بعد أربعة أسابيع من المفاوضات الشاقة، وصلت في النهاية إلى طريق مسدود، وأعلن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو فشله في تكوين ائتلاف حكومي يحصل على ثقة البرلمان الإسرائيلي، «الكنيست»، وردَّ التكليف إلى الرئيس الإسرائيلي، رؤوفين ريفلين، الذي كلف من فوره يائير لابيد، زعيم حزب «هناك مستقبل»، ليشكِّل الحكومة. لكن من هو يائير لابيد؟ وما فرصه في أن ينجح فيما فشل فيه نتنياهو؟
يائير لابيد.. «الصحافي الملاكم» يخوض غمار السياسية الإسرائيلية
ولد يائير لابيد عام 1963 في تل أبيب، لعائلة سيكون لها الدور الأكبر في تشكيل أفكاره ونمط حياته، وحتى مستقبله السياسي فيما بعد، كانت أمه روائية وكاتبة مسرحية وشاعرة، وأبوه، يوسف لابيد، كان صحافيًّا علمانيًّا معروفًا بعدائه الشديد للأحزاب اليمينية، قبل أن يخوض غمار الحياة السياسية رئيسًا لحزب «التغيير»، ويتولى منصب وزير العدل ونائب رئيس الوزراء الإسرائيلي في الفترة بين 2003 و2004.
سار لابيد على نهج أسرته، فعمل صحافيًّا في كبريات الصحف الإسرائيلية مثل «معاريف» و«يديعوت أحرونوت»، وجرَّب كتابة الأغاني وكتابة السيناريو وحتى التمثيل، ونجح في بعضها جزئيًّا، وصدرت له بعض الروايات، وله شغف رياضي دفعه للانخراط في تدريبات لعبة الملاكمة، وفي عام 1994، دخل لابيد عالم التلفزيون، وصار من أهم مقدمي البرامج الحوارية في إسرائيل، ما أكسبه شعبية كبيرة في المجتمع الإسرائيلي.
في صيف عام 2011، اجتاحت إسرائيل سلسلة من الاحتجاجات المطالبة بإصلاحات اقتصادية واجتماعية، حينها غادر يائير لابيد عالم الشاشة ليدخل السياسة، ويُشكِّل في مطلع عام 2012 حزب «هناك مستقبل (يش عتيد)»، الذي وضع اهتمامات الطبقة الوسطى الإسرائيلية في صلب اهتماماته، وتجاوز حزب يائير لابيد التوقعات في انتخابات عام 2013، ليصبح الكتلة الثانية في الكنيست، وينضم بعد أسابيع من المفاوضات الشاقة إلى ائتلاف حكومي برئاسة بنيامين نتنياهو، وتولَّى لابيد حقيبة الاقتصاد لعامي 2013-2014.
نظريًّا، كان برنامج يائير لابيد السياسي والاقتصادي واعدًا للغاية للجماهير الإسرائيلية، فقد وعد بخفض بتحسين ظروف الإسكان، وإصلاح نظام التعليم، ومساعدة الشركات الناشئة، ودعا إلى الإلغاء التدريجي للقواعد التي تُعفي الإسرائيليين المتدينين من الخدمة العسكرية أو من العمل؛ إذ يحقُّ لهم أن يختاروا التفرغ لشؤونهم الدينية، ويعيشون على تبرعات مؤسسات خيرية ويستفيدون من سياسات الرفاه التي ترعاها الحكومة الإسرائيلية.
يتبنَّى حزب لابيد أجندة علمانية وليبرالية وحامية للاستيطان، ويعادي المتدينين الحريديم، ويرفض لابيد تقسيم القدس ويؤيد إبقاءها عاصمةً موحَّدةً لإسرائيل دون الفلسطينيين، وينصُّ برنامج حزبه على الدعوة إلى «حل الدولتين»، ولكنه حل دولتين مُفرغ من معناه؛ إذ يؤيّد لابيد إبقاء المستوطنات الإسرائيلية المتجاوزة لحدود عام 1967، ويوافق على دولة فلسطينية شريطة أن تكون بلا سلاح أو سيادة كاملة، ومثل بقية الساسة الإسرائيليين هدفه الأول تعزيز أمن إسرائيل على حساب أي شيء آخر، وفي هذا الشأن يصفُ نفسه بأنه «صقر أمني»، أما قضية اللاجئين فيمكنُ حلها، في نظر الحزب، بدفع تعويضات مالية للمُهجَّرين مع إسقاط حق العودة.
