قرّرت الجزائر قطع علاقاتها الدبلوماسية بالكامل مع المغرب، في خطوة كانت متوقّعة، إذ تمّ التمهيد لها في اجتماع المجلس الأعلى للأمن الجزائري، قبل أسبوعين. قرارٌ بدا أن دخول العامل الإسرائيلي على الخطّ، قد سرّع من اتّخاده، خصوصاً أن الجزائر لم تهضم أن يُطلق مسؤول صهيوني تصريحات عدائيّة ضدّها من الرباط، التي وصفت مبرّرات جارتها بـ«السخيفة»، بعدما استعرضت السلطات الجزائرية أسباباً تاريخية وأخرى راهنة، دفعتها إلى إعلان «الطلاق»
كلّ الأجواء في الجزائر كانت توحي بأنه يجري التحضير لإعلان كبير؛ فقد استُدعِيت وسائل الإعلام الوطنية والدولية المعتمَدة على عجل إلى مؤتمر صحافي غير معتاد لوزير الخارجية الجزائري رمطان لعمامرة في قصر المؤتمرات في الضاحية الغربية للعاصمة، وهو مبنى مخصّص للأحداث الكبرى، بينما تُقام مؤتمرات وزير الخارجية عادةً في مبنى الوزارة الواقع في أعالي الجزائر العاصمة. وما إنْ أبلغ لعمامرة الحاضرين بأنه سيتلو بياناً باسم رئيس الجمهورية والحكومة الجزائرية، حتّى فَهِم الجميع أن الأمر يتعلّق بقرار قطع العلاقات الذي ظلّ يُتداول بشكل غير رسمي، منذ إعلان المجلس الأعلى للأمن في 18 آب الجاري مراجعة العلاقات مع المغرب في أعقاب اتّهامه بدعم حركات تعتبرها الجزائر مسؤولة عن إشعال حرائق الغابات وارتكاب جرائم أخرى مهدّدة لوحدة التراب الجزائري.
وفي توطئة القرار الذي أعلنه لعمامرة، استعرضت السلطات الجزائرية أسباباً تاريخية وأخرى راهنة، توصّلت من خلالها إلى أن «المملكة المغربية لم تتوقّف يوماً عن القيام بأعمال غير ودّية وأعمال عدائية ودنيئة ضدّ بلدنا، وذلك منذ استقلال الجزائر». وعاد البيان إلى سنة 1963، أي عاماً بعد استقلال الجزائر، حين شنّ المغرب حرباً على الجزائر، لاستعادة أراضٍ يدّعي أنها له، وهي الحرب المعروفة تاريخياً بـ«حرب الرمال». وقال لعمامرة إن «هذه الحرب التي عَرفت استعمال المغرب لأسلحة ومعدّات عسكرية ثقيلة وفتاكة، خلّفت ما لا يقل عن 850 شهيداً جزائرياً»، وهي معلومة تكشف عنها الجزائر للمرّة الأولى. أمّا المحطّة التاريخية الأخرى التي استعرضها وزير الخارجية، فكانت قرار المغرب، سنة 1976، قطع علاقاته مع الجزائر بشكل مفاجئ، بعد اعترافها بالجمهورية الصحراوية، ثم تنصُّله من اتّفاق تطبيع العلاقات الثنائية سنة 1988، والتي التزم فيها المغرب كتابياً، وفق البيان، بإيجاد «حلّ عادل ونهائي لنزاع الصحراء الغربية عبر تنظيم استفتاء حرّ ونزيه يسمح للشعب الصحراوي بتقرير مصيره في كنف مصداقية تامة ومن دون أيّ إكراهات»، ناهيك عن اتهام المغرب للجزائر، سنة 1994، بتدبير عمليّة إرهابية على أراضيه وفرضه التأشيرة على الجزائريين، وهو ما قابلته الجزائر في حينه بغلق الحدود البرية بين البلدين.
وواصل الوزير سرده للوقائع والأحداث الأخيرة التي فجّرت العلاقة بين البلدين، مشيراً إلى أن «أجهزة الأمن والدعاية المغربية تشنّ حرباً إعلامية دنيئة وواسعة النطاق ضدّ الجزائر وشعبها وقادتها، دون تردّد في نسج سيناريوات خيالية وخلق شائعات ونشر معلومات مغرضة». والأخطر من ذلك، بحسبه، قيام أحد المفوّضين للمملكة بانحراف «خطير جداً وغير مسؤول» من خلال التطرُّق إلى ما سمّاه «حقّ تقرير المصير لشعب القبائل الشجاع». وأشار إلى أن الجزائر أبانت عن ضبط النفس من خلال المطالبة علناً بتوضيح من سلطة مغربيّة مختصّة ومؤهّلة، إلّا أن صمت الجانب المغربي في هذا الصدد، والذي يستمر منذ 16 تموز الماضي، يعكس بوضوح «الدعم السياسي من أعلى سلطة مغربيّة لهذا الفعل».
