2024-11-27 01:41 م

بشائر بايدن.. هرولة عواصم الاستبداد العربي لتقديم تنازلات للرئيس الأمريكي

2020-11-10
يقول علماء المنطق إن واحدًا من أخطاء التفكير الشائعة، هو الاعتقاد بأن مجرد التقاطع الزمني بين حدثين (Correlation) يعني أن أحدهما يؤثر في الآخر، سببيًا، ويضرب في شرح تلك الفكرة المثال الشهير الخاص بتزامن صياح الديوك مع انشقاق الفجر من قلب الليل، فرغم هذا التزامن الظاهري، فإن بزوغ الفجر ليس مرتبطًا بصياح الديك.
هذا هو الخطأ الشائع، وهذه هي القاعدة. التزامن بين حدثين قد يعني أن هناك علاقةً بينهما، وقد لا يعني ذلك، وما يرجح كفة القطع بوجود علاقة تأثير وتأثر بين الحدثين من عدمها، بالإضافة إلى الخبرة المتراكمة، هو ما يعرف بـ”القرائن المصاحبة”، وفيما يخص موضوعنا، فإن القرائن ترجح وجود علاقة سببية حقيقية بين الحدثين، وأن ما نراه ونسمعه ليس مجرد تزامن اعتباطي ظاهري.
الحدث الأول: هو ترجيح استطلاعات الرأي التي أجريت قبل الانتخابات الرئاسية الأمريكية انتصار مرشح الحزب الديموقراطي جو بايدن، على نظيره ذي التوجهات اليمينية والشعبوية دونالد ترامب، بسبب فشله في التعامل مع أزمة “كورونا” إلى الحد الذي جعله يصاب بالفيروس رغم إنكاره له، وما تبع ذلك الفشل من كساد اقتصادي عام ضرب البلاد، ثم تأكيد نتائج الفرز الأولية للمجمع الانتخابي تقدم بايدن على ترامب بفارق طفيف، واقترابه من البيت الأبيض لأربع سنوات قادمة.
الحدث الثاني: هو تأثر بعض العواصم العربية ذات التوجهات الاستبدادية التي كانت تتلاقى مع سياسة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، بخبر ارتفاع أسهم المرشح الديمقراطي جو بايدن، سلبًا، وعلى نحو سريع، بشكل أدى إلى تقديم تنازلات سياسية، تتناسب مع مقتضيات هذه الحقبة الجديدة، وتبرهن على الفارق النسبي بين آثار وصول كل مرشح من المتنافسين على تفاصيل دقيقة في الحياة اليومية للمواطن العربي.. فماذا حدث؟ ولماذا نرجح أنه ليس صدفةً؟

مصر
اختلفت آراء المحللين السياسيين إيذاء تأثير وصول رئيس ديمقراطي، جو بايدن تحديدًا، على المشهد الداخلي المتأزم منذ سبع سنوات في مصر، فمنهم من بالغ في تقدير قدرة بايدن على إثناء السيسي عن سياساته القمعية، مستشهدًا بانقضاء شهر العسل بين ترامب والسيسي، حيث كان يعتبره الأول “ديكتاتوره المفضل”، مفسحًا أمامه المجال، علنًا، لسحق خصومه، وهو ما بشَر بايدن نفسه بانقضائه مؤكدًا “لا شيكات جديدة على بياض لديكتاتور ترامب المفضل”.
ومنهم، هؤلاء الباحثين، من سطح هذا التأثير وقلل من أهميته، مستندًا إلى نجاح مصر السيسي في فتح قناة اتصال “إستراتيجية” مع الصين، غريمة الولايات المتحدة التقليدية، وهو ما يمثل ضغطًا على واشنطن، التي قد تخسر القاهرة نفسها لا السيسي، إذا بالغت في الضغط على الإدارة المصرية، كما عززوا هذا التقدير بالإشارة إلى نجاح القاهرة، أيضًا، في تعزيز علاقاتها، مؤخرًا بـ”إسرائيل”، حيث من المعروف أن للبيت الأبيض مداخل عديدة، أوسعها وأقربها خطب ود الدولة العبرية، وهي النظرية التي بني عليها التقارب العربي الإسرائيلي مؤخرًا.
لا يمكن الجزم بنجاح أي من الرأيين حاليًّا، لكن المؤشرات الأولية ترجح وجاهة الرأي الأول الذي يقول إن الرئيس المصري القابع في قصر الاتحادية مني بصدمة كبيرة برحيل صديقه ترامب، وأنه سيحتاج إلى تقديم تنازلات برجماتية لتسيير أموره في المرحلة المقبلة التي ستتقاطع، على الأقل، مع أربع سنوات من حكم بايدن الذي قطع على نفسه عهدًا بالضغط على الرئيس المصري.
