عصام نعمان
فاجأ الفلسطينيون أنفسهم والعالم بانتفاضة القدس والأقصى، وبمقاومة حاضرة مجهّزة بمخزون هائل من صواريخ نوعية بعيدة المدى. المفاجأة لم تكن في اندلاع الانتفاضة والمقاومة، بل في كثافتهما النوعية واتساعهما، ووحدة الشعب الفلسطيني وتجاوبه السريع معهما في شتى أنحاء الوطن السليب، من النهر إلى البحر، ومن أقصى إصبع الجليل في الشمال إلى أم الرشراش (إيلات) في الجنوب، واشتباك الجماهير بشجاعة ومثابرة مع قوات الشرطة القمعية، بالتزامن مع مئات الصواريخ المنطلقة من قطاع غزة، والمنهمرة على مرافق مهمة كمطار بن غوريون القريب من تل أبيب ومطار رامون غير البعيد عن إيلات ما أدى إلى إغلاقهما.
كل ذلك في وقتٍ كانت الجماهير تتفجر بتظاهرات فرح وحماسة غامرة في معظم أنحاء دنيا العرب وعالم الإسلام، وتهتف داعمةً المقاومة المتعاظمة القدرات، ومطالبةً بعض دول العرب بإلغاء معاهدات صلحٍ كانت عقدتها مع الكيان الصهيوني، وبعضها الآخر بالتخلي عن سياسة التطبيع المذلّة مع العدو.
إلى ذلك، تَفَاجَأ أصدقاء المقاومة، كما اعداؤها، بتطور مذهلٍ في قدراتها العسكرية، لاسيما الصاروخية منها، إذ تمكّنت مختلف فصائلها، خصوصاً «حماس» و»الجهاد الإسلامي» من إيصال صواريخها إلى مواقع في مدن قريبة كالقدس الغربية وتل أبيب وعسقلان، وأخرى بعيدة كبئر السبع في الجنوب، وحيفا ومرج بن عامر في الشمال، ناهيك عن استخدام الطائرات المسيّرة في المعركة لأول مرة في قصف منشآت غازيّة ونفطية مهمة، كخط أنابيب الغاز بين عسقلان على البحر المتوسط وإيلات على خليج العقبة ومنصة إنتاج الغاز قبالة ساحل غزة. من مجمل هذه الواقعات والتطورات المتسارعة، يمكن استخلاص خمس حقائق ساطعة في الحاضر، واستشراف ما تستبطنه من احتمالات ورؤى واعدة في المستقبل:
*أولى الحقائق، إنه مع انتفاضة القدس والأقصى والمقاومة الصاروخية ووحدة الشعب الفلسطيني، بدأت نهاية زمن التدجين في عالم العرب، الذي كانت بدايته في اعتماد بريطانيا وفرنسا مخطط التقسيم (سايكس- بيكو) عام 1917. فالتدجين نتاجُ التقسيم بما هو مُفاعل تعميق التخلّف، وتعزيز العصبيات العشائرية والطائفية والمذهبية، ورعاية منظومات حاكمة ومتحكّمة، حوّلت العلاقات السياسية داخل الأقطار إلى مجموعة تسويات زبائنية لتقاسم المصالح والمغانم والنفوذ، وتقبّلت التدخلات الخارجية ووظفتها في نزاعاتها المتناسلة على السلطة. في المقابل، عبّرت التظاهرات والحراكات الشعبية المتجاوبة مع المقاومة الفلسطينية، عن إرادة شعبية عارمة لتجاوز ضغوط السلطات الحاكمة وقمعها وترهيبها، والانطلاق في مسار تحرري هادف. كل هذه التحوّلات تؤشر إلى تغيّر في موازين القوى داخل الأقطار المحيطة بفلسطين، سيكون له مفاعيل إقليمية مؤثرة ليس أقلها سقوط ما يُسمّى «صفقة القرن» ولجم سياسة التطبيع.