ولعلّ أبرز ما أثار غضب الجزائر، اتّخاذ المغرب من ترابه «قاعدة خلفية ورأس حربة لتخطيط وتنظيم ودعم سلسلة من الاعتداءات الخطيرة والممنهجة ضدّ الجزائر». وآخر هذه الأعمال العدائية، وفق نص البيان، تمثّل في «الاتهامات الباطلة والتهديدات الضمنية التي أطلقها وزير الخارجية الإسرائيلي (يائير لابيد) خلال زيارته الرسمية للمغرب، بحضور نظيره المغربي (ناصر بوريطة)، الذي من الواضح أنه كان المحرّض الرئيس لمثل هذه التصريحات غير المبرّرة». وتوقّف لعمامرة عند هذه النقطة، قائلاً: «هنا تجب الإشارة إلى أنه، منذ عام 1948، لم يُسمع أيّ عضو في حكومة إسرائيلية يُصدر أحكاماً أو يوجّه شخصيّاً رسائل عدوانية من أراضي دولة عربية ضدّ دولة عربية أخرى مجاورة، وهذا الأمر يتعارض مع كل الأعراف والاتفاقات الجزائرية - المغربية. تدلّ هذه الظاهرة على العداء الشديد والاندفاع المتهوّر دون أدنى قيد أو حدود». والمعروف أن الجزائر، صاحبة الموقف الرسمي الشديد العداء تجاه الكيان الصهيوني، قد تلقّت باستياء كبير، عملية تطبيع العلاقات بين إسرائيل والمغرب، والتي حصل المغرب بموجبها على اعتراف أميركي بسيادته على الصحراء الغربية.
وعلى صعيد الأمن الإقليمي، أشار البيان الجزائري إلى أن قيام السلطات المغربية بمنح موطئ قدم لقوّة عسكرية أجنبية (إسرائيل) في المنطقة المغاربية وتحريض ممثّلها على الإدلاء بتصريحات كاذبة وكيدية ضدّ دولة جارة، يشكّلان عملاً خطيراً وغير مسؤول ينتهك أحكام المادة الخامسة من معاهدة الأخوة وحسن الجوار والتعاون المبرمة بين البلدين. وأدخلت الجزائر ضمن الأعمال العدائية أيضاً «التعاون البارز والموثّق للمملكة المغربية مع المنظمتَين الإرهابيتَين المدعوتَين ماك ورشاد، اللتين ثَبُت ضلوعهما في الجرائم الشنيعة المرتبطة بالحرائق المهولة التي شهدتها ولايات الجمهورية أخيراً، إلى جانب عملية التعذيب والقتل الهمجي الذي راح ضحيته المواطن جمال بن اسماعيل». وبالإضافة إلى ذلك، لم تغفر الجزائر للمغرب استعماله برنامج «بيغاسوس» الإسرائيلي للقيام بعمليات تجسّس كثيفة تعرّض لها مواطنون ومسؤولون جزائريون.
وينتظر بفعل هذا القرار الجزائري أن تتوقّف كلّ أشكال التواصل مع المغرب، عدا ما يتعلّق بالأعمال القنصلية المحضة لتدبير شؤون الرعايا المقيمين سواء من الجزائر أو المغرب. ولا توجد جالية مغربية كبيرة في الجزائر، إذ لا يتعدّى المقيمون بشكل رسمي ستة آلاف شخص، وهو رقم يزيد قليلاً بخصوص الجزائريين المقيمين في المغرب. لكنّ المعروف أن هناك عمالة مغربية في الجزائر تشتغل بشكل غير مصرّح عنه، خاصّة في قطاع الإنشاءات والفلاحة. ولا تبدو للقرار، عدا جوانبه الرمزية القوية، انعكاسات كبيرة على الحياة اليومية للجزائريين أو المغاربة، بحكم أن العلاقات تعيش في الأصل حالة سبات طويل. غير أنه يمكن للجزائر أن تسبّب إشكالات اقتصادية للمغرب، في حال أوقفت إمداداتها الغازية نحو إسبانيا عبر الأراضي المغربية، وهو الخط الذي كان يستفيد منه المغرب مادياً عبر دفع إيتاوات المرور، فضلاً عن الحصول على نسبة من الغاز يسمح له بتشغيل محطاته الكهربائية شمال البلاد.
وعلى الجانب المغربي، قال رئيس الحكومة سعد الدين العثماني، إنه يأسف كثيراً لهذا التطوّر الأخير، بينما أصدرت الخارجية المغربية بياناً تصف فيه المبررات الجزائرية بـ«السخيفة»، مع إشارتها إلى أنها كانت تتوقّع هذا القرار. أما دوليّاً، فقالت الجامعة العربية إنها تأسف لقطع العلاقات، ودعت إلى ضبط النفس، فيما أبرزت الخارجية الأميركية أن تحسين العلاقات سيمكّن البلدين من معالجة القضايا الإقليمية والثنائية بشكل أفضل مثل الإرهاب والهجرة غير الشرعية وتهريب المخدّرات والتكامل التجاري. ويُحتمل في ظلّ التصعيد الجاري، أن تبرز مساعي وساطة بين البلدين، وهو ما كان قد حدث في أعقاب قطع العلاقات سنة 1976.
(الاخبار اللبنانية)