بعد ثلاثة أشهر فقط من وصفها اتفاق التطبيع بـ"الخيانة" واعتباره "طعنة" في ظهر الأمة، قررت السلطة الفلسطينية إعادة سفيريها اللذين استدعتهما من أبوظبي والمنامة تباعاً للرد على إعلان العاصمتين الخليجيتين إقامة علاقات مع دولة الاحتلال الإسرائيلي.
وكانت السلطة الفلسطينية قد استدعت سفيرها لدى أبوظبي فور إعلان الرئيس الأمريكي دونالد ترامب التوصل لاتفاق التطبيع، منتصف أغسطس الماضي، ثم أتبعته بسحب سفيرها من المنامة، في سبتمبر من العام الجاري.
واستقبلت القيادة الفلسطينية موجة التطبيع العربي بالتنديد والاستنكار، وأكد الناطق باسم الرئاسة الفلسطينية نبيل أبو ردينة، في بيان تلاه عبر شاشة التلفزيون الرسمي (منتصف أغسطس) أن الاتفاق نسف المبادرة العربية للسلام.
هجوم حاد ومهادنة سريعة
ووصف أبو ردينة اتفاق التطبيع بأنه "خيانة للقدس والأقصى وقرارات القمم العربية والإسلامية والشرعية الدولية وعدوان على الشعب الفلسطيني".
كما اعتبر مسؤولو السلطة الاتفاق "تنفيذاً فعلياً لصفقة القرن الأمريكية التي يرفضها الفلسطينيون بمختلف توجهاتهم"، وقالوا إنه يعني "الاعتراف بالقدس المحتلة كعاصمة لدولة الاحتلال".
وأفشل المحور الإماراتي البحريني مشروع قرار تقدمت به فلسطين للجامعة العربية وكان يدين اتفاق التطبيع، وهو ما أدى إلى إسقاط القرار في الاجتماع الذي عقد بطلب فلسطيني، في التاسع من سبتمبر الماضي.
كما تعرضت السلطة الفلسطينية، بسبب إدانتها التطبيع، لتهديدات من المنامة بالانضمام للاتفاق الإماراتي، وهو ما حدث في الحادي عشر من الشهر نفسه.
ورغم الموقف الإماراتي البحريني المناهض بوضوح للحقوق الفلسطينية فقد قررت سلطة رام الله استئناف العلاقات، ليس فقط مع أبوظبي والمنامة، بل مع دولة الاحتلال نفسها.
فقد كشف مسؤول فلسطيني، الأربعاء 19 نوفمبر، أن السلطة قررت إعادة سفيريها إلى الإمارات والبحرين، وذلك بعد يوم واحد من إعلانها عودة الاتصالات والتنسيق الأمني مع "تل أبيب" إلى ما كانت عليه قبل مايو 2020.
وأوقفت السلطة تنسيقها مع حكومة الاحتلال، في مايو الماضي؛ بسبب تمسك الأخيرة بضم مزيد من الأراضي المحتلة في الضفة الغربية وغور الأردن. لكن عضو اللجنة المركزية لحركة فتح، حسين الشيخ، الذي يرأس أيضاً الهيئة العامة للشؤون المدنية، قال إن عودة التنسيق جاءت بعد حصول رام الله على تأكيدات شفوية ومكتوبة بوقف هذه الخطط.
وتأتي القرارات الفلسطينية الأخيرة في وقت يعيش فيه محور التطبيع العربي هواجس كبيرة بعد خسارة الرئيس الجمهوري دونالد ترامب الانتخابات الرئاسية الأمريكية، ووصول الديمقراطي جو بايدن للحكم، وهو تغير سياسي يرى كثيرون أنه سيصب في صالح الفلسطينيين نسبياً وليس العكس.
تعامل وفق صفقة القرن
وتطرح الخطوة الفلسطينية تساؤلات بشأن مصداقية المواقف التي أعلنتها السلطة من اتفاقات التطبيع، وجديتها في التصدي لرياحه العاتية التي تستهدف اقتلاع القضية من جذورها، وتحويلها من قضية احتلال إلى مجرد خلاف بين أصحاب أرض واحدة.
وكانت صحيفة "إسرائيل هيوم" العبرية قد كشفت، في 19 نوفمبر 2020، أن العاهل البحريني الملك حمد بن عيسى، طرح استضافة المنامة لقمة فلسطينية إسرائيلية لاستئناف المفاوضات المتوقفة بين الجانبين منذ ستة أعوام.
وجاء عرض العاهل البحريني خلال القمة التي جمعته بنظيره الأردني الملك عبد الله الثاني، وولي عهد أبوظبي محمد بن زايد، في 18 نوفمبر، والتي تناولت قضايا إقليمية في مقدمتها قضية فلسطين.
وخلال زيارته الرسمية الأولى إلى "إسرائيل" قال وزير خارجية البحرين عبد اللطيف الزياني، في 18 نوفمبر، إن الصراع الفلسطيني الإسرائيلي يحتاج لسلام عادل وشامل يقوم على أساس حل الدولتين.
وتاريخياً عرفت القيادة الفلسطينية بعدم قدرتها على إكمال معاركها ضد الدول العربية ذات الثقل ولا سيما مصر والسعودية والأردن والإمارات؛ بالنظر إلى ما تملكه هذه الدول من أوراق ضغط على القضية الفلسطينية.
ويمتلك هذا المحور نفوذاً سياسياً ومالياً على القيادة الفلسطينية، فضلاً عن تحكمه بقرارات الجامعة العربية التي تعتبر الظهير السياسي الذي لا يمكن لفلسطين التخلي عنه.
