لم يكن مشهد اقتحام جرافات بلديّة الاحتلال برفقة قوات شرطيّة معزّزة، لحيّ البستان في بلدة سلوان جنوب القدس، اليوم الخميس 29 يونيو (حزيران) مفاجئًا، إذ اعتادت بلدة سلوان على هذا الإجراء، الذي يأمل سكانها أن يتوقّف عن كونه روتينًا شبه أسبوعي، وخاصة بعد أن دخل قرار تهجير 17 عائلة مقدسيّة تسكن الحي، حيّز التنفيذ قبل يومين في 27 يونيو.
تابعت عيون السّكان بمشاعر مختلطة بين الخوف والقلق والترقّب، أين ستقف آليات الاحتلال؟ وأي المباني ستلتهم؟ ومَن مِن السكان ستكون الأرض فراشه والسماء غطاءه؟ ولم يدم انتظارهم طويلًا، فسرعان ما وقفت أمام محل نضال الرجبي التجاريّ، الذي اعتاد سكان الحيّ على شراء حوائجهم منه منذ 11 عامًا.
هبّ السكان هبّة واحدة، وانطلقوا ليحموا المحل التجاريّ، الذي أصبح بعد استهدافه يحمل معانٍ كبيرة لكل سكان الحي بشكل خاص وسكان القدس بشكل عام، فحمايته ومنع هدمه يعدّ حماية لكل البيوت والمنشآت المهددة بالهدم سواء في حيّ البستان نفسه، أو في بلدة سلوان ككل، إذ يبلغ عدد المنشآت المهددة بالهدم في سلوان بأحيائها كافة ما يقارب 500 منشأة، من ضمنها منازل ومنشآت تجاريّة ومساجد.
وكعادتهم قمع جنود الاحتلال كل من شارك في محاولة إنقاذ المحل التجاريّ ومنع هدمه، فأصيب ما يزيد عن 14 مقدسيّ بحسب الهلال الأحمر الفلسطينيّ، واعتقلت قوات الاحتلال ثلاثة من أقرباء صاحب المحل.
قال صاحب المحل التجاريّ نضال الرجبي لـ«ساسة بوست»: إنّ المحل التجاري الذي تبلغ مساحته 40 مترًا مربعًا كان يعيل ثلاث عائلات، لم يعد لها بعد اليوم ما يؤمّن قوتها، إذ إن هذه العائلات اعتمدت على هذا المحل في تأمين رزقها طيلة 11 عامًا، مضيفًا أنّ الاحتلال أخطره بهدم منزله ومنزل شقيقه فادي الرجبي اللذين يسكنهما 20 فردًا من ضمنهم ثمانية أطفال، ولا يعلم متى سينفذ الاحتلال قرار الهدم، مؤكدًا أن جميع بيوت الحيّ مهددة بالهدم أيضًا.
قصة حيّ البستان
حيّ البستان هو أحد أحياء بلدة سلوان، يقع في وسطها ويربط بين حاراتها، سكنه الفلسطينيون قبل قيام دولة إسرائيل، إذ يصل عمر بعض البيوت فيه إلى المئة عام، بينما أخذوا بالتوسّع في السكن فيه تدريجيًا على مدار سنوات قبل وبعد احتلال القدس الشرقيّة، ويبلغ عدد البيوت في حيّ البستان مئة منزل، يسكن فيها 1550 فلسطينيًا، بدأت رحلة معاناتهم وصراع مع المحتل لإيقاف تهجيرهم من بيوتهم منذ عام 2003، حين أصدرت محكمة الاحتلال إنذارات هدم لبيوتهم، بذريعة البناء دون ترخيص، بحسب معلومات عضو لجنة الدفاع عن أحياء بلدة سلوان، مراد الشافع.
وقال الشافع لـ«ساسة بوست»: ترفض بلديّة الاحتلال استصدار رخص بناء لأصحاب الأراضي في بلدة سلوان، وذلك في سبيل تحقيق التفوق الديموغرافي للمستوطنين في البلدة، إذ تتمتّع بلدة سلوان بموقع إستراتيجيّ بالنسبة للاحتلال، فهي الحاضنة الجنوبية لبلدة القدس القديمة، والمسجد الأقصى، كما تحدّ حارة المغاربة وحائط البراق اللذين يسيطر عليهما الاحتلال، ويتواجد مئات المستوطنين فيهما كل يوم، بالإضافة إلى أن إسرائيل تعتبرها مركز ما يسمّى بمملكة داوود التي يدعي أنها كانت مقامة في البلدة قبل 3 آلاف عام.
وأضاف مراد أنه بعد الرفض المتكرر لإصدار رخص بناء لسكان الحي، اضطروا إلى البناء والتوسّع دون ترخيص، لأن عائلاتهم كبرت وزاد عددها، وكان لا بد من التوسّع المنطقيّ مع هذه الزيادة، وبعد سلسلة من الاعتراضات والدعاوى القضائيّة، كشف الاحتلال عن مشروع أطلق عليه اسم «الوطنيّ»، وعليه صادر جميع أراضي حيّ البستان، وتبين فيما بعد أنه سيقيم حديقة باسم حديقة الملك، وذلك تأسيًا بالحديقة التي يدعي الاحتلال أنّ الملك داوود كان قد أقامها مكان الحيّ قبل 3 آلاف عام.
ولتسهيل إجراءات تهجير سكان الحيّ وهدم بيوته، أصدر الاحتلال في عام 2017، قانون كامينتس الذي يشدد على هدم بيوت العرب التي تبنى دون ترخيص سواء في الأراضي التي تخضع لسيطرته قانونيًّا مثل أراضي 48 أو المحتلة بحسب القانون الدولي.
