، ثمَّ تعززت هذه العلاقة بتوقيع الأردن عامَ 1994 اتفاقية سلام مع الاحتلال الإسرائيلي، الحليف الأهم لواشنطن، برعاية أمريكية، في عهد بيل كلينتون، رئيس الولايات المتحدة، ويعدُّ الأردن ثاني دولة عربية توقع اتفاقية سلام مع إسرائيل، بعد مصر التي وقعت اتفاقية كامب ديفيد عام 1978.
واشنطن وعمَّان: دعمٌ اقتصادي يقابله أدوار سياسية في المنطقة
عززت الاتفاقية مع إسرائيل وضع علاقة أمريكا بالأردن، وازداد بعدها الدعم الاقتصادي والعسكري الأمريكي للأردن، عن طريق المنح والقروض، وصولًا إلى التعاون في مجالات مختلفة أهمها المجالات الأمنية والاستخباراتية.
تساهم أمريكا بشكل مستمر في إنعاش الاقتصاد الأردني، وإخراجه من أزمات كثيرة، عدا عن الدعم المالي الذي يتلقاه الأردن من حلفاء آخرين للولايات المتحدة في المنطقة، والقروض الدولية من البنك والصندوق الدوليين.
وفي عام 2020، بلغ الدعم الأمريكي المقدَّم للأردن ما يقارب 2.5 مليار دولار أمريكي، ملياران منها تقريبًا في القطاعات الاقتصادية المدنية المختلفة، ونصف مليار دولار تقريبًا في القطاع العسكري، يمثل هذا الدعم ما نسبته 5% من الناتج المحلي الإجمالي للأردن، وتمثِّل هذه المساعدات الاقتصادية 18% من إجمالي نفقات الموازنة العامة الأردنية، ولو أنَّ المساعدات لا تدخلُ جميعها في الموازنة، لكنها تظلُّ عنصرا مهمًّا لاقتصاد البلاد، وبدونها ستتعمق أزمة الأردن الاقتصادية الممتدة منذ زمن طويل ثمَّ عمقتها جائحة كورونا.
إلا أن هذا الدعم الاقتصادي والعلاقات السياسية المميزة ليست دون ثمن، فقد لعبَ الأردن أدوارًا مهمة في خدمة السياسة الخارجية الأمريكية، نظرًا إلى الخط الحدودي الطويل مع إسرائيل، ولموقعها المتوسط بين إسرائيل ودول الخليج. ولعبَ الأردن دورًا أمنيًّا متزايدًا لمحاربة التنظيمات الجهادية، ليس في العالم العربي فحسب، بل في مناطق أخرى، مثل أفغانستان.
بلا شك تستفيد أمريكا من استمرار الوضع والمنظومة القائمة في الأردن، فأي أزمة اقتصادية ستعصف بالبلاد قد تحولها إلى نقطة عنف وفوضى أخرى، تهدد مصالح الولايات المتحدة في المنطقة، بما فيها نفوذها على دول الخليج، وعلى أمن إسرائيل، وللأردن ظرف ديموغرافي خاص بوجود الكثير من ذوي الأصول الفلسطينية فيه، وفي لقطات تاريخية شهد البلد اقتتالًا داخليًّا بين السلطة وفصائل منظمة التحرير الفلسطينية، التي تمتَّعت بوجود قاعدة شعبية فلسطينية واسعة في الأردن، وإضافة إلى الظرف الديموغرافي، فالصعوبات الاقتصادية التي يواجهها الأردن والأزمات السياسية في المنطقة تزيد الوضع سوءًا، وقد تؤدي بالبلد إلى الانفجار، وليس الأردن ببعيد عن حال لبنان المجاور، الذي انزلقَ نحو انهيار اقتصادي عميق.
أسلحة البلد الصغير في منطقة ملتهبة
لا يملك الأردن مساحات واسعة أو تعدادًا سكانيًّا كبيرًا مثل مصر، ولا يحتوي على احتياطات نفط ضخمة مثل دول الخليج، فالأردن صغير الحجم مقارنةً بجيرانه، وظلَّ البلد يتقلب في أزماتٍ متتالية خلال مئة عام من عمر الدولة.