وفضلاً عن الأهمية الاستراتيجية لمصر والأردن فإن السعودية والإمارات تقدمان -كغيرهما من دول الخليج- دعماً مالياً كبيراً للسلطة الفلسطينية ولوكالة غوث وتشغيل اللاجئين (أونروا)، فضلاً عن نفوذهما لدى الدول الكبرى.
التنسيق الأمني.. كلمة السر
أستاذ العلوم السياسية بجامعة الأزهر في غزة، د. مخيمر أبو سعدة، يرجع أحد الأسباب التي جعلت قيادة السلطة الفلسطينية تعيد سفراءها إلى الإمارات والبحرين إلى "إعادتها للتنسيق الأمني مع إسرائيل".
وفي حديثه لـ"الخليج أونلاين" يقول "أبو سعدة": "بعد إعلان السلطة إعادة التنسيق الأمني مع دولة الاحتلال والالتزام بالاتفاقيات الموقعة معها أصبحت القيادة الفلسطينية في موقف محرج أمام العرب، لذا أرجعت سفراءها للإمارات والبحرين".
ويعد موقف السلطة في إعادة السفراء غريباً، حسب أبو سعدة، خاصة أنه موقفها عند توقيع الإمارات والبحرين اتفاق التطبيع مع "إسرائيل" كان مهاجماً، حيث وصفت ما حدث بأنه "طعنة في ظهر الشعب الفلسطيني وخنجر مسموم".
وأشار إلى أن موقف السلطة بعد إعادة التنسيق الأمني"أصبح ضعيفاً جداً حين تطالب العرب بعدم التطبيع أو عقد أي اتفاقيات مع الاحتلال في ظل وجود علاقات لها".
ويستبعد الأكاديمي الفلسطيني أن تكون السلطة قد خضعت لأي ضغوطات من الإمارات لإعادة السفراء، مع تأكيده أن الملف يدار من السعودية ومصر والأردن، وهم الفاعلون في المنطقة ولهم علاقة بالموضوع الفلسطيني، حيث إنهم يرون المشكلة هي إيران فقط.
وشدد على أن قيادة السلطة مطالبة بتفسير إعادتها السفراء إلى الإمارات والبحرين، خاصة مع الحديث عن أنها تعاني من أزمة مالية وأصبحت معزولة.
تمهيد لمزيد من التطبيع
الكاتب والمحلل السياسي الفلسطيني وسام عفيفة يرى أن إعادة السفيرين إلى أبوظبي والمنامة يأتي ضمن سياق إعادة التنسيق مع حكومة الاحتلال، وهو ما يعكس سعي السلطة لصياغة رؤيتها لمشروع التسوية المرتقب وفق ما فرضته صفقة القرن وعمليات التطبيع من معطيات.
وأضاف"عفيفة" في تصريح لـ"الخليج أونلاين" أن هذه الخطوة خطيرة؛ لكونها تشرعن خطوة التطبيع الأخيرة التي كانت قبل أيام في قفص الاتهام الفلسطيني الرسمي، وتتجاوز مبادرة السلام العربية إلى الأمر الواقع المتمثل في صفقة القرن.
هذا التصرف من جانب السلطة، برأي عفيفة، يبرر خطوات التطبيع ويجعل الإمارات والبحرين وغيرهما في الجانب الصحيح كما كانوا يدّعون عندما قرروا التطبيع مع "إسرائيل"، وهو أيضاً يمهّد الطريق أمام دول أخرى ربما تخشى التطبيع مخافة النقد الفلسطيني.
كما أن السلطة تحاول من ناحية أخرى تهيئة الطريق أمام الرئيس الأمريكي الجديد جو بايدن، وهي خطوة سلبية جداً؛ لأنها "سترفع عن الإدراة الأمريكية المرتقبة عبء إصلاح ما أفسدته إدارة ترامب"، برأي عفيفة.
ويرى المحلل الفلسطيني أن تقديم هذا الشيك على بياض لبايدن "لا يقوي موقف السلطة وإنما يضعفه ويريح إدارة واشنطن الجديدة من محاولة إقناع رام الله بإظهار بعض المرونة في التعاطي مع أي مقترح جديد بشأن القضية".
وخلص إلى أن ما يجري حالياً يعطي مؤشراً خطيراً على أن مصلحة السلطة أصبحت مقدمة على مصلحة القضية نفسها؛ لكون "القيادة تهتم بتوفير الغطاء المالي الذي يضمن استمرارها عبر تقديم تنازلات تضر بالقضية ككل".
وكانت سلطة الاحتلال قد أعلنت، في 19 نوفمبر 2020، عقد اجتماع مع مسؤولين فلسطينيين بمدينة رام الله في الضفة الغربية المحتلة، وذلك في أول لقاء يجمع الطرفين منذ نحو عام ونصف.
وقال الشيخ في تغريدة على حسابه في موقع "تويتر": "عقدتُ اجتماعاً مع الجانب الإسرائيلي تم التأكيد فيه على أن الاتفاقيات الموقعة بين الطرفين، والتي أساسها الشرعية الدولية، هي ما يحكم هذه العلاقة".
وشهدت السنوات الأربع الماضية تدهوراً حاداً للموقف الفلسطيني؛ في ظل انحياز ترامب الكبير إلى جانب الاحتلال، واعترافه بالقدس عاصمة لـ"إسرائيل"، فضلاً عن طرحه صفقة القرن التي اعتبرها كثيرون بمنزلة تصفية للقضية.
وقوبل الرفض الفلسطيني لخطوات ترامب بردود أكثر عنفاً من ساكن البيت الأبيض الذي علق الكثير من أوجه التعامل مع السلطة، وجمد الإعانات التي تقدمها واشنطن لأونروا، قبل أن يضغط مؤخراً لإبرام اتفاقات التطيبع الأخيرة.
(الخليج اون لاين)