لم يمكث يائير لابيد طويلًا في حكومة نتنياهو، ولم يتمكن من تطبيق وعوده، واستطاع من خلفوه في الوزارة أن يُلغوا سياساته، ثم تلقَّى حزبه في انتخابات عام 2015 صفعة انتخابية بفقدان سبعة مقاعد، فعاد لابيد إلى صفوف المعارضة، قبل أن يشكِّل عام 2019 تحالفًا مع بيني غانتس، الجنرال الوافد على السياسة الإسرائيلية، وسمي التحالف بـ«أزرق أبيض»، ولكن غانتس لاحقًا انضمَّ لحكومة نتنياهو، وبذلك خرج يائير لابيد من هذا التحالف.
تحصَّل حزبُ لابيد، «هناك مستقبل»، على 17 مقعدًا ليحل ثانيًا بعد «الليكود»، في الانتخابات التشريعية في مارس (آذار) 2021، والآن، وبعد فشل نتنياهو في تشكيل ائتلاف حكومي، فوَّض الرئيس الإسرائيلي لابيد، ليحاول تشكيل تحالف عابر للتيارات السياسية المختلفة، هدفه إطاحة بنيامين نتنياهو من المنصب الذي تشبَّث به أكثر من 12 عامًا متصلة، في أطول مدة لرئيس وزراء في منصبه في تاريخ إسرائيل.
باختصار: المشهد السياسي في إسرائيل الآن
تشكل التحالف الداعم لنتنياهو في الانتخابات الأخيرة من حزب «الليكود» (حصل على 30 مقعدًا)، ويترأسه نتنياهو شخصيًّا، بالإضافة إلى ثلاثة أحزاب يمينية أكثر تطرفًا أبدت دعمها له، هي حزب «شاس» (9 مقاعد) الذي يمثل الشريحة المتدينة اليهودية ذوي الأصول الشرقية (السفارديم)، وحزب «يهودات هتوراة» (7 مقاعد) وهو حزب محسوب على طائفة من اليهود المتدينين الأصوليين من طائفة «الحريديم»، من اليهود الغربيين (الأشكناز)، فضلًا عن قائمة «الصهيونية الدينية» (6 مقاعد) التي تمثِّل المستوطنين بشكلٍ أساسيٍّ، ليصبح جملة ما حصده هذا التحالف هو 52 مقعدًا، واحتاج نتنياهو لتأمين تسعة أصوات أخرى على الأقل للوصول إلى 61 صوتًا اللازمين لتشكيل الحكومة.
في المقابل، تشكَّل تحالف فضفاض من الأحزاب الساعية لإطاحة نتنياهو من موقعه، في مقدمتها حزب «هناك مستقبل» (17مقعدًا) بزعامة لابيد، وحلَّ في المركز الثاني، فضلًا عن تحالف «أزرق أبيض» (8 مقاعد) بزعامة الجنرال بيني غانتس، الذي تحالف مع نتنياهو بعد الانتخابات السابقة، وحصل على منصب وزير الدفاع مع وعد بأن يتناوب مع نتنياهو على رئاسة الحكومة بعد عامين، رغم ما سبَّبه ذلك من الانشقاقات داخل حزبه، ولكنه عاد الآن ورفع راية العداء لنتنياهو الذي رأى غانتس أنه «غدر به» ولم يوفِ بوعوده معه.
يضم المعسكر المضاد لنتنياهو حزب «أمل جديد» (6 مقاعد)، وهو حزب أسسه جدعون ساعر، وزيرٌ سابق في حزب «الليكود»، خرج من الحزب بعد أن فشل في إطاحة نتنياهو في انتخابات داخلية مُني فيها ساعر بهزيمة كبيرة، لكنه لم ييأس وانشق وأسس حزبًا منفصلًا، وبالرغم من أن «أمل جديد» يمينيٌّ فإن الهم الأول لساعر وحزبه هو إطاحة نتنياهو من رئاسة الوزراء، مُنحيًا التعصب الأيديولوجي جانبًا في هذه المرحلة، وانضم أيضًا أفيجدور ليبرمان، زعيم حزب «إسرائيل بيتنا» (7 مقاعد) إلى قائمة منتقدي نتنياهو، وأعلن تأييده لترشيح يائير لابيد رئيسًا للوزراء بدلًا منه.