ولا يعدّ هدم البيوت في بلدة سلوان الإجراء الوحيد الذي تتبعه سلطات الاحتلال لتهويدها وتهجير سكانها، فالبلدة تتعرض لحملة استيطانيّة شرسة على صعيد إحلال المستوطنين مكان السكان الأصليين، وبناء المشاريع السياحيّة التهويديّة.
قوانين عنصريّة.. مرحبًا أنت في إسرائيل
تسن سلطات الاحتلال قوانينها فيما يخدم مصلحة توسعها على حساب الفلسطيني، والتهام أرضه، إذ سنت في خمسينات القرن الماضي، بعد احتلالها لفلسطين، قانون أملاك الغائبين، الذي يمنع كل فلسطيني هُجّر من أرضه ولم يثبت وجوده في دولة الاحتلال، منذ احتلالها وحتى تاريخ إصدار القانون في مارس (آذار) 1950 من حق استرداد أملاكه، وسلمت أملاك الفلسطينيين لدائرة أملاك الغائبين التي بدورها باعتها وأجرتها للإسرائيليين الذين استوطنوا أرض فلسطين.
وفي المقابل تطالب سلطات الاحتلال، بتعويضات ماديّة من الحكومات العربيّة، لليهود الذين هاجروا من الدول العربيّة إلى إسرائيل، وذلك عوضًا عن أملاكهم التي تركوها في بلادهم الأصليّة، كما تطالب بأملاك اليهود في بلدة سلوان التي تركوها وباعوها قبل مغادرتهم البلاد في عام 1929، بسبب سوء الأوضاع السياسيّة والاقتصاديّة، إذ إن البلاد كانت تعيش صراعًا مع الاحتلال البريطانيّ فآثر اليهود الذين عاشوا في سلوان الهجرة خارج البلاد.
إذ تدعي سلطات الاحتلال أنّ يهودًا من اليمن سكنوا حي بطن الهوى الذي لا يبعد كثيرًا عن حي البستان عام 1892، وعليه فإنها تطالب سكان الحي المقدسيين بمغادرة ما تدعي أنّه ملك ليهود اليمن، بينما تمنع الفلسطينيين من استعادة أملاكهم التي سرقها الاحتلال عام 1948، وبسبب هذه الإجراءات تواجه 81 عائلة مقدسيّة خطر التهجير، كما حصل مع عائلة المقدسيّ عبد الله أبو ناب، التي استولى المستوطنون على منزله في حي بطن الهوى بدعوى أنه كان كنيسًا لليهود اليمنيين قبل 100 عام.
منشآت سياحيّة تهويديّة
تعدّ مدينة داوود أبرز معلم سياحي تهويدي في بلدة سلوان، إذ أنشأها الاحتلال عام 1986، كما يقول موقع المدينة جمعية عير دافيد | City of David، ويستمر في توسعتها تحت الأرض إلى يومنا هذا، إذ وصل مدينة داوود بحائط البراق ونفق الحشمونائيم الذي حفره الاحتلال تحت المسجد الأقصى، فيستطيع زائر المدينة الدخول من سلوان والخروج من وسط بلدة القدس القديمة.
وخلال تجوال الزائر في مدينة داوود، يتلقى شروحات تهويديّة عن تاريخ اليهود في القدس، يتجاهل فيها الاحتلال وجود غير اليهود فيها، الأمر الذي لا يتوافق مع الروايات التاريخيّة التي تقول بأن القدس وبلدة سلوان خاصة قد أنشأها اليبوسيون بحسب رئيس أكاديمية الأقصى الدكتور ناجح بكيرات لـ«ساسة بوست».
وإنشاء هذه المدينة وحفر الأنفاق تحتها تسبب في تصدعات كبيرة في بيوت المقدسيين الذين يسكنون حولها في منطقة وادي حلوة، الأمر الذي يعرضهم لخطر سقوط البيوت عليهم لأن أساساتها قد تخلخلت، إذ إن الشارع المحيط بمدينة داوود يتعرض في كل عام لانهيارات وتشققات وخاصة في فصل الشتاء.
وبجانب مدينة داوود حفر الاحتلال الأرض ليقيم عليها ما يسمى بموقف ومركز جفعاتي التجاري، الذي سيصادر مئات الأمتار من الأرض ويزيد من تواجد المستوطنين في البلدة، وأسس الاحتلال في حي بطن الهوى مركز تراث يهود اليمن؛ بتكلفة مليون و200 ألف دولار أمريكي، على أنقاض منزل عائلة أبو ناب التي هجّرها عام 2015، وذلك في محاولة لتأكيد رواية الحق التاريخي ليهود اليمن في الحيّ، ومحاولة السيطرة على خمس دونمات تقع في محيط المركز تدعي سلطات الاحتلال أنها من أملاك يهود سكنوا هناك.
ولم يكتف الاحتلال بالمشاريع التهويديّة التي أقامها في سلوان، إذ يعتزم إقامة تلفريك «قطار هوائي» يمر في بلدة سلوان يربط حي الثوري الذي يقع غرب المدينة ببلدة القدس القديمة، ويربط أيضًا قرية الطور التي تقع شرق المدينة ببلدة القدس القديمة.
يرى الاحتلال في بلدة سلوان وأحياء مدينة القدس الأخرى كالشيخ جراح، فريسة تمكنه من تقوية وجوده في القدس الشرقيّة، ويعدّ نجاحه في الاستيلاء عليها، سبيلًا لتحقيق حلمه في إنشاء أحياء يهوديّة خالية من الفلسطينيين في منطقة ما يسميه الحوض المقدس الذي يضم الشيخ جراح ووادي الجوز وسلوان، وتحقيق هذا الحلم، يعدّ مقدمة لتهويد القدس بأحيائها كافة.
(ساسة بوست)