تبدأ بمعاداة من أنظمة عربية أخرى للبلد الصغير، أولها الخصومة التاريخية بين الهاشميين وآل سعود، وحرب النكبة عام 1948، التي هُزم فيها الجيش الأردني مع بقية الجيوش العربية أمام دولة الاحتلال، وحتى الفوران السياسي مع المد القومي واليساري في المنطقة، وخصوصًا خطر صعود نجم جمال عبد الناصر من مصر.
وقد سبق وأطاح هذا المدّ القومي أبناء عمومة الأسرة الحاكمة، الهاشميِّين في العراق، بانقلاب دمويٍّ عام 1958، ثمَّ مر الأردن بزلزال سياسي في الاقتتال الأردني الفلسطيني في أحداث ما عرف بـ«أيلول الأسود»، والأزمة الاقتصادية نهاية الثمانينيات، وبرامج التصحيح الاقتصادي المستمرَّة حتى الآن، ثم الربيع العربي، ودخول الأردن في موجة احتجاجات لم تؤدِّ إلى تغيير كبير في السياسة الداخلية الأردنية، رغمَ بقاء أسباب الاحتجاج قائمة.
نتيجة لهذه الظروف المتقلِّبة، احترف القصر الأردني اللعبَ على التناقضات في المنطقة، وسياسة إدارة التوازنات، وعدم التورُّط في صراعات صفرية مع الأطراف الأخرى، مع الإبقاء على تحالفات وثيقة مع اللاعبين الكبار في المنطقة، ليلعب الأردن أدوارًا سياسية مهمة، ويحظى بدعم مادي وسياسي لقاء أدواره، فبدلًا من النفط تصبح الجغرافيا السياسية والملفات السياسية والأمنية سلعةً إستراتيجية، يستغلها الأردن لتجاوز أزماته.
فما الملفات الأساسية التي يلعب فيها الأردن دورًا حرجًا وحساسًا يسمح له باستخدامها أوراقًا دبلوماسية لمصلحته؟
أولًا: أمن إسرائيل والقضية الفلسطينية
حظيَ الأردن بدور أساسي في القضية الفلسطينية وملفاتها المختلفة، بحكم العلاقة بين الأردن والأراضي الفلسطينية، فقد كانت الضفة الغربية جزءًا من الأردن، حتى وقعت تحت الاحتلال الإسرائيلي عام 1967.
من هذه القضايا قضية اللاجئين الفلسطينيين وحقُّ العودة، وقضية الحدود التي حُلت بين الأردن والكيان في معاهدة وادي عربة دون حلها مع الفلسطينيين أو السوريين، القدس التي ما تزال تخضع للاحتلال والاستيطان بشقيها الشرقي والغربي، المياه المتنازع عليها بين مختلف الأطراف المشتركة في الممرات المائية، إقامة دولة فلسطينية وكل ما يتعلق بها من قضايا وملفات، مثل قضية المستوطنات في أراضي فلسطين المحتلة عام 1967.
وبسبب تبعية الضفة الغربية للأردن قبل عام 1967، وبقاء الحال على ذلك قانونيًّا حتى نهاية الثمانينيات، حصل كثير من الفلسطينيين على الجنسية الأردنية، سواء كانوا لاجئين منذ النكبة عام 1948، أو نازحين من مناطق الضفة الغربية بعد النكسة عامَ 1967.
ويشكِّل الأردنيُّون فلسطينيو الأصل نسبة كبيرة من سكان الأردن، تقدِّرها منظمات غير حكومية بأكثر من 50% من إجمالي السكان، يمثلون جزءًا مهمًّا من اللاجئين الفلسطينيين في الشتات، الذين تسعى إسرائيل وأمريكا لإحلالهم وتوطينهم في البلاد التي نزحوا إليها، لحلِّ القضية الفلسطينية ولو على حساب دول عربية أخرى، أهمها الأردن، بصفته وطنًا بديلًا للفلسطينيين.