ويضمُّ هذا التحالف أيضًا أحزاب اليسار في إسرائيل، «حزب العمل» (7 مقاعد)، أقدم الأحزاب السياسية الإسرائيلية وأكثرها عراقة ولكنه ضعيف اليوم ومهددٌ بالانسحاب من المشهد السياسي، وحزب «ميرتس» (6 مقاعد)، الذي يرفض التمييز ضد عرب الداخل، ويناهض قانون يهودية الدولة، ويؤيد الانسحاب إلى حدود 1967 ووقف الاستيطان، في حين انضمت «القائمة العربية المشتركة» (6 نواب)، المكونة من ثلاثة أحزاب من عرب48 إلى قائمة معارضي نتنياهو، التي وصلت في مجملها إلى 57 نائبًا.
وفي المنتصف، بقيت كتلتان متأرجحتان، لم تحسم أمرهما بالانضمام إلى معسكر نتنياهو أو معسكر مناوئيه، هما حزب «يامينا» (7 مقاعد) بزعامة نفتالي بينيت، وهو يميني متشدد يوصف بأنه تلميذ لنتنياهو، يشاطره التوجه السياسي، وإن كان ينتقد إدارته للبلاد، وشغلَ عدة مناصب وزارية في حكومات نتنياهو السابقة، لكن تراجع تأييده في العامين الأخيرين، فضلًا عن «القائمة العربية الموحدة» (4 مقاعد) بزعامة منصور عباس، الذي انشق عن «القائمة المشتركة» ليخوض الانتخابات بقائمة جديدة، بعد اتهامه من قِبل باقي الأحزاب العربية بـ«القرب من نتنياهو».
لابيد يقود تحالفًا مشتتًا بعد فشل نتنياهو
بعد ثمانية أسابيع من المحاولات المضنية، انتهت المهلة القانونية لنتنياهو لتشكيل حكومة جديدة، وأبلغ الرئيس الإسرائيلي رؤوفين ريفلين في 4 مايو (أيار) 2021 بفشله في تشكيل ائتلاف حكومي، وألقى الكرة في ملعبه ليختار شخصية أخرى تقوم بمحاولة جديدة لإنجاز «المهمة المستحيلة».
فشلُ نتنياهو يأتي بعد محاولات مضنية لتوسيع القاعدة الداعمة له للحصول على 61 صوتًا من أصل 120 عضوًا هم مجمل أعضاء الكنيست، وبالرغم من أن نتنياهو حاول الاستفادة من منصور عباس و«القائمة العربية الموحدة» بأصواتها الأربعة، للحصول على دعم «من الخارج»، أي دعم بالتصويت دونَ أن تكون لهم حقائب وزارية في الحكومة، وبالرغم من الأنباء التي تحدثت عن تنسيق بين «الليكود» و«قائمة منصور عباس» لتأمين هذا الدعم، فإن تحالف «الصهيونية الدينية» ضمن التجمع المؤيد لنتنياهو سدَّ الطريق أمام هذه الخطوة التكتيكية، وأعلن رفضه القاطع لحكومة تشارك فيها أو تدعمها قائمة فيها منصور، بذريعة أن حركته «تدعم الإرهاب».
العامل الثاني لفشل نتنياهو، عجزه عن إقناع حزب «يامينا» بقيادة تلميذه السابق نفتالي بينيت في الانضمام للائتلاف؛ ومن ثم تكوين «حكومة يمينية» خالصة، بالرغم من أن نتنياهو حاول تقديم تنازلات منها أن تكون رئاسة الحكومة المقترحة بالتناوب؛ إذ يتولى بينيت رئاسة الوزراء في العام الأول، ثم يخلفه نتنياهو، ولعل أحد أسباب الفشل في الاتفاق هو الخلاف الشخصيُّ بين الرجلين؛ إذ يرغب بينيت في إنهاء حقبة نتنياهو في السياسة الإسرائيلية، بالإضافة إلى «العروض المغرية» التي تلقاها بينيت من المعسكر الآخر، وبحسب تقرير لهيئة الإذاعة الإسرائيلية الرسمية، «ألقى حزب الليكود باللوم على نفتالي بينيت متهمًا إياه بعدم الالتزام بتأليف حكومة يمين».