*ثانيةُ الحقائق أن فلسطين، قضيةً ومقاومةً، هي الجامع المشتَرَك الأفعل بين شعوب الأمة وأقطارها، بل هي مُفاعل الإيقاظ والتوعية والمقاومة. هذه الحقيقة ستنعكس بدورها على موازين القوى في الإقليم، ما سيؤدي، على الأرجح، إلى تحفيز وتعزيز التيار العروبي الاتحادي، لاسيما بين شعوب المشرق.
*ثالثةُ الحقائق أن الكيان الصهيوني سيلجأ، بعد الضربة القاسية التي سددتها له قوى المقاومة في سياق انتفاضة القدس والأقصى والمقاومة الصاروخية، وفي ضوء ممارساته العدوانية الوحشية في قطاع غزة، سيلجأ إلى اعتماد منهجية التدمير والاستئصال في محاولةٍ يائسة لوقف مسار النهوض العروبي، وتعاظم قوى المقاومة في الأقطار والمجتمعات، بقصد تأخير وتعطيل وتائر توسعها، وتضخيم تكلفة تمسكها بخطها الكفاحي، لحمل الطبقات الشعبية على رفض تحميلها هذه التكلفة، والنفور تالياً من المقاومة ومتطلبات استمرارها. غير أن نجاح قوى المقاومة في فلسطين، وقبلها في لبنان، بتحقيق انتصارات ميدانية لافتة، سيعزز إرادة الطبقات الشعبية في الصبر والصمود، ما يؤدي بدوره إلى تعزيز قدرات المقاومة على مواجهة الكيان الصهيوني، الآخذ بالتصدّع نفسياً وسياسياً والتراجع اقتصادياً.
*رابعةُ الحقائق أن الردّ الفلسطيني وبالتالي العربي على منهجية التدمير والاستئصال الصهيونية، سيكون من طراز أكثر تقدماً، ومعايير أكثر خشونةً، وطموحات أبعد مدى، ليس أقلها تنفيذ أحكام استراتيجية توحيد الجبهات، فلا يكون قطاع غزة وحده في مواجهة «إسرائيل» بل سنرى الصواريخ والقذائف تنهال عليها من سائر الجبهات في لبنان وسوريا وربما العراق أيضاً. أكثر من ذلك، سقطت مع سقوط «صفقة القرن» وأفول سياسة التطبيع مشروعات «حل الدولتين» و»الدولة الديمقراطية الواحدة» (لليهود والعرب معاً) ومخططات التعاون الاقتصادي الإقليمي. فالشعب الفلسطيني الذي ارتقى بمقاومته إلى مستوى الوحدة المتكاملة الصلبة، على مجمل التراب الوطني، لن يرضى بعد تعاظم مقاومته وانتصارها ورسوخ وحدته وتجاوب شعوب الأمة معه، بأقل من تحرير كامل فلسطين التاريخية من النظام الصهيوني العنصري، وعودة اللاجئين والنازحين تحت كل كوكب إلى الوطن المحرر، ليبني فيه دولته الديمقراطية المستقلة.
*الحقيقةُ الخامسة أن جميع التحوّلات والتطورات والتغيّرات الحاصلة والمرجّح حصولها في قابل الأيام، ستعزز التيار العروبي النهضوي المناضل من أجل تحرير الأمة وبناء دولتها الاتحادية تدريجياً وبثبات، من خلال مشروعات ومؤسسات وأجهزة السوق العربية المشتركة، والدفاع العربي المشترك، واتفاقات تنمية الصناعة واقتصاد المعرفة، والتعاون في ميادين التكنولوجيا والتواصل السيبراني، وتعزيز ثقافة الحرية والمعرفة والحوار وحقوق الإنسان، والتوجه شرقاً إلى عالم آسيا الناهض والواعد، بمزيد من الإبداع في شتى ميادين الحياة، من دون القطع مع الغرب وإنجازاته الحضارية.
بات واضحاً أن المقاومة وحلفاءها اهلٌ للمواجهة والانتصار.. غير أن الشرط الرئيس للخروج من تخلّفنا وتشرذمنا وضعفنا يبقى في اعتماد المقاومة ليس كخيار فقط بل كنهج وثقافة وطريق للنهوض والبناء.
كاتب لبناني