وللقدس أهمية كبرى بالنسبة للأردن، فللعائلة الهاشمية وصايةٌ على المقدسات الإسلامية فيها، وخصوصًا المسجد الأقصى، عن طريق دائرة تتبع لوزارة الأوقاف الأردنية، وتعيِّن الوزارة الأردنية موظفي هذه الدائرة، وعددهم 800 موظف، وتُعنى بالمسجد الأقصى والمساجد المقدسية عمومًا، وتشرف على أوقاف القدس، وجمع الزكاة وتوزيعها، ولهذه الاعتبارات ظلَّ الأردن جزءًا دائمًا من الحديث عن مصير المدينة المقدسة، وتضع «الوصاية الهاشمية» الأردن في قلب أي معادلة تخص القدس. ولو أنَّ نص اتفاقية وادي عربة لا يُعطي الأردن بشكل صريح حقوقًا واضحة ومحددة في القدس، ويكتفي بالنصِّ على احترام إسرائيل لـ«الدور التاريخي» و«الدور الخاص» للأردن، حصرًا في المقدسات الإسلامية، دون المقدسات المسيحية.
ثانيًا: وسيطٌ بين حلفاء أمريكا في المنطقة
لعبَ الأردن دور الوسيط بين حلفائه الخليجيين وإسرائيل خلال العقود الماضية؛ إذ لم ترغب دول الخليج سابقًا بعلاقات سياسية مباشرة مع إسرائيل، ما جعل الأردن حلقةَ وصل بين حلفائه وحلفاء واشنطن الخليجيين من جهة، وإسرائيل من جهة أخرى.
إلا أن هذا الدور بدا أنه يتبدَّد وعلى وشك الانتهاء في سنوات رئيس الولايات المتحدة الأمريكية السابق، دونالد ترامب، فبينما تنامت العلاقات الإسرائيلية الخليجية، بتوقيع دولتين، هما الإمارات والبحرين، اتفاقيات سلام مع إسرائيل، بردت العلاقات الأردنية الإسرائيلية، وزاد توترها في ظلِّ حكم رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق بنيامين نتنياهو، قبل تولي ترامب سدة الرئاسة، وساءت علاقة الأردن بسبب الرفض الأردني الرسمي لـ«صفقة القرن»، رغم تضمن الصفقة لمعونات اقتصادية لإغراء الدول المحيطة بإسرائيل، ومن ضمنها الأردن، للقبول بالصفقة، وضُغط على عمَّان للقبول بالصفقة لتكون حلًّا للأزمة الاقتصادية – شبه الدائمة – التي يعيشها.
هل تكون إدارة بايدن طوق نجاة للأردن؟
بعد فوز جوزيف بايدن في الانتخابات الرئاسية الأمريكية، بدأت إدارته في مراجعة سياسات خلفه ترامب في المنطقة والتراجع عن بعضها، مع أن خطوط السياسة الخارجية لبايدن في الشرق الأوسط لم تتضح صورتها بعد.
حتى الآن، تخلت أمريكا عن أجزاء من «صفقة القرن»، وأوضح البيت الأبيض عدم رغبته بإعطاء «القيادات المفضلة» للإدارة السابقة التمكين السابق نفسه الذي مُنح لهم، مثل قيادة السعودية، ولي العهد السعودي محمد بن سلمان، ونتنياهو في إسرائيل، وكان الاتصال الأول للإدارة الأمريكية مع السعودية مع الملك السعودي سلمان بن عبد العزيز، وليس مع ولي العهد، ولم تستعجل إدارة بايدن الاتصال بنتنياهو، غير المفضَّل من قبل الإدارة الجديدة، والذي خسرَ معركته الانتخابية أمام نفتالي بينيت لاحقًا.
تحرَّكت الإدارة الجديدة باتجاه إعادة العلاقات مع الأردن إلى ما كانت عليه، وإنهاء حالة التهميش التي شهدها في السياسة الخارجية الأمريكية في السنوات الأربعة الماضية، فقد كان الملك عبد الله الثاني أول زعيم عربي يتلقى اتصالًا من الرئيس الأمريكي الجديد، سابقًا بذلك رئيس الوزراء الإسرائيلي، وتجدد الاتصال مع ملك الأردن في أعقاب ما يُعرف بقضية «الفتنة»، التي يُتهم فيها الأمير حمزة، شقيق الملك عبد الله وولي عهده السابق، بمحاولة الانقلاب على الملك بالتعاون مع مسؤولين سابقين وأعضاء في العائلة الحاكمة.