طلب نتنياهو العون من زملائه السابقين في «الليكود»، وعمل على استمالة حزب «أمل جديد» بزعامة جدعون ساعر، للانضمام إلى ائتلاف حكومي برئاسته، ولكن ساعر رفض العرض، ودعا نتنياهو إلى اعتزال الحياة السياسية. وحاول نتنياهو بطرق أخرى، فتلقى بعض النواب دعوات للانشقاق عن حزب «أمل جديد» والانضمام إلى «الليكود»، ولكن المحاولة فشلت، ومعها انتهت مدَّة نتنياهو القانونية لتشكيل الحكومة.
طريق يائير لابيد لتشكيل الحكومة «ليس مفروشًا بالورود»
بالرغم من أن الكرة الآن صارت في ملعب زعيم المعارضة يائير لابيد، لتشكيل الحكومة، وطي صفحة نتنياهو إلى الأبد، فإن مهمة لابيد ليست أقل تعقيدًا من مهمة غريمه، فبالرغم من أن المعسكر المناهض لنتنياهو لديه عدد أكبر من الأصوات (57 في مقابل 52)، فإنه يضم خليطًا غير متجانس من الأحزاب الصغيرة ذات الأجندة المتباينة، التي اتفقت على رفض نتنياهو ولا شيء سوى ذلك، ما يجعلها أكثر عرضة للانشقاقات، والرضوخ لمزايدات الأصوات الأكثر تشددًا، فيما يرى بعض اليمينيين فيها أن يائير لابيد «يساري للغاية» ولا يستطيع تكوين حكومة بديلة.
تركيز لابيد الأساسي سينصب على محاولة ضم «يامينا» (7 أصوات) بزعامة نفتالي بينيت، وقد تلقى الأخير عرضًا من لابيد لتشكيل حكومة تناوب، يتعاقب على رئاستها كل من زعيمي حزبي «هناك مستقبل» و«يامينا»، على أن يتولى بينيت المنصب أولًا، ويلقى هذا الاقتراح دعمًا من حزب جدعون ساعر الذي سيسره أن يرى رفيقه اليميني نفتالي بينيت على رأس الحكومة.
ولكن هل يمكن لهذا الترتيب أن يرى النور؟ سيتطلب ذلك أن يغض حزب «ميرتس» الطرفَ عن الدور الكبير الذي سيلعبه حزب نفتالي بينيت اليميني في الحكومة، كما سيتطلب إخماد الأصوات الأكثر تشددًا في حزب «يامينا» نفسه، إذ نقلت وسائل إعلامية عن عميحاي شيكلي، عضو الكنيست عن حزب «يامينا»، اعتراضه على تشكيل تحالف مع لابيد، معتبرًا أن ذلك انتهاك للوعود التي وعدها «يامينا» لناخبيه، والتي تضمنت «تشكيل حكومة يمينية، وعدم الجلوس في ائتلاف حكومي مع حزب «ميرتس» اليساري، وعدم تتويج لابيد رئيسًا للوزراء حتى في إطار صفقة تناوب».
وربما يحاول يائير لابيد حشد الدعم من قائمة منصور عباس، وإن أبدى الأخير استعداده للتعاون مع «أي مرشح لديه تفويض» لتشكيل الحكومة، ما قد يستثير الكتل اليمينية الموجودة في التحالف المناهض لنتنياهو، بالإضافة إلى عدم ضمان أن تحصل حكومة لابيد على كل الأصوات العربية، فخطابات التوصية التي وجهتها الأحزاب العربية إلى الرئيس لتفويض لابيد، اشتملت على توقيعات خمسة من أعضاء «القائمة المشتركة»، في حين اعترض عضو عربي على التوصية بأي مرشح.
وإذا ما فشل يائير لابيد في تشكيل ائتلاف حكومي، فيحقُ للرئيس أن يختار أيَّ عضو في الكينيست ليفوضه بتشكيل الحكومة، أو تبدأ التحضيرات لانتخابات مبكرة، ستكون الانتخابات الخامسة خلال عامين فقط، أو ربما سيكون على الفرقاء السياسيين إذا ما أرادوا تجنب هذا السيناريو، دراسة مقترحات أخرى «خارج الصندوق»، مثل أن يتم انتخاب رئيس الوزراء مباشرة عبر الأصوات الشعبية، وليس عبر الكنيست، وهو الاقتراح الذي طرحه حزب «شاس» اليميني، ربما بدعم من نتنياهو، الذي يحاول الحفاظ على منصبه في رئاسة الوزراء بأي ثمن.
(ساسة بوست)