ففي يوم الثلاثاء الماضي، وبالتزامن مع زخم الانتخابات الأمريكية، أمرت محكمة مصرية بإخلاء سبيل جميع المتهمين القضايا التي عرضت عليها، ويقدرون بمئات المعتقلين السياسيين في قضايا تظاهر حاشدة ضد حكم السيسي خلال الأعوام الماضية.
بعد صدور هذا الحكم الذي وصفه أحد أشهر المحامين المدافعين عن المعتقلين من ذوي الميول الإسلامية، خالد المصري، بأنه “يوم تاريخي”، قلل عدد من المحللين المتابعين للشأن المصري منه، معتبرين أنه مجرد مصادفة مع الحدث الأمريكي، ليس أكثر، مستعينين بشواهد سابقة على إفراج القضاء المصري عن دفعات كبيرة من المعتقلين، على أن تقوم النيابة بالاستئناف على أحكام الإفراج، وهو ما يعني إعادة إجراءات التقاضي، بدلًا من إخلاء سبيلهم.
لكن كانت المفاجأة صباح اليوم التالي: نيابة أمن الدولة العليا قررت عدم الاستئناف على جميع قرارات إخلاء سبيل المعتقلين السياسيين، وهو ما يعني، قانونيًا، بداية إجراءات خروجهم من السجون وعودتهم إلى منازلهم، بعد فحصهم “روتينيًا” في عدد من الجهات الأمنية، وأن الأمر ليس صدفةً، بالنظر إلى ما هو معروف عن تدخل النظام المصري في عمل الجهات القضائية، تشديدًا وتخفيفًا.
الشاهد الثاني على العلاقة بين وصول بايدن إلى السلطة ومراجعة النظام المصري سياساته الداخلية، كان إفراج النظام عن عائلة المواطن الأمريكي، والمعتقل السابق في مصر ونجل القيادي في جماعة الإخوان، محمد صلاح سلطان، بعد ساعات من الإعلان عن انتصار بايدن في الانتخابات، وقبل تهنئة السيسي، التي كانت أول تهنئة تصدر من رئيس عربي إلى الساكن الجديد بالبيت الأبيض، وللمفارقة، كان بايدن قد بشَر محمد صلاح سلطان قبل الانتخابات بالنظر في قضية أسرته، وقد سارعت السلطات المصرية إلى إعلام السفارة والخارجية الأمريكية والرئاسة، بهذا القرار فور صدوره.. فهل كل ذلك صدفة؟

الإمارات
أصدرت أبو ظبي عريضة إصلاحات وصفت بالتاريخية والثورية، عشية الإعلان عن انتصار مرشح الحزب الديمقراطي، جو بايدن، على حليفها، الذي ظن أن رعايته اتفاق سلام بين الإمارات و”إسرائيل” سيكون أحد أسباب بقائه في السلطة، لفترة رئاسية جديدة: دونالد ترامب.
ركَزت هذه العريضة على “الشخصي”، حيث لا مجال في الإمارات للحديث عن إصلاحات سياسية جوهرية، في ظل سيطرة خط معين من العائلة الحاكمة، على مقاليد الحكم، كما أن هذا النوع من الإصلاحات يروج له، خارجيًا، أنه يتناسب مع الهوية الليبرالية للإمارات والخصوصية السياسية للدولة.
تتضمن التغييرات الجديدة السماح للوافدين الأجانب، الذين يصل عددهم إلى نحو 9 ملايين نسمة، بالاحتكام لقوانين بلادهم في أمور الأحوال الشخصية، كالميراث والطلاق وتقسيم الأصول، بدلًا من التداخل مع القوانين المحلية للدولة، بالإضافة إلى تجريم قانون الانتحار القديم الذي كان يبيح مقاضاة من يحاول الانتحار، حال فشله في ذلك، مع توسيع شبكات الدعم النفسي الحكومية لمن يشعر أن لديه ميولًا انتحارية.
ومن ضمن ما جاء في هذه التغييرات، إلغاء القانون الذي كان يقضي بمعاقبة أي شخص يحاول تقديم المساعدة لشخص آخر بشكل يؤدي إلى وفاته، حيث يمكن للأشخاص، الآن، تقديم المساعدة لنظرائهم من سكان الإمارات في الظروف الطارئة، كالحوادث والإغماء والنوبات القلبية، دون التعرض إلى أي عقاب، حال خرجت الأمور عن السيطرة.
