بدأت الدماء تسري في عروق العلاقات بين مصر وإسرائيل بعد سنوات طويلة قبل فيها الطرفان بسلام بارد بينهما، حيث فشلت كل محاولات تل أبيب في تحويله إلى ساخن أو دافئ، حتى فرضت بعض التطورات الإقليمية نفسها على مصر وجعلتها تتخلى تدريجيا عن ممانعاتها وتتجه نحو التطبيع الثاني.
وقام وزير الاستخبارات الإسرائيلي إيلي كوهين بزيارة إلى شرم الشيخ المصرية على رأس وفد ضم مدراء أكبر الشركات الإسرائيلية هذا الأسبوع، والتقى بمسؤولين أمنيين كباراً لتعزيز التعاون الأمني والاقتصادي، وبحث توسيع رقعة التجارة بين البلدين والتعاون في مجالات الزراعة والمياه والكهرباء والسياحة.
وارتاحت القاهرة إلى صيغة السلام البارد منذ قبولها بإبرام تسوية سياسية مع تل أبيب قبل حوالي أربعة عقود استردت بموجبها ما تبقى من أراض مصرية احتفظت بها إسرائيل مقابل تطبيع العلاقات وضمن تفاهمات عسكرية معينة.
ومكنت صيغة السلام البارد من امتصاص غضب تيار شعبي جارف وقف ضد توقيع اتفاقية سلام مع إسرائيل، ونجح في كبح خطوات توسيع نطاق التطبيع الأول معها، وأسهم ذلك في توفير شبكة أمان سياسية للنظام في عهد الرئيس الراحل حسني مبارك والتفاعل بإيجابية مع القضية الفلسطينية كجزء أصيل في محددات الأمن القومي.
ويقول مراقبون إن القاهرة أدارت علاقتها مع تل أبيب بطريقة مرنة خلال السنوات الماضية، ساعدتها على ضبط الاندفاع في ملف التطبيع، وجنبتها الدخول في صدام مباشر مع إسرائيل في عدد من المحكات الرئيسية، حيث بالغت الأخيرة في انتهاكاتها للأراضي العربية في كل من فلسطين ولبنان وسوريا.
ويضيف هؤلاء أن نقطة التحول الأساسية جاءت مع توقيع إسرائيل لاتفاقيات سلام مع كل من الإمارات والبحرين والسودان والمغرب قبل نهاية العام الماضي تنص بنودها على تطبيع العلاقات مع الدول الأربع والتمهيد للدخول في شراكات إقليمية، ما يفقد مصر ورقة التطبيع التي كانت تختزلها.
وكشفت مصادر مصرية لـ”العرب” أن القاهرة لديها مصالح أمنية واقتصادية كبيرة مع إسرائيل بدأت تستثمرها حتى لا تكون بعيدة عن التطورات الإقليمية المتلاحقة وتتمكن إسرائيل من تحقيق اختراقات على الساحة العربية، ووضع توازنات تبدو فيها مصر عنصرا هامشيا في المنطقة.
وأشارت المصادر ذاتها إلى أن مصر التي ربطتها تفاهمات أمنية مع إسرائيل في الفترة الماضية بشأن تحركات عناصر إرهابية على الحدود المشتركة، قررت مد هذه المساحة إلى جوانب اقتصادية نوعية تتولى شؤونها أيضا في هذه المرحلة عناصر أمنية من الجانبين، ما يفسر رئاسة كوهين لوفد اقتصادي إسرائيلي في زيارته لشرم الشيخ.
وأكد أستاذ الدراسات العبرية بجامعة الإسكندرية أحمد فؤاد أنور أن تطور العلاقات على المستوى الاقتصادي وزيادة روابط التطبيع فيه لا تعني أن مصر قد تخلت عن ثوابتها بشأن القضية الفلسطينية، وعلى العكس سوف تستثمر انخراطها الجديد في هذا الملف لصالح الفلسطينيين لأن لديها قناعة بصعوبة حدوث تطورات إيجابية في المنطقة بعيدا عن تسوية قضيتهم.
وأوضح في تصريح لـ”العرب” أن الزخم الذي تقوم به القاهرة على الصعيدين الإقليمي والدولي لدعم الفلسطينيين يؤكد حرصها البالغ على وضع قضيتهم في المقدمة وتمهيد الأجواء للتوصل إلى تسوية مناسبة، في إشارة توحي بعدم الفصل بين التطبيع ومبادرة السلام العربية التي أطلقت في قمة بيروت.
لكن هذا الربط يحتاج إلى تفاهمات عربية وهي ممكنة سياسيا لأن الدول التي وقعت اتفاقيات سلام مع إسرائيل رافضة للتنصل من مسؤولياتها العربية التاريخية، كما أن التقدم على المسار الفلسطيني يزيل حرج بعض الدول التي أبدت استعدادا لتطوير علاقاتها وتخشى رد فعل الشارع في حالة عدم حدوث تقدم على المستوى الفلسطيني.
وقرأت مصر حركة الرياح في المنطقة وفهمت منعطفاتها الاقتصادية، ووجدت أنه من الحكمة استثمار ملف الغاز لتحريك ملف التطبيع إلى الوجهة السليمة، حيث يمثل الأول وما به من مصالح تربط إسرائيل بمصر عنصرا للضغط والتأثير عند الضرورة.
وعجّلت تحركات كثيرة في ملف غاز شرق البحر المتوسط من التقارب بين مصر وإسرائيل، وباتتا شريكين أساسيين في منتدى إقليمي واحد مهمته تعظيم مكاسب أعضائه والحفاظ على مصالحهم وتبني سياسات متقاربة لمواجهة التحديات.
وبدأت إسرائيل تصدير الغاز لمصر في بداية العام الماضي من خلال خط أنابيب يمر تحت البحر المتوسط قبل أن يعبر إلى شمال شبه جزيرة سيناء برا، وتوصيله إلى محطتين لإسالة الغاز في إدكو ودمياط بشمال القاهرة، وإعادة تصديره إلى أوروبا.
ويقود تفعيل مسارات الغاز إلى تقارب عملي بين مصر وإسرائيل، ويفتح المجال أمام تطبيع العلاقات ويحّول السلام من بارد إلى دافئ، وربما إلى ساخن عندما تستجيب إسرائيل إلى التحركات الرامية لتسوية عادلة للقضية الفلسطينية، ويصبح التطبيع الثاني قاسما مشتركا بين دول عديدة، وليس انفرادا مصريا كما حدث مع الأول.