أكَّدت إدارة بايدن دعمها لحل الدولتين الذي ترغب به الدبلوماسية الأردنية وتفضله، كما كان الملك عبد الله الثاني أول زعيم عربي يزور الرئيس الأمريكي الجديد منذ تنصيبه، في خطوات رمزية لدعم الأردن، ومؤشرة إلى عودة دوره السياسي في المنطقة.
إلا أنَّ التأثير الأمريكي يتخطى الرمزيات إلى دعم الاقتصاد الأردني، ولو بشكل غير مباشر، فقد توصل الأردن إلى ثلاث اتفاقات مختلفة مع إسرائيل بإدارته الجديدة، تمنحُ الحكومة الأردنية القدرة على تحسين ظروفها الاقتصادية، دون أن يكون البلد معتمدًا في ذلك على مصادر الدعم الخارجية المعتادة، مثل دعم الدول الخليجية المجاورة.
فبعد رفض نتنياهو مرارًا الطلب الأردني بشراء 50 مليون متر مكعب من المياه العذبة من إسرائيل، توصَّل الطرفان إلى اتفاق يقضي بتزويد الأردن بالمياه، وهو الاتفاق الذي يحتاجه الأردن بشدة، علمًا بأن الأردن من أكثر البلاد معاناة من شح المياه بحسب منظمة اليونيسيف.
وثانيًا، وفي الاجتماع نفسه الذي ضم وزيري خارجية البلدين، اتفق الطرفان على رفع سقف الصادرات الأردنية إلى الضفة الغربية من 160 مليون دولار في العام إلى 700 مليون دولار، ما يعني ارتفاع الصادرات الأردنية للضفة الغربية أكثر من أربعة أضعاف، لتصبح الأراضي الفلسطينية رابع أكبر وجهة للصادرات الأردنية في العالم، بعد الولايات المتحدة الأمريكية والسعودية والهند، في حال تطبيق الاتفاق، ورحبت واشنطن على الفور بهذين الاتفاقين.
أما الاتفاق الثالث، فتُعطي فيه إسرائيل أفضليةً للمنتجات الزراعية الأردنية خلال سنة «الراحة اليهودية»، التي يتوقف فيها الإنتاج الزراعي في إسرائيل، اتبَّاعًا لتعاليم الديانة اليهودية، ما سيفسح المجال للصادرات الزراعية الأردنية ويزيد من الطلب الإسرائيلي عليها.
هذه الاتفاقات مفيدة على المدى القصير للأردن، ولكنها تقيِّده بإسرائيل أكثر، وتقدِّم للاحتلال أوراق ضغط مستقبلية يمكن استخدامها ضد الأردن، وتجعل مداخيله وأمنه المائي في قبضة إسرائيل.
فحتى رفع السقف التصديري للضفة الغربية مرهونٌ بالقرارين الإسرائيلي والأمريكي، ويمكن الرجوع لفرض سقف أقل من الصادرات المسموحة للضفة الغربية، متى ما شاءت إسرائيل أو غيَّرت أمريكا رأيها.
ومن المهم للإدارة الأمريكية ترميم العلاقات بين الأردن وإسرائيل؛ لأن تحسين العلاقات بين الطرفين يساعد في تحقيق هدف الإدارة الأمريكية في الحفاظ على الاستقرار في المنطقة.
وهذا يفسح المجال للاهتمام بملفات أخرى تشغل الإدارة الجديدة، سواء كانت ملفات داخلية أمريكية، أو ملفات سياسة خارجية حول العالم. ولتعزيز هذا الاستقرار بين البلدين، عادت إدارة بايدن للخط الأمريكي التقليدي المؤيِّد لمسمَّى حل الدولتين الذي يتبناه أيضًا الأردن، وتتابع الإدارة الأمريكية التعاون الأردني الإسرائيلي في الملفات المختلفة الأخرى.
قد تكون كلُّ هذه الخطوات مؤشرًا لمحاولة أمريكا مساعدة الأردن، وإرجاع دوره السياسي السابق في المنطقة، للإسهام في تثبيت هذا الاستقرار بعيدًا عن مغامرات الإدارة السابقة ومقارباتها في السياسة الخارجية، بما يخدم المصالح الأمريكية والمصالح الإسرائيلية معًا، بالطبع من وجهة نظر أمريكية، ومؤشرًا على الرجوع إلى تثبيت التحالفات وتوزيع الأدوار السابقة في المنطقة.
المصدر: ساسة بوست