كما خصصت “الإصلاحات” الإماراتية الجديدة بابًا واسعًا للمرأة كما هو متوقع، ومن ذلك تغليظ العقوبات على الذكور الذين يعتدون على المرأة تحت شعار “جرائم الشرف”، حيث باتت هذه الحوادث جزءًا من قانون العقوبات بدلًا من الثغرات القانونية التي تتيح للمتهمين طلب أعذار مخففة، وجرى تشديد العقوبات على الرجال الذين يثبت تحرشهم بالنساء، وأقر القانون، للمرة الأولى، عقوبة نهائية، بالإعدام، لكل من يغتصب قاصرًا أو شخصًا من ذوي الاحتياجات الخاصة. وفي زاوية أخرى، أفسحت القوانين الجديدة المجال أمام استهلاك الخمور، شربًا وبيعًا، لمن هم أكبر من 21 عامًا، والسماح بالتشارك في السكن لغير المتزوجين.
قد تبدو لك معظم هذه التغييرات متناقضةً، سواء مع الطابع الإسلامي للدولة أم الهوية الثقافية القبلية للمجتمع أم في خلوها من أي إصلاحات سياسية، وذلك لأنها موجهة، في الأساس، إلى الإعلام الغربي، وتدخل ضمن دائرة “ما يمكن تغييره”، بالتزامن مع قدوم رئيس أمريكي جديد، يصنف، في بعض الأدبيات السياسية، أنه من اليسار التقدمي، ذي الميول الثقافية المنفتحة، ولعل هذه العلاقة بين وصول بايدن إلى السلطة والقوانين الإماراتية الأخيرة، ظهرت، أيضًا، في تغير الخطاب السياسي المقرب من حكام الإمارات (مستشارو ابن زايد مثل عبد الخالق عبد الله ومحمد دحلان) بالترحيب بالرئيس الجديد، بعد أن كان محل هجوم، بالنسبة لأرباب هذا الخطاب، إذا ما قورن بترامب، إبان المنافسة.

السعودية
المملكة العربية السعودية كانت سباقة في تقديم تنازلات نوعية، تدخل ضمن أقصى المتاح، أيضًا، بالتزامن مع مؤشرات صعود سهم بايدن على نظيره ترامب، بشكل تال، زمنيًا، على الخطوات المصرية، وسابق على الإصلاحات الإماراتية، وإن كانت جميعها تدخل في نفس السياق: زخم الانتخابات الأمريكية وترجيح كفة بايدن.
أخرجت الرياض ملفًا ضخمًا وعتيقًا من أدراجها الحكومية لتسترضي بايدن كما يبدو. الورقة الأخيرة، التي طالما طالب إصلاحيون، في الداخل والخارج، بالنظر إليها، لأنها لم تعد ملائمة لروح العصر ولا قيم الإسلام ومقاصده، وهو نظام الكفيل أو العبودية الحديثة، كما يسميه حقوقيون.
التغييرات التي طرأت على نظام الكفيل جاءت برعاية وزارة الموارد البشرية والتنمية الاجتماعية، يوم الأربعاء الماضي، تحت شعار: تحسين العلاقة التعاقدية، حيث ستسمح المبادرة الجديدة للوافد بالانتقال من عمل إلى عمل لآخر بعد انتهاء عقد عمله الأول، دون الحاجة إلى موافقة صاحب العمل، كما تسمح له بالخروج من المملكة والعودة إلى العمل، بمجرد إخطار صاحب العمل إلكترونيًا.
ومن المنتظر أن تجري، بموجب المبادرة الجديدة، مراجعة عقود العمل بالنسبة للوافدين، لتقليص الفجوة بينهم وبين نظرائهم السعوديين الذين قد يقومون بأداء نفس الوظائف برواتب أعلى، لا لأنهم أكثر كفاءة، وإنما لأنهم سعوديون فقط، مما يساهم في تحقيق عدالة أكبر في سوق العمل، وصولًا إلى أحقية الوافد بالخروج النهائي من الدولة، بعد انتهاء عقده، دون انتظار موافقة صاحب العمل أو حتى الخروج خلال سريان العقد، مع تحمل عواقب الخروج مثل فسخ التعاقد، إضافة إلى امتيازات أخرى كان الوافدون محرومين منها، مثل الحصول على قرض أو شراء سيارة شخصية.
التطور الأحدث والأكثر دلالة على علاقة تقدم بايدن في الانتخابات على التوجهات السعودية الجديدة، ومخاوف العائلة السعودية الحاكمة من تهديدات بايدن إيذاء فتح ملفاتها الخطيرة، مثل الحرب على اليمن واغتيال الصحفي المعارض جمال خاشقجي في إسطنبول، كان قرار الملك سلمان بن عبد العزيز إرسال شحنة مساعدات إنسانية إلى تركيا، للتخفيف من الآثار الناجمة عن الزلزال الضخم الذي ضرب بحر إيجة، وخلف أعدادًا كبيرة من الضحايا في مدينة إزمير التركية.
اللافت في الأمر أن السعودية غضت الطرف عن الآثار الناجمة عن الزلزال لمدة أسبوع كامل، حيث وقع الزلزال الجمعة قبل الماضية، فيما نشرت الصحف السعودية قرار الملك سلمان الجمعة الماضية، قبل ثلاثة أيام من الآن، وبالتزامن مع أخبار حسم بايدن معركة الانتخابات وهزيمة منافسه الذي تعهد بحماية ولي العهد السعودي من العدالة الأمريكية ضمن معادلة المال مقابل الحماية، وبعد نحو شهر من إعلان السعودية نفسها حملة موسعة لحصار الاقتصاد التركي عبر مقاطعة منتجاته، واستبدالها بمنتجات أخرى مستوردة من دول معظمها معاد لتركيا.
هذه الخطوة كان قد تنبأ بها كتاب حاذقون سبتمبر/أيلول الماضي، مثل علي بكير، قبل شهرين من الانتخابات، ضمن سيناريوهات تقدم بايدن، أي أنها لم تكن خطوةً مفاجئةً، لكن المؤكد أنها تلقي بالكرة، نسبيًا، في ملعب أنقرة التي قد تحتاج إلى خدمات الرياض أو إلى تحييدها على الأقل في الفترة القادمة، في ظل احتمال توتر العلاقات التركية الأمريكية بعد قدوم بايدن، الذي كان قد سبق ولوح بالعمل مع المعارضة التركية لإزاحة حزب العدالة والتنمية من الحكم في تركيا، ولعل المعيار الأهم في تحديد وجهة الأتراك القادمة، قد يكون قبول هذه المساعدات من عدمها، حيث سبق وأعلنت وسائل إعلام تركية رفض السلطات عرضًا إسرائيليًا بالمساعدة في هذه الأزمة.. فماذا ستفعل مع الرياض؟

الخلاصة
لا يمكن بحال اعتبار كل هذه القرائن مصادفة أبدًا، وإلا لن يكون هناك معنى للتحليل السياسي إذًا، فكل هذه القرارات التي تنتمي إلى مجال نفسي وسياسي واحد: التراجع ومحاولة امتصاص الصدمة، جاءت متزامنة معًا بشكل متناسق، في نفس توقيت تغير حاكم البيت الأبيض وقدوم حاكم ذي توجهات مختلفة نسبيًا، ومن المعروف سلفًا أن بين هذه العواصم العربية الثلاثة الكبرى، تنسيقًا سياسيًا على المستوى الإستراتيجي.
خلافًا لما يدعيه كثير من المحللين من ذوي الطابع الدعائي، فما زالت الإدارة الأمريكية تمتلك من النفوذ، والاهتمام في حالة بايدن، بالتأثير الإيجابي الفعال على صناع السياسة في العالم العربي، الذين ما زالوا أيضًا، يخضعون لهذا التأثير بشكل ملحوظ، سواء لتعارض سياساتهم مع متطلبات الاستقلال الوطني أم خطاياهم السياسية التي تكلفهم فواتير كبيرة، كما هو الحال بالنسبة للسعودية.
كما هو متوقع، تركز الأنظمة العربية في تنازلاتها على الإصلاحات الشكلية والمؤقتة، التي لا تسمن ولا تغني من جوع، ولا تخاطب الداخل العربي بقدر ما تخاطب الدعاية الغربية ذات التوجهات اليسارية والليبرالية، وهو ليس أمرًا محبطًا فحسب، وإنما مهين ومبتذل، ويعني أن هذه الأنظمة ما زالت تفكر بعقليات الماضي القريب، الذي ثار عليه الشباب العربي.
ليس من المنتظر أن يقوم بايدن، أبدًا، بالإطاحة بهذه الأنظمة، فالرجل كان نائبًا لأوباما في الفترة التي شهدت الانقلاب العسكري في مصر يوليو/تموز 2013 ومجزرة رابعة العدوية ومجزرة الغوطة، ويعتبر سياسيًا مؤيدًا بشدة للاحتلال، بالإضافة إلى أنها ليست مهمته، لكن، في نفس الوقت، فإن هناك فرصة أمام المجتمع المدني والمعارضة في الدول العربية، لاستغلال هذه السنوات الأربعة القادمة، في تطوير أدواتها في معاركها السياسية ضد هذه الأنظمة الاستبدادية، خاصة أن هذه الأنظمة ألقت بثقل ما تظنه إصلاحات سياسية فور إحساسها بالخطر، وهو ما يعني أن القادم، إذا أحسنت إدارته، قد يكون أفضل.
المصدر: نون بوست